أرشيف المقالات

التدرج في الدعوة إلى الله تعالى

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
التدرج في الدعوة إلى الله تعالى
 
التدرُّج باب عظيم من أبواب الدعوة إلى الله تعالى، وهو علم يحتاج إلى فقه كامل بأحكام الدين، ولا أعني بالفقه، حفظ النصوص وأقوال الأئمة، بل كلمة الفقه كلمة واسعة تعني أكثر من ذلك، فالفقه هو العلم بالأحكام ونصوصها ثم ربط هذه الأحكام بعضها ببعض في إطار واحد، تظهر فيه محاسن الشريعة ومقاصدها، وحكم الله تعالى في تشريع شرائعه وأحكامه.[1]
ويعتبر التدرج في الدعوة إلى الله تعالى خصيصة من أهم الخصائص التي تيسِّر قَبول دين الإسلام، وتحمُّل تكاليفه، وتطبيقه في الواقع، ومعناه التقدم خطوة خطوة، والبَدْء بالأهم فالمهم؛ للترقي إلى أعلى المراتب.[2]
 
ومن أهم دعائم التدرُّج هو علم هذه الأولويات، حتى يتسنى للداعية أنْ يعلم من أين يبدأ، وما هو الذي يجب أنْ يطبق أولاً وإلى ماذا يتدرج منه، ولا يكفي أنْ يكون الداعية عالماً بأحكام الدين، حافظاً لها، عالماً بمقاصد الشريعة الإسلامية ومدركاً لأصولها، بل يجب عليه كذلك أنْ يلم بواقع المجتمع، ويدرس ما فيه من طبائع وصفات ويشخص ما فيه من علل وأمراض، حتى يتمكن من علاجها.[3]
 
وفهم واقع المجتمع يمكِّن الداعية من تحديد عدة أشياء، منها أمراض المجتمع على وجه التحديد، ثم من أين يبدأ العلاج، وكيف يتدرج به، وما هو الأوْلَى في التقديم والتطبيق، وفهم الواقع كذلك يساعد على تحديد كمية العلاج في كل مرحلة من مراحل التدرُّج، لأن كل مرحلة تحتاج إلى فقه ونوع معين من أنواع العلاج، فالذي لا يفهم واقع المجتمع ولا يتفحص فيه قد يعطي المجتمع في إحدى المراحل أكثر مما يجب أنْ يعطي له فيها، أو قد يعطيه أقل مما يجب أنْ يعطي له فيه، وأمَّا علاج كل مرحلة ونوعه، فإنه يتحدَّد بواقع المجتمع وأفراده، فالمجتمعات متباينة في عاداتها وتقاليدها، وفي درجة التمسُّك بهذه الموروثات والتقاليد، وتختلف كذلك في درجة تمسكها بالدين والالتزام بتعاليمه.[4]
وما ورد في التشريع الإسلامي من تنجيم في نـزول الوحي ومن تدرج في بناء الأحكام، يعتبر إرشاداً إلهياً في كيفية تحويل أهل الجاهلية، إلى واقع الحقيقة الإسلامية، ليكون مبدأً عاماً في منهجية الصراع مع الواقع الباطل.
[5]
 
وإذا أراد الداعية أن يقيم مجتمعاً إسلامياً يلتزم أفراده بشريعة الله تعالى، فلا يتوهم أن ذلك يتحقق له دفعة واحدة، بل لا بد أولاً من التهيئة النفسية والفكرية للمدعوين، وذلك بتقديم الأهم من الأمور على المهم منها، والتدرج من المألوف الذي اعتادوا إلى الجديد الذي يهدف إلى إيصالهم إليه، ومن كليات الأمور إلى الجزئيات منها، ولا يباشرهم بالإصلاح دفعة واحدة، فإن ذلك يعتبر مصادمة لهم، وتنفيرًا عن قبول أوامر الدين ونواهيه.
[6]
 
تعريف التدرج في الدعوة إلى الله تعالى:
التقدم بالمدعو شيئًا فشيئًا للبلوغ به إلى غاية ما طلب منه وَفْقَ طرق مشروعة مخصوصة.
[7]
 
صور من التدرج التشريعي في القرآن الكريم:
لعل أوضح مثال لهذه الصورة تحريم الخمر، فقد بدأ الأمر بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ ﱢ [النحل: ٦٧] ثم أنزل قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ﱢ [البقرة: ٢١٩] ثم أنزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: ٤٣] ثم كانت النهاية مع قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: ٩٠].
 
وقد أظهرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-الحكمة من هذا التدرج التشريعي في الإسلام بقولها: (إنما نزل أوَّل ما نزل منه -أي القرآن- سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا)[8].
 
