أرشيف المقالات

الموسيقى الشرقية

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 بقلم منير الجم الطرابلسي - 1 - اطلعت بالأمس على مقالين ممتعين في (الرسالة) الغراء حول فن الموسيقى: أحدهما للأستاذ قدري حافظ طوقان، والآخر للأستاذ عبد العزيز البشري، فسرني منهما أن يطريا فن الموسيقى العربية، ويتغنيا بعبقرية من اشتغلوا بهذا الفن الجميل من قدامى ومحدثين؛ أقول وأؤكد القول: بأنني جد مغتبط بمقاليهما كعزاء للفن المغبون.
ولقد رغبت ان أشاركهما فيما أبدياه من العواطف السامية نحو موسيقانا، فكتبت في عجالتي هذه نبذة عامة عن تطور الموسيقى الشرقية في العهد الأخير، وما طرأ عليها من الإصلاح والتجديد، كموسيقى يغار على الفن، ويؤدي نحوه الواجب المحتوم - 2 - كانت الموسيقى في جميع العصور مقياساً لروحية الأمم، ورمزاً لأخلاقها ورقة طباعها، وإذا كان للشعر والأدب والنحت والتصوير وغيرها من الفنون منزلة سامية في النفوس، فللموسيقى رتبة أسمى وأعلى، وإذا كان لهذه الفنون أياد بيضاء على تهذيب الطباع الإنسانية، وصقل عواطفها، فأحر بالموسيقى أن تنال السبق في هذا المضمار، إذ تتعدى ذلك إلى شفاء بعض الأمراض، وطرد الهموم من النفوس، ومعالجة الحيوان والتلطيف من شراسته ووحشيته، فاسمها مقرون على الدوام بالروعة والاعتبار.
نشأت الموسيقى في دورها الأول مع الإنسان الساذج المقلد لمظاهر الطبيعة الفاتنة، فاندفع بميله الغريزي، وعواطفه الكامنة لإتقان هذا التقليد المستحب اللذيذ، حتى انقلب على مر العصور إلى فن جميل له مكانته بين الفنون. عنيت الأمم الغابرة من مصريين ويونان ورومان، وصينيين وهنود ويابان وفرس وعرب بالموسيقى عناية قصوى جعلتها تتطور في أحضانها بخفة ولباقة، حتى وصلت إلينا بحلة قشيبة؛ وما أن افترق الشرق عن الغرب حتى كانت موسيقى الشرق غير موسيقى الغرب؛ طارت الأولى في سماء الروح والعواطف، ثم ما لبثت أن هبطت قليلا، فلا هي بالهابط ولا هي بالصاعدة، متقلقلة بين الصعود والهبوط؛ وأما الثانية فلا تزال جادة في طريق المجد، تقطع مراحل وأشواطاً من التقدم، وغدت لدى الذوق الغربي أسمى وأشهى ما يلذ للسمع ويستطاب. - 3 - بعد أن انتقلت الموسيقى إلى العرب برعوا فيها، وجددوا ما بلي منها، وبقيت في عهدهم زاهية ببغداد ومصر والأندلس وغيرها من البلاد العربية حتى دالت دولة العرب، فقبعت في زاوية الإهمال حقبة من الزمن، تترقب من ينتشلها من وهدتها، ويقيلها من عثارها بعد ذاك العز والمجد، حتى قيض لها منذ قرون تقريباً من يذود عن حقها المهضوم ويرفع من شأنها ولو قليلا أمثال الأساتذة المرحومين: عبده الحمولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، وعبد الحي حلمي، والشيخ سلامة حجازي الذي نبغ في الغناء المسرحي وانفرد به، وكذلك احمد الليثي، وأمين بنايه، وإبراهيم سهلون، وغيرهم من عظماء الفن، ومشاهير الملحنين والعازفين الذين نهضوا بالموسيقى العربية نهضة مباركة لا بأس بها، وخاصة في قسم الغناء والإنشاد؛ ثم كان منهم النابغة المرحوم الشيخ سيد درويش الذي يعد من المجددين، وإليه يرجع الفضل في تعديل فن الغناء العربي تعديلا لطيفا، وهو الذي عنى بنغمة (الحجاز كار كردي) التركية، واستعملها في كثير من أغانيه وأدواره الخالدة، فزاد الفن بذلك عذوبة ورقة، وكان بحق آية في العبقرية والنبوغ.

