مشاهد من الذكر الحكيم (محطات قرآنية)
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
مشاهد من الذكر الحكيم(محطات قرآنية)
إعداد: أ.د.
أحمد يحيى علي محمد[*]
مشهد (1)
سبحان الله!
كأن الأصل فيها القبح؛
لذا تلجأ إلى قناعٍ خادع تُخفي به حقيقتَها:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46].
لكن مَن امتلك القدرة على كشف سوءتها هو ذلك المستغني المقاوم المالك لأدواته.
إنه العبد القريب الذي يأخذ منها ما يُقيم الصُّلب، دون إفراط أو بخل أو تفريط.
يا لها من معادلة صعبة!
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].
ورد في التفسير أنها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
لله در هذا المعلِّم:
((ليس الغِنى عن كثرةِ العَرَض؛ ولكن الغنى غِنى النفس))؛ -صلى الله عليه وسلم.
رحم الله خامسَهم الذي قال: ليس الزاهدُ مَن رغب عن الدنيا؛ لأنه لم يحصِّل منها شيئًا، ولكن الزاهد مَن أتته الدنيا فزهد فيها.
إنه عمر بن عبدالعزيز.
الجمعة وسورة الكهف: وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن قرأها كانت له نورًا من الجمعة إلى الجمعة التي تليها))؛ أو كما قال - عليه الصلاة والسلام.
كل ما سبق أحاديثُ نفس، وتداعٍ لخواطر تزاحمت على الرأس حتى كادت تتفتت، ففتحتُ لها باب الكتابة لتخرج.
مشهد (2)
سبحان الله!
﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ [الكهف: 18].
قدسية المشهد الإيماني لفتية: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ [الكهف: 13].
اليقين/ التوكيد بـ: "إن".
والضمير المعبِّر عن الغائبين الفارين من ظُلم الملك الكافر "هم".
﴿ فِتْيَةٌ آمَنُوا ﴾.
تحقيق وتوكيد.
في المشهد الإيماني حيوان، اكتسب حضوره مرتبطًا ومشروطًا بهؤلاء الفتية.
لم يقل ربُّنا: والكلب باسطٌ ذراعيه.
بل قال: ﴿ وَكَلْبُهُمْ ﴾.
سبحان الله!
الالتصاق بالضمير ملكية.
انتماء.
في صلة الأرض بالسماء، العبد بالرب: ﴿ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ﴾.
وعالَم متسع، لا يقتصرُ على العنصر الإنساني، بل يتمدَّد، ليمثِّله الكلب المتجرد من "أل" العهدية.
المتصل بالضمير.
نعم رحلة إلى الله هي.
لكن فيها أخذ بالأسباب.
أسباب الأمان والحماية.
فجاء الكلب معبرًا عن هذا الدور في دراما الفتية "الحراسة".
في استلهام لتجربة الفتية تأتي الهجرةُ النبوية عاكسة ومكررة، لكن بشكل غيرِ حرفي لحركتهم.
هنا الكلب.
وهناك الناقة.
هنا كان الكهف.
هناك كان الغار.
هنا كان قولهم: ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾ [الكهف: 20].
هناك كان قوله: "يا رسولَ الله، لو نظر أحدُهم تحت قدميه لرآنا".
تتطور القصةُ وتعلو وتصفو النفوس المطمئنة الصابرة، لنقف أمام قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما؟)).
فنزل قوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
هنا نتعلَّم.
هنا نقف.
أمام استحضار تجربة السابقين.
قراءتها.
استيعابها.
ثم تطويرها.
هكذا تطرح علينا ثنائيةُ الـ: هنا، والـ: هناك في: الكهف/ الفتية، وفي: الغار/ محمد بن عبدالله وأبو بكر الصديق.
صلى الله وسلَّم على الأول، ورضي الله عن الثاني.
ورزقنا الله جميعًا العمل بما نقرأ ونتعلم.
اللهم آمين!
مشهد (3)
﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24].
﴿ فَجَاءَتْهُ ﴾.
سبحان الله! سيرة سيدنا موسى تعلِّمنا.
من الدعاء.
من تدعيم الصلة وإعادة إعمار ما بين السماء والأرض.
من: ﴿ رَبِّ ﴾...
إلى: ﴿ فَجَاءَتْهُ ﴾.
رحلة إيمانية نقطعها.
لتصير النتيجة تحققًا وحصولاً: ﴿ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ﴾ [القصص: 25].
المال.
الأمن.
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ﴾ [القصص: 25].
لقد تغيَّرت حالته بفضل ربه من خوف: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 21].
إلى: ﴿ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25].
ثم بعد المال والأمن: دنيا هنيئة.
لقد جاء المال والزوجة الصالحة التي جاءته تمشي على استحياء: ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾ [القصص: 27].
سبحان الله!
لكأني ألمح الدنيا تأتي في هذا الضمير المؤنث شديد العمق في قوله: ﴿ فَجَاءَتْهُ ﴾.
لكن هذا المجيء جاء بعد: ﴿ رَبِّ ﴾.
نعم.
كلنا بحاجة إلى منهج قويم، يقوم على الإيمان والتوكل، والأخذ بالأسباب.
مفردات هذا المنهج تقوم على: رَبِّ.
يليها حركة وسعي.
يجليه قوله: ﴿ فَسَقَى لَهُمَا..
﴾، ثُمَّ: ﴿ ...
عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ...
﴾.
ليتحقق لنا جميعًا حياة طيبة تنعكس كأشعة ضوئية شديدة اللمعان، تُضيء للسائر في صحراء الحياة بليلٍ طريقَه في قوله: ﴿ فَجَاءَتْهُ ﴾.
ما أعظم المَزورَ (موسى)، وما أطيبَ الزائر (الزوجة الطيبة المتدثرة بشُعبة من شُعَب الإيمان، إنه الحياء الذي بدا في قوله - تعالى -: ﴿ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾).
الحمد لله رب العالمين في البدء والمنتهى.
مشهد (4)
القرآن الكريم تحدث عن النافورات!
يقول ربنا: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38].
إذًا كيف تحدَّث عنها؟
يقول ربنا في سورة الرحمن: ﴿ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴾ [الرحمن: 66].
الله لم يقل: ﴿ نضَّاحَتان ﴾ بالحاء.
بل قال: ﴿ نَضَّاخَتَانِ ﴾ بالخاء.
في كتاب "الخصائص" للعالم ابن جني: الخاء من حروف الاستعلاء.
وهو ما يعني وَفْقًا لمنطوق الآية: في الجنة عيون يندفع فيها الماء من أسفل إلى أعلى على غرار تصميمِ بعض النافورات.
إذا رأيتَ نافورةً على هذا النحو، استحضر القرآنَ.
تذكَّر تفسير "مفاتح الغيب" للفخر الرازي.
تذكَّر الجنة.
تذكَّر عظمة كتابٍ صالح لمرئيات الجماعة على تعاقب الأزمنة وتغيُّر الأمكنة.
ألا بذكر الله تطمئن القلوب!
[*] أستاذ مساعد الأدب والنقد بكلية الألسن، جامعة عين شمس، مصر.