وبيَّن الإمام ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث الحكمة من هذا التدرُّج، فقال: (أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب النزول، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: «ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها» وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف)[9].
 
صور من التدرج التشريعي في السنة النبوية:
يستدل بالتدرج في السنة النبوية بحديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب، فقد جاء في الحديث الصحيح: (لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ: لَهُ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ الناس)[10].
 
التدرج في دعوة غير المسلمين:
الداخل في الإسلام مولودٌ جديد، وحالُ المولود أحوج ما يكون إلى الرِّعاية والعِناية، وهذا الدين متينٌ، ولا يُوغَل فيه إلا برفقٍ، ولا يَصِحُّ أن يُكلَّف المرء ما لا يطِيق أو يُشدَّد عليه في بدء الأمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُجِيب المسلمَ الجديد بما يقتَضِيه الحالُ، وبالأهم فالأهم؛ إذ لا يُمكِن بيانُ الشريعة دفعةً واحدةً، لا سيَّما لحديثِ عهدٍ بالإسلام، وهذا ما يجبُ أنْ ينهَجَه الداعية مع المسلم الجديد، ومن الشَّواهِد على عناية النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالتدرُّج مع المسلم الجديد ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ أعرابيًّا أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه، دخلتُ الجنة؟ قال: (تعبُد الله ولا تُشرِك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتُؤدِّي الزكاة المفروضة، وتَصُوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده، لا أَزِيد على هذا، فلمَّا ولَّى قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن سرَّه أنْ يَنظُر إلى رجلٍ من أهل الجنَّة، فليَنظُر إلى هذا)[11].
 
وهذا الحديث ونحوُه خُوطِب به أعرابٌ حديثو عهدٍ بالإسلام، فاكتَفَى منهم بفِعل الواجب في ذلك الحال؛ لئلاَّ يثقل ذلك عليهم فيملُّوا، حتى إذا انشَرحَتْ صدورُهم للفَهْمِ عنه، والحرص على تحصيل ثواب المندوبات، سهلَتْ عليهم[12].
 
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قبِل من قوم الإسلام واشترطوا أن لا يزكوا، ففي مسند الإمام أحمد عن جابر-رضي الله عنه-قال: اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيتصدقون ويجاهدون)، وفيه أيضًا: عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين فقبِل منه.
وأخذ الإمام أحمد –رحمه الله تعالى-بهذه الأحاديث، وقال: (يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها)[13].
 
صور من التطبيقات الدعوية في التدرج من السنة النبوية:
1- نزول القرآن منجَّمًا حسب الوقائع والأحداث.
2- البَدْء بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل.
3- البَدْء بدعوة الأقربين.
4- الدعوة السرية في بداية الأمر، ثم الدعوة جهرًا.
5- الصبر وتحمل الأذى، ثم رد العدوان، ثم القتال.
6- بناء جيل الصفوة على الإيمان بالله واليوم الآخر في فترة المرحلة المكية.
7- عدم الأمر بالتكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات في مكة، ثم الأمر بالتكاليف والأوامر الشرعية في المدينة النبوية.
8- لم يفرض الجهاد إلا بعد قيام الدولة في المدينة النبوية.
9- لم تفرض التكاليف الشرعية دفعة واحدة، وإنما فرضت تدريجياً.
10- قَبول بعض أمور الجاهلية حتى تستقر العقيدة وتتهيأ النفوس للتخلِّي عنها.
[14]
****
 
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا جميعاً من المقبولين،
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] انظر: التدرج في التشريع الإسلامي، ماهر الحولي، ص2.

[2] انظر: خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله تعالى، أمين الدميري، ص26.

[3] انظر: التدرج في التشريع الإسلامي، ماهر الحولي، ص2.

[4] انظر: فقه التدرج في التشريع الإسلامي تطبيقًا وفهمًا، معاوية أحمد سيد، ص48.

[5] انظر: دور الفكر الواقعي في النهضة الإسلامية، عبدالمجيد نجار، ص202.

[6] انظر: الدعوة قواعد وأصول، جمعة أمين عبدالعزيز، ص179.

[7] انظر: التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، إبراهيم المطلق، ص16.

[8] رواه البخاري، رقم الحديث: 4707.

[9] انظر: فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، 1/48.

[10] رواه البخاري، رقم الحديث: 7372.

[11] متفق عليه.

[12] انظر: التدرج في دعوة المسلم الجديد، عبدالله اللحيدان، ص19.

[13] انظر: جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، ص84-85.

[14] انظر: فقه التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، أمين الدميري، ص2.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن