أرشيف المقالات

علاج القلق

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2علاج القلق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فإن القلق من المشاعر التي تنتاب المرء عادة عندما يخاف على شيء يحبه أو يهتم لأمره، أو يتخوف منه، وقد انتشر القلق كثيرًا بين الناس اليوم حتى أصبح مرضَ العالم الأول؛ حيث زادت ضغوط الحياة ومسؤولياتها، وأصبحت حياة الناس تتسارع مع العمل والجري وراء المادة وجمع المال، وهذا النوع من القلق هو الذي يشكِّل القسط الأكبر في العالم الغربي، وأما في الدول الإسلامية فيخالطه القلق على جوانب الحياة الاجتماعية المختلفة وجزئياتها المهمة، ولا يقتصر عادة على المادة فقط؛ وذلك لعلو أخلاق المسلمين؛ حيث لا تشكِّل المادة الهمَّ الأول لكثير منهم، ولأنهم يهتمون بأُسَرِهم وأبنائهم، ولا يزالون محتفظين بتكوين الأسرة وترابطها إلى حد كبير، وهذه نعمة قد فقدها الغرب، وأصبحت أسرهم متفككة، ولا يهتم الفرد منهم سوى بنفسه وما جمع من مال، فلا يسأل عن والد ولا ولد، فالحمد لله على نعمة الإسلام وعلى وجود المسلمين.
 
القلق على الدنيا والرزق:
وأما القلق على أمور الدنيا، فيكاد لا يخلو من قلب إنسان، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، والمسلم بطبعه يقلق على ما يهمه من أمور حياته؛ كالزواج والأولاد والمال، ويقلق على عمله وما يدور فيه، وكذلك شراء بيت لأسرته وتدبير مصاريف المعيشة والمدارس، وتحصيل أبنائه الدراسي والجامعي، كما يخالطه القلق على صحة والديه وأولاده وعلاجهم، وغيرها من المسؤوليات والمشاكل الأسرية والمادية والاجتماعية، ولكن عليه ألَّا يترك هذا القلق يسيطر عليه، ويلهيه عن طاعة الله وعن أعماله اليومية، فالرزق مكتوب، والأجل مكتوب، والأمر كله لله، فلا يقلق على رزقه بحيث يسيطر عليه وينغص حياته؛ لأن رزقه قد سُطِّر له قبل ولادته، وهو لاحقه وتكفَّل به رب العباد، فَلْيَسْعَ بما تيسر له ثم يتوكل على الله ويسأله التوسيع والتوفيق؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يُجمَع خَلْقُه في بطن أمه في أربعين يومًا، ثم يكون مثل ذلك عَلَقَة، ثم يكون مثل ذلك مُضْغة، ثم يُرسَل إليه الْمَلَكُ فينفخ فيه الروح، فيُؤمَر بأربع كلمات: فيكتب رزقه، وأجَله، وعمله، وشقي أو سعيد))[1].
 
حل مشكلة القلق:
والحل لمشكلة القلق هو التوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب، فالتوكل غير أنه أمر رباني، لكنه أيضًا يشكل كلمة السر لحل عقدة القلق؛ فبالتوكل يرمي الإنسان حمله من القلق والهموم، ويتركها لله الذي يستعين به ليفرج ضيقه، ويقضي حاجته، وينال عونه، وذلك بعد أن يبذل مجهوده في الأخذ بالأسباب والدعاء؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3]، فقد كفَلَك الله تعالى في كل هذا، فلا تقلق، اعمَلْ ما استطعت من أسباب، وتوكَّل على الحي القيوم، وادعُه بالرزق والسعة والبركة، ثم انسَ القلق وأرِحْ بالك، فما نحن إلا عبيدٌ لله، ومن مخلوقاته التي خلق منها الملايين، وليس لنا من الأمر شيء، فإن حصلَّتَ ما أردت فاحمَدِ الله، وإن لم يعطِك فاصبر واحتسب، واستمر في السعي والدعاء والتوكل، ولا تَعْتِب على نفسك إن حدث لك مكروه؛ كأن نقص مالك، أو فقدت عملك، أو مرِض ابنك، أو لم تَنَلْ ما أردت، فليس باختيارك حدوث ذلك المكروه، أو حرمانك من عَرَض من أعراض الدنيا، ولكنها مشيئة الله تعالى، واصبر على ذلك الفقد وثِقْ بأن الله سيعوضك، إما في المستقبل أو في الآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((عجِبتُ لأمرِ المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب، حمِدَ الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر، كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن))[2]، فاحمَدِ الله على العطاء والمنع، وعلى الخير والشر، وعلى الغِنى والفقر، وعلى العز والذل، وعلى القوة والضعف، وعلى الصحة والمرض، وعلى كل نقيض وضده، له الحمد في الأولى والآخرة، وما الدنيا إلا أيام وتمر، وما نحن إلا ضيوف فيها أو عابرو سبيل، ولكن ينبغي ألَّا نجعل السبيل يمر دون استثماره، فلا يتوقع إنسان أن يجلس ويأتيه رزقه، ولا أن يهمل عباداته، ويدخل الجنة، ولا أن ينام وينتظر النجاح وهكذا، فعليه بالسعي والتوكل على الله، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله.
 
