أرشيف المقالات

فضل العبد التقي الخفي

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2فضل العبد التقي الخفي
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

فقد وردت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلـم التي تبين فضل العبد التقي الغني الخفي.
فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عامر بن سعد قال: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ، قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ، فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»[1].
 
والمراد بالتقي: هو من اتقى الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والغني: هو الذي يستغني عن الناس ويقنع بما رزقه الله، والخفي: هو الذي يبتعد عن مواضع الظهور والشهرة.
 
روى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي الله عنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلـم فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا»[2].
 
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»[3].

وقد وردت آثار عن السلف بالتحذير من طلب الشهرة، لأنه يخشى على صاحبها من الرياء، والعجب، والغرور، وأن المحمود خمول الذكر إلا من شهره الله لنشر دينه من غير حرص منه.
قال القاضي عياض: من أحب أن يُذكر لم يذكر، ومن يكره أن يُذكر ذُكِر[4].
قال علي بن أبي طالب: تبذل ولا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار، وتغيظ الفجار[5].

وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يُشعر بمكانه[6].
وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبد أحب الشهرة.
قال الذهبي معلقًا عليه: علامة المخلص الذي قد يحب شهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد (أي: لا يغضب)، ولا يُبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلي عيوبي، ولا يكن معجبًا بنفسه، لا يشعر بعيوبها، فإن هذا داء مزمن[7].
وقال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك فإني قد بُليت بالشهرة[8].
وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد[9].

وقال سليم بن حنظلة: بينا نحن حول أُبي بن كعب نمشي خلفه، إذ رآه عمر فعلاه بالدرة فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال: إن هذه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع[10].

وقال الثوري: كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة، والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعًا.
وقال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال: أخمل ذكرك، وطيب مطعمك[11].
 
قال الذهبي: إيثار الخمول، والتواضع، وكثرة الوجل، من علامات التقوى والفلاح[12].
روى مسلم في صحيحه من حديث أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ».
فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عُمَّالِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
 
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ، قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلـم يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ».

فَأَتَى أُوَيْسًا، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَ أُسَيْرٌ: وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً، فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ؟[13].
 
والآثار في هذا كثيرة لمن تتبعها وهي تدل على إخلاصهم، وحرصهم على إخفاء أعمالهم، وخمول ذكرهم عند الناس، فإن ذلك أقرب إلى القبول.
 
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] برقم (2965).


[2] برقم (5091).


[3] برقم (2622).


[4] سير أعلام النبلاء (8/ 432).


[5] إحياء علوم الدين (3/ 2145).


[6] إحياء علوم الدين (3/ 2146).


[7] سير أعلام النبلاء (7/ 393).


[8] سير أعلام النبلاء (11/ 226).


[9] سير أعلام النبلاء (11/ 226).


[10] إحياء علوم الدين (3/ 2146).


[11] إحياء علوم الدين (3/ 2146).


[12] سير أعلام النبلاء (11/ 226).


[13] برقم (2542).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