أرشيف المقالات

سب المخالفين

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2الموقفُ من الاستطالة بالشتم على المخالف
 
الأصلُ أنَّ أعراض المسلمين مصونة، وحرمتهم ثابتة؛ ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانه ويده"[1]، وفي الأدب المفرد بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء"[2]، فدل ذلك على أن ترك الطعن واللعن والفحش والبذاء واجبٌ، وأن مقارفتها حرام؛ فإن تقريرَ امتناعِ اسمِ مسمَّى أمرٍ أمرَ الله به ورسولُه، كنفيه، وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك ما يجب[3]، بل قال صلى الله عليه وسلم صريحًا: "بحسْب امرئ من الشر أن يحقِر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه"[4]، وهذه الحرمة مغلَّظة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليُبلغ الشاهدُ الغائب"[5]، فقرَنَ بين هذه الثلاثة، وجميعُها من الضروريات التي جاء الشرع بحفظها، وجميلٌ بأناس تعظيمُ حرمة الدم، وحرمة المال، وقبيحٌ بهم إهدارُ قرينتهما الثالثة.
ولما كانت الاستطالةُ في عرض المسلم بهذه المثابة، بيَّن عليه الصلاة والسلام حكم المتجرئ عليها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق"[6]، وقد دل هذا والآثار قبله على أن بعض الطعن من كبائر الذنوب؛ قال الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة التاسعة والثمانون، والتسعون، والحادية والتسعون بعد المائتين: سبُّ المسلم والاستطالة في عرضه، وتسبب الإنسان في لعن أو شتم والديه وإن لم يسبهما، ولعنه مسلمًا[7].
وقد صرّح كثير من أهل العلم بأنَّ سب المسلم كبيرة...
وإذا سب المسلم ففيه التعزير، وحكى بعضهم الاتفاق عليه.
قال الشافعية والحنابلة: والتعريض كالسب[8].
قال بعض أهل العلم: "سبُّ المسلم بشتمه والتكلم في عرضه بما يعيبه بغير حق حرامٌ بإجماع الأمة، وفاعله فاسق"[9].
ولعِظم شأن الاستطالة باللسان في عرض المسلم قالوا: إن الإساءة لمسلم بالسب والشتم الفاحش لا تجوز، ولو للإمام على وجه التعزير، قال بعض الفقهاء: " لا يجوز للإمام أو غيرِه التأديب باللعن والسب الفاحش وسب الآباء والأمهات ونحو ذلك.
ويجوز التأديب بقوله: يا ظالم يا معتدي ونحوه"[10].
بل لاينبغي للمالك أن يعاقب مملوكه بالشتم؛ قال الإمام أحمد: ولا يشتم أبويه الكافرين، ولا يعود لسانه الخنا والردى، ولا يدخل الجنةَ سيِّئُ المَلَكَة؛ وهو الذي يسيء إلى مماليكه.
فـ"من ارتكب شيئًا من التحقير مما هو ممنوع، كان قد ارتكب محرمًا يعزَّر عليه شرعًا تأديبًا له.
وهذا التعزير مفوض إلى رأي الإمام، وَفق ما يراه في حدود المصلحة وطبقًا للشرع، ..
وأحوال الناس فيه مختلفة، فلكل ما يناسبه منه"[11].
"وما قدح في الأعراض من الكلام نوعان:
أحدهما: ما قدح في عرض صاحبه ولم يتجاوزْه إلى غيره، وذلك شيئان: الكذب، وفحش القول.
والثاني: ما تجاوزه إلى غيره، وذلك أربعة أشياء: الغِيبة، والنميمة، والسعاية، والسب بقذف أو شتم.
 
