أرشيف المقالات

من تاريخنا النسوي

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 أستاذة الصحابة للأستاذ سعيد الأفغاني سلخت سنين في دراسة السدة عائشة كنت فيها حيال معجزة لا القلم إلى وصفها سبيلاً.
وأخص ما يبهر فيها: علم زاخر كالبحر بعد غور، وتلاطم أمواج، وسعة آفاق، واختلاف ألوان.
فما شئت إذ ذاك من تمكن في فقه أو حديث أو تفسير أو علم بشريعة أو آداب أو شعر أو أخبار أو أنساب أو مفاخر أو طب أو تاريخ.

فإنك واجد منه ما يروعك عند هذه السيدة، ولن تقضي عجباً من اضطلاعها بكل أولئك وهي لا تتجاوز الثامنة عشرة ولست بسبيل بيان ذلك الآن، وإنما أخبرك أني وقعت وأنا أنقب في كنوز المكتبة الظاهرية بدمشق على مجموعة خطية في آخرها رسالة نفيسة للإِمام بدر الدين الزركشي الشافعي المصري قصرها على موضوع واحد هو: استدراكات السيدة عائشة على الصحابة من خصائص المرء ذي الطبيعة العلمية أن يكون طُلَعة كثير السؤال، لا يهدأ له بال حتى يرضى طمأنينته ويجلو لنفسه كل خفي مما يحيط به.
وكانت السيدة عائشة بهذه الصفة، ساعدها على بلوغ ما بلغت من المعرفة أنها ربيت في حجر أبي بكر الصديق أعلم الناس بأنساب العرب وأخبار قبائلها وميزات بطونها، فحازت من ذلك علماً كثيراً.
ثم انتقلت إلى بيت الرسول ومهبط الوحي فكانت أقرب الناس من معين العلم، فغرفت منه ما لم يتيسر لأحد غيرها لمكانها منه كزوجة، ولما تفردت به من ذكاء نادر وفكر واسع.
وكلما عظم حظ الإنسان من المعرفة كثر تطلعه إلى ما فوقه.
أما الجاهل فليس بمعنىّ أن يبحث أو أن يسأل، فإذا أصاب من المعرفة حظاً بطريق العرض كان أبعد الناس عن أن تطلب نفسه مزيداً أو تثير له شكوكاً تحدثه بسؤال يسأله وقد أوردت السيدة على الرسول من الأسئلة في كل ما مّر بها من موضوعات: في الفقه والقرآن والأخبار والمغيبات وأمور الآخرة، وفيما يعرض له من أحداث وخطوب، وما يفد عليه من وفود وبعد انتقال النبي ﷺ، كان علم عائشة قد بلغ ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه.
ومع حمل الأصحاب إلى الأمصار طائفة صالحة من الأحاديث والأحكام حتى كانوا ثمة مرجع طلاب العلم ورواة الحديث، بقيت المدينة - لأسباب أهمها وجود عائشة - دار الحديث ومنبع العلم.
فحين يشكل على أهل الأمصار أمر من الأمور، يكتبون إلى أصحاب رسول الله في الحجاز يسألونهم عن حكم الله فيه، فكان هؤلاء إذا فاتهم علم شيء رجعوا إلى علماء بينهم اشتهروا بحمل العلم وفقهه كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعروة وابن الزبير.

تروى عنهم الأحاديث وتنشر الأحكام حتى صاروا مقصد الرواد.
ومقام السيدة بينهم مقام الأستاذ من تلاميذه، فكان عمر بن الخطاب يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء أو بأحوال النبي البيتية، لا يضارعها في هذا الاختصاص أحد من الرجال ولا النساء ويصل إلى مسمع السيدة عن أولئك العلماء روايات وأحكام على غير وجهها، فتصحح لهم ما أخطئوا فيه أو خفي عليهم، حتى عرف ذلك عنها، فصار من شك في رواية أتى عائشة سائلاً، وإن كان بعيداً كتب إليها يسألها.
ومن هنا طار لها ذلك الصيت في التمكن من العلم، ورجع إلى قولها كبار الصحابة كأبيها أبي بكر وعمر وأبنه وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير.

وصار معاوية في خلافته يكتب إليها سائلاً عن حكم أو حديث أو شيء من فعل النبي ﷺ، ولا يطمئن إلى يقين مما يسمع من غيرها حتى يرد عليه جوابها فيبرد صدره وستجد أن خطأ الصحابة كثيراً ما يرجع إلى أنهم حضروا آخر الحديث وفاتهم أوله، وسترى في كل ما تستدرك: صحة النظر وصواب النقد وحضور الذهن وجودة النقاش.
وأغلب الأسباب في تخبط الروايات أن الرواة يستنبطون الحكم من الجملة التي حضروها.
وكثيراً ما يكون الرسول ذكرها في معرض حكاية أو إنكار، وترى ذلك في مرويات أبي هريرة خاصة. وكما استدركت على أبي هريرة ضياع أول الكلام عليه أو آخره، استدركت على كثيرين فهمهم لحديث، أو خطأ استنباط حكم من آية، أو ضلالا في معرفة أسباب النزول، أو اجتهاداً فيه مشقة على الناس، وكان الناس يقعون منها في كل ذلك على علم غزير وفهم حصيف ورأي صائب، ولا غرو فقد كانت السيدة عائشة الملجأ الأخير الذي ترفع إليه مسائل الخلاف والروايات وأحكام الشريعة لتمحيصها والقضاء فيها القضاء الفصل ومن هنا توقن أن حياة السيدة قد بنت مجداً باذخاً لتاريخ المرأة العلمي في الإسلام، بل إن عبقريتها وحدها كفيلة بملء تاريخ كامل، فلست أعلم في عبقريات الرجال والنساء ما يداني مكانة السيدة.
وما أجدر سيداتنا - ونحن في مطلع بعث ونهضة - أن يصلن حلقات هذا التاريخ الذي بدأته امرأة منهن في صدر الإسلام، فتتلمذ عليها مشيخة المهاجرين والأنصار من كل حبر وعالم وفقيه وقارئ وراوية، وعنها وحدها نقل ربع الشريعة كما قال الحاكم في المستدرك، وليس هذا بكثير على من غبرت نحواً من خمسين عاماً بعد وفاة الرسول تنشر سنته وتفنى وتحدث وتستدرك، حتى كونت لنفسها مدرسة من أقوى مدارس الحديث والفقه والتفسير وأوسعها (دمشق) سعيد الأفغاني

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١