أرشيف المقالات

في النقد الألماني

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 صفحة من كتاب اللاوكون طريقة التعبير عن الفن للنقادة ليسنغ للأستاذ خليل هنداوي وهكذا بعد الملاحظة وجدنا أن الفن في العصور القديمة كان يتمتع بمقاييس أكثر اتساعاً، وكان بإمكانه أن يتناول جميع الأشياء الطبيعية المرئية التي يُعد الجمال فيها جزءاً صغيراً، فكانت الحقيقة وطريقة التعبير هما فيه المطلب الأول.
وكما أن الطبيعة تضحي في كل لحظة بالجمال بناء على نظرات لها سامية، فكذلك الفنان نفسه ينبغي له أن يخضع للطبيعة برسمه الموضوع دون أن يطمع في أكثر من الظفر بالحقيقة والتعبير، فإذا انقادا له فقد أوتي القدرة بهما على أن يُحيل القبيح في الطبيعة جميلاً في الفن. هبْ أننا نريد أن نتقبل بدون مجادلة - عمر لحظة واحدة - هذه الأفكار صالحة كانت أم سيئة، أفلا يبقى هنالك مجال فسيح لندرس سبب اضطرار الفنان إلى مراعاته مقياساً خاصاً في التعبير دون أن ينتخب الحالة التي يكون فيها الأثر المرسوم على أشد ثورته.
ولكن مثل هذا الدرس سيكون رده سهلاً بدرس تلك اللحظة الواحدة التي تحدد أوضاعها الأوضاع الفنية.
فإذا كان الفنان في الطبيعة المتقلبة دائماً لا يستطيع أن يلتقط منها إلا لحظة واحدة؛ وإذا كان المصور بعد ذلك لا يستطيع في هذه اللحظة نفسها أن يلتقط إلا جانباً واحداً من جوانبها، وإذا كانت آثار هذا الرسام إنما صُنعت لا ليمد إليها الناظر عينيه فحسبُ، ولكن ليتأمل فيها طويلاً، فان من الحق أن هذه اللحظة الواحدة قد انتخبها المصِّور ولم تكن مخصبة كثيراً.
على أن المخصب حقاً هو ما يترك حقل المخيلة وسيعاً فسيحاً يجول فيه البصر كيف يشاء. وبقدر ما نرى الأثر الفني عميقاً يحتوي جوه على خاطرات كثيرة نرى قدرته على توليد الأفكار، وبقدر ما نرى توليده الكثير للأفكار نتصور أننا نرى فيه أشياء وخواطر كثيرة. في كل مظهر لعاطفة نرى ساعة احتدادها هي التي تنعم بهذا الامتياز وعملك على إبداء هذا التأثير المثير للعين هو أن تسلم بأجنحتك إلى المخيلة، فإذا لم يكن في استطاعة المخيلة أن تعلو فوق ما تريد لها صورة التعبير فهي ولابد هابطة إلى أوضاع دانية، ووراء هذه الأوضاع يُخشى عليها أن تتقيد (بإفراط في التعبير) فيقف بذلك مدى ارتفاعها وسموها.
فإذا تنهد تمثال (اللاوكون) كان في استطاعة المخيلة أن تسمعه يصيح؛ ولكنه إذا صاح أصبحت المخيلة لا تستطيع أن تعلو درجة ولا أن تسقط درجة عما تفرضه الصورة، ولا تقدر أن تفرض جواً له أكثر احتمالاً وإن كان بنتيجته أكثر أعزاء.
وإنما هي مضطرة إلى حالتين: فإما أن تسمعه ينوح وإما أن تراه يموت. وبما أن هذه اللحظة الواحد قد اكتسبت بواسطة الفن خلوداً لا يتغير فلا يجب عليها أن تُعبر إذ ذاك عن شيء يعرض ويزول.
فان كل الحوادث التي تحكم عليها بطبيعتها تبدو وتتوارى فجأة، والتي لا يمكن تمثيلها بحقيقتها إلا لحظة واحدة؛ هذه الحوادث مهما كانت طبيعتها إنما تمثل على قدر الخلود الذي وسمها به الفن منظراً غير طبيعي؛ كلما مددنا إليه أبصارنا ضعف تأثيره فينا حتى لا يبقى بعد ذلك من هذا التأثير وهذا المنظر إلا الملل والسأم. أنظر إلى تمثال (ديموقريطس) الفيلسوف اليوناني الضاحك من جنون الإنسان، فإنه لا يضحك إلا للوهلة الأولى حين تراه، ثم يغدو الفيلسوف بليداً وضحكته تشنجاً ملتوياً، وكذلك الحال في الألم الشديد الذي يرافقه الصياح، فهو إما أن يهدأ، وإما أن يشوه وضع المتألم ويذهب بجماله، وإذا كان الإنسان الجلد القوي لا يقدر على مواصلة الصياح بصورة دائمة، فكذلك الأمر في الصورة التقليدية الفنية تحيل مواصلة الصياح فيها ضعفاً لا يأتيه إلا الأطفال في ساعات الألم.
وهذا ما تحاشاه رسام (اللاوكون) في نفس اللحظة التي لا يضر الصياح فيها مظاهر الجمال، وفي نفس اللحظة التي تبيح له قواعد فنه أن يمثل الألم بدون الجمال. قد أدرك الرسام (تيموماك) بين معاصريه الأقدمين مقاماً سامياً لحذقه التعبير عن الأهواء الجامحة.
فللخلود صنع صورة (اجاكس الغاضب) وصورة (ميدي) الساحرة وهي تقتل أولادها.
وبعد هذه الأوصاف التي جئنا بها نقول: قد اتضح أن الفنان قد وقف على تلك اللحظة التي ترك فيها الناظر سارحاً في تأملاته يدرك من معاني التمثال هذه القسوة العنيفة الملتهبة أكثر مما يرى.

