أرشيف المقالات

الدعوة إلى الله بالموسيقى، شريعة من؟

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2الدعوة إلى الله بالموسيقى، شريعة مَن؟
 
وقع جدال بيني وبين بعض الأقارب، وبعض الطلاب في قاعة الدرس، في توظيف الموسيقى في الدعوة إلى الله تعالى، ودار النقاش حول جدوى الموسيقى التي تصاحبها معانٍ سامية؛ كالحديث عن الدين أو الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهي بديل عن الغناء الساقط في مضامينه، كما أن لها أثرًا في تقريب غير المسلمين إلى الإسلام، وأن ما يحسنه الشخص فليدعُ به، وينبغي علينا ألَّا نُحجِّر واسِعًا؛ هذا قولهم.

والجواب أن يُقال لمثل هؤلاء: كم من مريد للخير لم يصبه! والنية الحسنة لا تشفع لصاحبها ما لم ينضبط سعيُه بالهدي النبوي، فالمقرر عند علماء السلف من المتقدمين والمتأخرين أن الإخلاص في العمل سواء كان قولًا أو عملًا أو اعتقادًا، والمتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- هما شرطا صحةٍ، يترتب عليهما القبول والرد، فميزان انضباط الباطن حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين: "إنما الأعمال بالنيات"، وميزان انضباط الظاهر حديث عائشة عند مسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ"، قال العلامة حافظ الحكمي- رحمه الله-:






شرط قبول السعي أن يجتمعا
فيه إصابة، وإخلاص معا











والدعوة إلى الله تعالى من أجلِّ القُرُبات، وأسمى الطاعات، ولا يمكن أن تكون الوسيلة المحرمة مبررة بناءً على ما يترتب عليها من ثمرات، لأنا متعبدون بالأمر والنهي، ولسنا متعبدين بالثمرات، فالنبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فما ظنكم وتلك الوسيلة ملغاة شرعًا[1]، فكيف نتعبد بما نهينا عنه؟!

الغناء المصحوب بآلات مُحرَّمة اتفق العلماء على تحريمه، وقد حكى الاتفاق جَمْعٌ من الأئمة؛ كابن الجوزي، وابن الصلاح والقرطبي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن باز والعثيمين والألباني وغيرهم كثير من قبل ومن بعد، ولا فرق بين ما صحب بآلة فكانت مضامينه حسنة أو سيئة، فعِلَّة المنع قائمة وهي اقترانه بالآلة الموسيقية[2].
وقد سُئل شيخ الإسلام -رحمه الله- عن جماعة يجتمعون على فعل الكبائر من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر، ثم إن شيخًا من المشايخ المعروفين بالصلاح واتباع السنة قصد منع هؤلاء مما يقعون فيه، فلم يتمكن إلا أن يقيم لهم سماعًا يجتمعون عليه، وهو بدُفٍّ بلا صلاصل، مع غناء المغني بشِعْر مباح بغير شبابة، فلما فعل تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورَّع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المُحرَّمات، فهل يُباح مثل فعل الشيخ على تلك الحال، لما يترتب عليه من المصالح؟ مع أنه لا يمكن دعوتهم بغيره؟

فأجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- جوابًا متينًا[3]، وانظر كيف يعالج العلماء الربانيُّون الجزئيات في ضوء الكليات، ويربطون بين فروع الشريعة وأصولها، فقد ربط الجواب بأصل عظيم جامع؛ وهو الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، ويمكن تلخيص كلامه -رحمه الله- على شكل نقاط:
1- أن الله تعالى بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالهُدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأنه أكمل له ولأمته الدين، كما قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

2- أن الله تعالى أمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59].

3- من المعلوم أنما يهدي الله به الضالِّين، ويرشد به الغاوين، ويتوب به على العاصين، لا بُدَّ أن يكون فيما بعث الله به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يكفي لكان دين الله ناقصًا محتاجًا إلى تتمَّة.


4- العمل المشتمل على مصلحة ومفسدة، إن غلبت مصلحته على مفسدته فإنه يكون مشروعًا؛ لأن الشارع حكيم عليم، وإن غلبت مفسدته على مصلحته أو تساوتا المصلحة والمفسدة لم يشرع، ومَثَّل شيخ الإسلام بالخمر والميسر، فيهما منافع لكن لما غلبت المفسدة حرَّمهما الله تعالى.


5- ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله، فإنه لا بُدَّ أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم، وكان غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع.


6- لا يجوز أن يُقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من هو شرُّ من هؤلاء، بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان -وهم خير أولياء الله المتقين، من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- قد تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بالطرق البدعية.


فيتبين أن استعمال الوسائل المُحرَّمة كالموسيقى وغيرها، في الدعوة إلى الله، أو في تحبيب الخير إلى الناس أو تبغيض الشر إليهم، هو أمر لا يجوز لسببين:
الأول: لأن المعازف مُحرَّمة أصلًا، سواء كانت الكلمات حسنة أو سيئة.

الثاني: أن استعمالها في الدعوة تقرُّب إلى الله بما لم يشرع.

والله أعلم.



[1] وسائل الدعوة منها ما شهد له الشرع بالاعتبار، ومنها ما شهد له الشرع بالإلغاء، ومنها ما سكت عنه فهو محل اجتهاد ونظر وفق القواعد والضوابط الشرعية.


[2] ولمعرفة أدلة التحريم من الكتاب والسنة وأقوال العلماء أحيل القارئ الكريم على كتاب (تحريم آلات الطرب) للشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الألباني رحمه الله.


[3] انظر جوابه في مجموع الفتاوى: (11 /620- 635)، وهو جواب جدير بالمطالعة والتأمل، ولا يغني عنه التلخيص؛ لعظيم نفعه.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