وربما كان السب أنكاها للقلوب، وأبلغها أثرًا في النفوس.
ولذلك زجر الله عنه بالحد تغليظًا، وبالتفسيق تشديدًا وتصعيبًا"[12].
والشتم - كما ذكر ابن وهبان - لا يخلو إما أن يكون بما فيه، أو بما ليس فيه.
في وجهه، أو في غيبته.
فإن كان بما ليس فيه، فهو كذب وافتراء، فيفسق به، سواء كان في وجهه، أو في غيبته.
وإن كان بما فيه في غيبته فهو غيبة، وإنها توجب الفسق.
وإن كان في وجهه ففيه إساءة أدب، وإنه من صنيع رعاع الناس وسوقتهم الذين لا مروءة لهم، ولا حياء فيهم، وإن ذلك مما يسقط العدالة.
وكذا إذا كان السب باللعنة والإبعاد مما يفعله من لا خلاق لهم من السوقة وغيرهم، ومما يؤيد ذلك ما ورد في الحديث: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"...[13].
وإذا تقرَّر هذا الأصلُ عُلِم أن كل كلام قبيح كالقذف فما دونه من الاستخفاف وإلحاق نقص بالمخالف سبٌّ لا يجوز، بل ينبغي أن يعزَّر فاعله.
وقد روى ابن حزم: عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد رجلًا أن دعا آخر: يا ابن المجنون[14].
ولما سبق تحدث الفقهاء في تقدير هذه التعزيرات ومن ذلك ما نقله في المسائل الملقوطة[15] قال:
♦ لو قال رجل لرجل: ...
يا خائن، أو يا ثور، أو يا حمار، أو يا ابن الحمار...
فإنه يعزر؛ قاله ابن رشد [ص78].
 
♦ من قال لرجل: يا مجرم، ضُرِب خمسة وعشرين، وكذلك إن قال له: يا ظالم، ولم يكن كذلك ضرب أربعين، ولو قال له: يا سارق ضرب خمسة وعشرين [ص81].
 
♦ ومن تكلم في عالم بما لا يجب فيه حد، ضرب أربعين سوطًا [ص82].
 
♦ ومن قال لرجل يا فاسق، ضرب ثمانين سوطًا [ص83].
 
♦ وكل من آذى مسلمًا بلسانه بلفظ يضره ويقصد أذاه فعليه في ذلك الأدب البالغ الرادع له ولمثله، يقمع رأسه بالسوط، أو يضرب رأسه بالدِّرَّة، أو ظهره بالدرة، وذلك على قدر القائل وسفاهته، وعلى قدر المقول فيه [ص83].
 
♦ وإذا قال الرجل لصاحبه: الله أكبر عليك! فإنه يعزَّر، إلَّا أن يعفو عنه خصمه [ص84].
 
♦ ويؤدب في سائر الشتم نحو: يا كلب، يا خنزير، يا حمار، وما أشبه ذلك [ص84].
 
فعلى الحاكم أن يعزِّر المعتدي، وذلك من جملة إقامة شرع الله، وإصلاح ذات البين.
وهذه دعوة لتطبيق الشريعة درءًا للفتنة عن أهل السُّنة، وفرضًا لصيانة اللسان بوازع السلطان، بيد أن المنتصف للسنة ينبغي أن يتجرد حال دعواه من الانتصار للنفس فذلك أكمل، ﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41].
ولا يعارض هذا أمر الله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وهذا الأمر محكم على الصحيح من قولي أهل العلم، قال ابن القيم رحمه الله: "(وأعرض عن الجاهلين) يعني: إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، كقوله تعالى: ﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وعلى هذا فليست بمنسوخة، بل يعرض عنه مع إقامة حق الله عليه، ولا ينتقم لنفسه"[16]، فندبتِ الآيتان إلى ترك المقابلة بالسيئة، ولم تندبا إلى ترك إقامة حكم الله بالحد أو التعزير، وقيدتِ الأولى الندب إلى العفو إذا اقترن به الإصلاح قال الله تعالى: ﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]، مع ترخيص التي تليها في المقابلة بالمثل.
غير أنه ينبغي أن يُفرق بين من كانت البذاءة ديدنه، والفجور في الخصومة شأنه، وبين من ندتْ منه كلمة، فمثل هذا ينبغي أن تقال عثرتُه، وتغتفر زلته، فمثل هذا يعظُه الإحسان، وغالبًا ما يفيء إلى الاعتذار سريعًا، ما دام حي الضمير، يقظ الإحساس، وإن لم يكن من طلاب العلم الشريف، وأما إن كان ديدنه الإساءة فرفعه إلى القضاء من جملة ردع الجاني وإقامة الشرع.
ومن المَواطن التي قد تجوز فيها الإساءة، الإساءة للمرء وتنقُّصه على سبيل المعاقبة بالمثل ما خلتْ عن محظور كالقذف، والتكفير، ولعن والديه؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴾ [الشورى 40 - 41]، فجوز الاقتصاص بالعدل، وندب إلى الفضل، وقال صلى الله عليه وسلم: "المُستَبَّان ما قالا فعلى البادئ، ما لم يعتدِ المظلوم"[17].
ومن المواطن التي يجوز فيها بعض الانتقاص الداخل حيز السب، الوصف بالظلم والفسق ونحوهما من الأسماء الشرعية، فهذه يجوز إنزال حكمها على المعين الذي قارف ظلمًا أو فسقًا، بشرطين:
الأول: أن يكون ذلك لمصلحة، لا على سبيل التفكه بعرضه والتندر به، قال القرافي: "سألتُ جماعة من المحدثين والعلماء الراسخين في العلم، عمن يروي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا غيبة في فاسق)، فقالوا لي: لم يصح، ولا يجوز التفكه بعرض الفاسق، فاعلم ذلك فهذا هو تلخيص الفرق بين ما يحرم من الغيبة وما لا يحرم"[18].
الثاني: أن تتوافر فيه شروط إنزال ذلك الاسم، وتنتفي عنه موانعه، أما إذا لم تتوافر الشروط وترتفع الموانع فلا؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا مع أنى دائمًا، ومن جالسني يعلم ذلك مني؛ إني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية"[19].
ولا يعني تسويغ الإساءة في نحو هذه المواطن أن الحبل متروك على الغارب، فإنها إن صدرت ممن ليس أهلًا لها، ولم تكن له على الناس ولايةٌ تخوله أن يقول ما قال على سبيل صحيح، فللمعتَدَى عليه بالسب أن ينتصف قضاءً، فليست المجازاة بالمثل دعوى مقبولة إن لم تشهد لها الأدلة، وتحفها قرائن الأحوال، وتقدير ذلك يرجع إلى القاضي.
وأما الدعوة إلى التورُّع في مثل هذا، ومراقبة الله فيما يقوله المرء، فليست راجعة إلى أن أمر الانتصاف من المتنقص موكول إلى ورعه، بل ليصلح المرء شأنه مع ربه، وإن استحق العقوبة الدنيوية بتعديه.
 