وأخيراً جاء نابغتنا الشاب الأستاذ محمد عبد الوهاب وأمثاله، وهو مجدد بكل ما في الجدة من معنى، وقد أضاف إلى الفن ما أضاف من عبقرية فذة تتجدد، ونبوغ مضطرم يزكو، ولنا كبير أمل بجهوده الفنية التي ستسمو إن شاء الله بالموسيقى إلى أقصى مراتب النجاح. مازال الأستاذ محمد عبد الوهاب يخدم الفن خدمة يشكر عليها ويثاب، فجدد منه أصولاً، وأصلح فيه أنواعاً، ثم أضاف إليه أقساماً طريفة من الأنغام الإفرنجية، إلى غير ذلك من التجديد الموافق للذوق الشرقي والعربي، وغدت اسطوانات أغانيه تسمع حتى في بلاد أوربا بكل إعجاب، يشاركه في هذا التجديد نخبة صالحة من غواة الفن، وجمعيات ونواد فنية أسست في مصر وسوريا وغيرهما، يجاهدون جميعاً في تعزيز الموسيقى الشرقية لتستعيد مكانتها الأولى، ويكون لها الصدر في الموسيقى العالمية - 4 - هذا في مصر وسوريا وبعض البلاد العربية الأخرى، وأما في البلاد التركية، فقد وجدت الموسيقى الشرقية منتجعاً خصباً، فتطورت في سنين قلائل، حتى لتضاهي كل موسيقى عالمية، والحق يقال: أن للأتراك فضلا كبيراً على هذا الفن، فقد اخترعوا أنغاماً لم تكن تعرف من قبل، وحسنوها وهذبوا كثيراً من الألحان، وجعلوا في موسيقاهم أنواعاً منوعة من القطع الفنية الخالدة، ونبغ لديهم عظماء أفذاذ، أمثال الأساتذة المرحومين: حافظ، ومونلا عثمان، وقره قاض القديم، ووسيلاكي المغني المشهور، وعثمان بك، وعاصم بك، والطنبوري جميل بك، و (الكمنجاتي) طاتيوس، وواسلاكي، وغيرهم ممن أكسبوا الفن كنوزاً ثمينة لا تقدر، وقد جاء من بعدهم مجددون معاصرون فأدخلوا تحسينات جمة عليه، ولقحوا بعض أقسامه وأجزائه بشيء من الأنغام الإفرنجية اللطيفة، كما أنهم أضافوا فن تأليف الأصوات على فرع من موسيقاهم، ولا سيما دار الفنون والموسيقى في الأستانة، التي تعد في طليعة المجاهدين في سبيل ترقية الموسيقى الشرقية وتعزيزها. وأما في بلاد فارس والهند والصين وغيرها، فالموسيقى مازالت مهملة أو كالمهملة، إلا في بلاد اليابان وشرقي الصين فآخذة في التقدم السريع، غير أن الموسيقى الغربية طغت عليها، وتكاد تكون معها في صراع عنيف، حيث لكل منهما أحزاب ومشايعون، والغريب في الموسيقى الشرقية هناك أنها تكاد تضارع الأنغام العربية والتركية في اللهجة والأصول، فقد ذكر صديق لي أنه كان منذ بضع سنوات في بلدة شنغاي من أعمال الصين الشرقية، وبينما كان ماراً في حي صيني سمع أنغاماً عربية من مقام (الحجاز) فظن لأول وهلة أن العازف على الآلة ربما كان عربياً، وفرح لهذه المصادفة، ورغب أن يجتمع به، ولشد ما كانت دهشته حينما وجده صينياً عريقاً في الصينية، لا يدري من أمر العرب شيئاً، مما يدل على أن لإيحاء الشرق على سكانه في كل صقع أثره الشديد حتى بموسيقاه العذبة. - 5 - يعيب الغربيون موسيقانا بالجمود والتشابه والتكرار، ويتهموننا بقلة الأنواع الموسيقية، وعدم تأليف الأصوات، وإدماجها في القطعة الموسيقية جملة واحدة ولئن كان هذا النقص معيباً في موسيقانا، فإن قليلاً من الجهد والعناية يذهب به، وأنني لأرى أن هذا النقص الذي نعنيه لم يحصل من التهاون والإهمال، بل هي طبيعة الشرق الهادئ توحي لموسيقاه ألطف الأنغام الفردية العذبة. إنني لا أنكر على الغرب محسناته في موسيقاه، كلا، ولا أنكر عليه التجديد الفني الذي أضافه عليها، فجعلها في مراتب سامة تفوق حد الإبداع، كلا، ولا أنكر عليه أيضاً استفادة الموسيقى الشرقية والعربية من هذا الرقي والتجديد، ولكن ذلك لا يمنعني من الجهر بجمال الموسيقى الشرقية اللطيفة إذا ما بذلنا في سبيلها جهداً ومثابرة وإخلاصاً، ولا سيما وهي العذبة بأنغامها، الزاخرة بألحانها، الطافحة بأسمى العواطف والشعور.