.
فهو لم يأخذ (ميدي) في اللحظة التي قتل فيها أولادها، ولكنه رسمها قبل لحظات حين كانت تتنازعها عاطفتا الأمومة والغيرة.
وإنما نحن نتنبأ نهاية المعركة، ونحن نضطرب إذا نراها في ثورة غضبها ونقمتها.
ومخيلتنا قد تذهب في مسارب أبعد غوراً قبل أن يحملنا الرسام على النزول في مساريه في مثل هذه الساعة الهائلة.
وبهذا وحده نرانا أمام هذا (البقاء) الذي يفرضه الفن لحيرة هذه الأم كمن أرتطم بشيء.
إذ نريد أن يكون الوضع في الطبيعة كهذا الوضع، حيث لا تنتهي معركة الأهواء في النفس، وإذا قدر لها الانتهاء انتهت ناضجة حتى يستطيع الزمن وإدمان التأمل أن يضعفا الغضب ويخففا غرب الحدة، ويحققا انتصار عاطفة الأمومة.
وحكمة هذا الرسام قد رفعته مقاماً عالياً، ووضعت مرتبته فوق مرتبة رسام غيره مجهول، إذ أراد هذا المجهول أن يرسم (ميدي) وكان غير فطن؛ فرسمها في ثورتها العنيفة، فأعطى هذه الثورة الحالية من صفة البقاء ما يتجاوز الحد الطبيعي، وهنالك شاعر نظر إلى هذه الصورة وقد انتقدها بعقل صائب، وناجى الصورة: (هل أنت ظمأى إلى الأبد لدماء أبنائك؟ هل هنالك ولد جديد وابنة جديدة، تجدين من أجلهما غضبك وتصبين سوط نقمتك؟ إلا فاذهبي إلى الشيطان وأنت بهذه الهيئة المرسومة). والصورة الثانية صورة (اجاكس الغاضب) لم يمثله الرسام في غضبه العنيف حين كان يُقيد البهائم ويقتلها بدل الناس، وإنما رسم هذا الرجل بعد هذا العمل الوحشي وقد أنهكه التعب وغلب عليه الوجوم وهو يتأمل في عاقبة عمله.
.
هذه الصورة تمثل حقاً (اجاكس الغاضب) لأنها تمثله في سورة غضبه، ولكن لأنها مثلته بعد غضبه، ولأن الناظر يدرك بواطن هذا الغضب من وراء الوجوم الذي يراه مرتسما على وجهه، واليأس البادي على ملاحمه؛ ألا يرى الناس العاصفة إذا رأوا الخرائب التي دمرتها والجثث التي بعثرتها على التراب؟ (بيروت) خليل هنداوي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١