القلق المحمود:
وقلق المؤمن الأكبر ينبغي أن يكون هو خوفه من الآخرة عذاب الله، وهذا النوع من القلق محمود ومطلوب، فالشعور بالأمن من عذاب الله ليس من صفات المؤمنين، ولا يزال المؤمن خائفًا حتى يلقى الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]، والخوف جزء من الإيمان، بل إن الإيمان يقوم على سيقان الخوف والرجاء، اللذين يدفعان المؤمن إلى العمل الصالح، والمؤمن يحزن على معاصيه ويخاف ويقلق من تبعاتها، وهذا مما يساعده على التوبة والرجوع؛ قال صلى الله عليه وسلم عن الإيمان: ((إذا سرَّتك حسنتُك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن، قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قال: إذا حاك في نفسك شيء فَدَعْهُ))[3]، فلا يسكِّنُّ قلقه إلا طاعة الله والاستزادة منها؛ فمثلًا عندما يقف للصلاة يشعر بانشراح وراحة نفسية، وعندما ينتهي من صوم نافلة أو اخراج صدقة يشعر بفرح لتغلبه على شحِّ نفسه وكسلها وتمردها، ويفرح بتوفيق الله له لإتمام تلك الطاعة التي تزيد من رصيده في الآخرة، وكذلك مما يخفِّف قلقَ المؤمن قراءةُ آيات التبشير ووعود الله للمؤمنين، ثم النوم والراحة، وترك السهر والانغماس في ملاهي الدنيا وملذاتها، والإكثار من ذكر الله والتوبة والاستغفار، والتركيز على أعمال القلوب وإصلاحها، والتعلق بالله ومحبته، وقراءة القرآن ومعاهدته بالحفظ والمراجعة، وعدم الإكثار من مخالطة الناس؛ حيث يجد المؤمن ألذَّ ساعاته هي التي يقضيها في مناجاة الله والوقوف بين يديه منكسرًا باكيًا، ومتحسرًا على ذنوبه وعلى ما فاته من صالحات، وعلى تقصيره وقلة عمله؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، بذلك كله وبالتوكل يرتاح المؤمن من القلق، وتصير نفسه مطمئنة إلى الله ومتشوقة له، ويُدخله الأمل والرجاء في النجاة رغم ما يخالطه من خوف حتى يلقى الله، وعند الموت تقبض الملائكة نفسه وهي مطمئنة ومستبشرة بوعد الله؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]، فنسأل الله سبحانه وتعالى الأمن والطمأنينة يوم القيامة، وأن يجعلنا ممن يكون حالهم يومئذٍ: ﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 103]، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



[1] أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) مطولًا باختلاف يسير.


[2] أخرجه أحمد (23930) مطولًا باختلاف يسير، وأخرجه مسلم (2999) بنحوه.


[3] صححه الألباني في هداية الرواة (42)، وأخرجه أحمد في (المسند) (5/ 252) واللفظ له، والطبراني في (الكبير) (8/ 138)، والحاكم في (المستدرك) (2/ 16) باختلاف يسير.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