.! - 6 - إننا إذا دققنا في الأنواع الموسيقية لدينا وجدناها ضئيلة جداً بالنسبة إلى غزارتها في الموسيقى الغربية، يؤيد ما يعيبنا به الغربيون وهي على التقريب كما يلي: الموشحة، الليالي، الدور، القصيدة، الغناء المسرحي، الطقطوقة، المواليا. فالموشحة: - قطعة غنائية من أرقى أنواع الغناء، إذا ما كانت متينة اللغة والمعنى، وليس كما يمسخها بعض المغنين بلغة ركيكة، وألفاظ سمجة، وتطويل جاف ممل.
الليالي: - (يا ليل يا عين) فهذه لا حدود لها، تابعة لشعور المغني أو العازف، وسمو إحساسه في الأنغام، وقدرته على الانتقال بينها بلباقة وأصول، حتى ينتهي إلى ما بدأ منه، وإذا كانت لموسيقانا مزية تنفرد بها، فتكون من هذه الناحية، إذ يعجز غيرها عن ترديد (الليالي) الإلهامية، وعزف (التقاسيم) الروحية ارتجالاً، ما لم تكن مسجلة ومخطوطة، أو محفوظة من سابق عهد. الدور: - قطعة غنائية مركبة من جزأين: الأول يسمى (مذهب)، والثاني (دور) وفي الأخير تتعدد الأنغام اللذيذة المثيرة للطرب والسرور، وما زالت الأدوار لها مكانتها في الموسيقى العربية، وهي آخذة في التقدم والرقي، من متانة في اللفظ، وطرافة النغم، مما يجعلها في الصف الأول. القصيدة: - قطعة شعرية تنشد بألحان معينة، وتكون عذبة مطربة إذا كانت محتوية على معان سامية وأنغام مؤتلفة، وقد أصبحت في الآونة الأخيرة من الأنواع الراقية نظماً ونغماً، يعالجها الشعراء والموسيقيون بكل همة ونشاط. الغناء المسرحي: - قطعة غنائية تمثيلية، لها أصول خاصة في الغناء، بحيث تتناسب الأنغام مع معاني كل جزء منها، وتوافق الغرض المقصود؛ فالعتاب - مثلاً - في بيت شعري له نغم يناسبه، وكذا الاستعطاف له لحن يوافقه، وتزيد بذلك وضوحاً وتأثيراً في النفوس؛ وقد عني الشعراء والموسيقيون بهذا الضرب من الغناء، فنظموا ولحنوا قطعاً تناسب المقام أمثال المرحوم أمير الشعراء شوقي بك، والأستاذ محمد عبد الوهاب، وغيرهما من غواة الفن، وهواته ومجدديه. الطقطوقة: - قطعة غنائية حاوية على مذهب ودور بسيط، فالمذهب هو القطعة الأولى منها اللازمة للدور في نهاية كل جزء من أجزائه، ولغتها على الغالب عامية، وهذا هو موضع العيب الفاضح فيها. المواليا: - وهو في نظري أشد جموداً من غيره، حيث الركاكة في الألفاظ، والترادف في المعنى الواحد للعشق والهيام المبتذل، ولا يخرج عن كونه أنيناً متواصلاً، ونواحاً مؤلماً، لا أثر للحياة فيه، وموجباً للحزن والأسف الشديد؛ ولدينا اليوم أيضاً نوع اسمه (المونولوج) أو (الغناء الوجداني) الذي اقتبس أخيراً من موسيقى الغرب، وقد برع فيه الأستاذ محمد عبد الوهاب وأبدع فيه أيما إبداع. - 7 - إن الأصوات تختلف في سيرها أثناء العزف أو الغناء، فتكون أنواعاً متنوعة يسمى كل منها نغماً، فالأنواع الموسيقية الآنفة الذكر يتركب مجموعها اليوم من أنغام كثيرة اختصر على أهمها: (1) نغمات السيكاه (2) نغمات العشيران (3) نغمات العجم