 

 
[1] رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو 1/ 13 (10)، ومسلم من حديث جابر 1/ 65 (41).
[2] الأدب المفرد 1/ 116 (312).
[3] ينظر الإيمان الكبير ص10 وما بعدها، وهو في المجموع 7/ 14 وما بعدها.
[4] صحيح مسلم 4/ 1986 (2564).
[5] متفق عليه من حديث أبي بكرة، ينظر البخاري 1/ 37 (67)، وغير موضع، ومسلم 3/ 1305 (1679).
[6] متفق عليه رواه البخاري في الصحيح 1/ 27 (48)، وفي غير موضع، ومسلم 1/ 81 (64).
[7] 2/ 92 وما بعدها.
[8] الموسوعة الفقهية 24/ 141.
[9] الموسوعة الفقهية 21/ 272.
[10] تنظر الموسوعة الفقهية 16/ 328.
[11] الموسوعة الفقهية، 10/ 230.
[12] أدب الدنيا والدين ص323-324.
[13] نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق 7/ 89-90.
[14] ينظر المحلى 12/ 222 - 223، وقد ضعفه ابن حزم رحمه؛ لثلاثة: لأنه مرسل، ولأنه من طريق سالم بن غيلان التجيبي قال: "وهو مجهول لم يعدل"، ولأن يونس بن عبد الأعلى أحفظ من سحنون وقد رواه موقوفًا.
والأظهر أنه حديث حسن، أما دعوى الإرسال فلا تسلم فالسند صحيح متصل وجهالة الصحابي لا تضر، والأصل في مثل هذا الاتصال عند الجمهور، وأما كون يونس بن عبد الأعلى أحفظ من سحنون فحق، بيد أن سحنون لم يتفرد به فقد رواه حماد بن يحيى عن ابن وهب كما رواه سحنون مرفوعًا؛ جاء ذلك في معرفة الصحابة لأبي نعيم، وأما دعوى جهالة سالم بن غيلان فقد جرت على رمزه رحمه الله في نعت من لم يعرف بها، ولينظر تعليق ابن حجر في لسان الميزان 1/ 180 ترجمة إسماعيل بن محمد الصفار، وقد عدل سالمَ بن غيلان الإمامُ أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم، قال الذهبي: صدوق، وقال ابن حجر ليس به بأس.
[15] المسائل الملقوطة من الكتب المبسوطة، لإبراهيم بن فرحون الابن.
[16] مدارج السالكين، 2/ 305.
[17] مسلم 4/ 2000 (2587).
[18] أنوار البروق في أنواع الفروق 4/ 208.
[19] ينظر المجموع 3/ 229.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