عشيران: - أوج - عراق (4) نغمات الراست: راست، نهاوند، حجاز كار، حجاز كار كردي (5) نغمات الديكاه: البيات، حجاز، صبا، عشاق، بيات شورى (6) سيكاه (7) جهار كاه (8) حسيني، إلى غير ذلك من الأنغام الكثيرة المستعملة في الموسيقى العربية. وأما الأنواع الموسيقية لدى الأتراك فقريبة الشبه من العربية غير أن الأنغام لديهم أكثر وأغزر، زادت في مادة الموسيقى الشرقية زيادة تذكر، وخاصة عنايتهم الفائقة بتأليف القطع الفنية التي تعزف على الآلات، فهي بحق قطع خالدة جديرة بالإكبار والإعظام؛ ولقد استفادت الموسيقى العربية من هذه القطع الفنية الطريفة والأنغام الإضافية العذبة، ما جعلها مدينة إلى الموسيقى التركية مادة ومعنى، والأنواع المعروفة لدينا من هذه المعزوفات الفنية هي: البشرف، والسماعي، والدولاب فالبشرف: قطعة فنية غزيرة بالأنغام المنسجمة، مركبة من جزأين أو ثلاثة أجزاء أو أربعة، والجزء الواحد يسمى (خانه)، تعزف على الآلات الشرقية بواسطة (النوته) الرموز الاصطلاحية ضمن قوانين وأوزان محكمة كأوزان الشعر لا يمكن للعازف أن يشذ أو يخرج عنها، ويكون عزفها عادة أبطأ من (السماعي)، وهي على أنواع من الوزن والقياس والعزف، لا مجال لذكرها الآن. وأما (السماعي) فهو كالبشرف في أنغامه وتركيبه، غير أنه أصغر منه في مجموعه وأسرع في العزف، وله أوزان ومقاييس تختلف عنه، وأما (الدولاب) فهو قطعة فنية صغيرة بأوزان معلومة، تعزف عادة قبل الشروع في الغناء تمهيداً للنغم المنوي التغني به؛ وتوجد غير ذلك ضروب مختلفة، مقتبسة أصولها من الضرب: في الرقص والتمثيل والوصف.

الخ كالفالس - مثلاً -، والبولكة، والمارش من القطع الفنية المصورة لنوازع النفس، ومظاهر الطبيعة الفاتنة، ووحي جمالها السامي تصويراً دقيقاً موافقاً بعد تعديلها للذوق الشرقي؛ ومن جملة ما اقتبس من الموسيقى الغربية: الرموز أو العلامات الموسيقية (نوته) التي تكتب بها المعزوفات الفنية، فخدمت الموسيقى الشرقية خدمة جلى، وكان لها الأثر الظاهر في تقدمها وحفظ كنوزها من الفناء.
- 8 - وأما الآلات المستعملة لدينا في الموسيقى الشرقية عامة فهي: العود، والقانون، والطنبور، و (الكمان) والناي، والمزمار، والدف؛ والطبلة، ويوجد آلات شرقية وعربية غير هذه كثيرة ولكنها مهملة، أو غير صالحة لعزف القطع الفنية؛ ثم أضيفت آلات حديثة من الموسيقى الغربية خاصة لعزف قطع (الهارموني) زيادة في التحلية عند اللزوم، أو لعزف القطع الحماسية.

.
في المعسكرات الحربية كالبيانو والكمان الأكبر والساكسوفون والفيفرا إلى غير ذلك من الآلات الوترية، والنفخية والهوائية، التي ليس لها - ويا للأسف أسماء عربية حتى اليوم!! وعلى هذا فالموسيقى الشرقية على العموم لا تزال بحاجة إلى جهود جبارة، وعزائم صادقة، وهي في دور نهضة مباركة تبشرنا بمستقبل قريب باهر. حماه: منير الجم الطرابلسي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