أرشيف المقالات

التبصر والبصيرة

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2التبصر والبصيرة
الحمد لله المتفرِّد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه وهو اللطيف القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجي قائلها صادقًا من قلبه من أهوال يوم عظيم، يوم يقوم الناس لربِّ العالمين.   مثِّل وقوفكَ يوم العرض عُريانا مستوحشًا قلقَ الأحشاء حيرانَا والنار تلهبُ من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاةِ وربُّ العرش غَضبانا اقرأْ كتابَك يا عبدُ على مَهَلٍ فهل ترى فيه حرفًا غيرَ ما كانا   وأشهد أن سيدنا محمَّدًا عبده ورسوله، صاحب الشفاعة، ولا يدخل الجنةَ إلا من أطاعه، سيد الأولين والآخِرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومَن سار على دربهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين.   أما بعد: نقف اليوم مع خُلُق من أخلاق القرآن الكريم، هذا الخُلق أصبح عملةً نادرةً في زماننا، هذا الخُلق تحدَّث عنه الله في كتابه العزيز، هذا الخلق حثَّ أستاذُ البشرية سيدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أمتَه على التخلُّق به، هذا الخلق يُبعِد تحذف صاحبه عن كل رذيلة ويقربه إلى كل فضيلة؛ إنه خلق "التبصُّر والبصيرة".   فيا ترى ما معنى التبصُّر والبصيرة؟ التبصر: هو التمهُّل والأناة في تبين الأمور وكشفها، والسير في علاجها على بصيرة ورشد، والتبصر بهذا المعنى هو خلُق حث عليه القرآن، وطلب من المسلم أن يكون صاحبَ تفكر وتدبُّر وتمهل، وألا تغُره المظاهر، بل يحاول أن يستنبط حقائق الأمور، ويستدل بالعلامات والإرشادات على النتائج والغايات، فيكون له ذلك مرشدًا يهديه، وقائدًا يقود قلبه وعقله إلى سواء السبيل؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، فإذا هم أهل بصيرة وعلم وتدبر وتفكُّر، فلا يَقبلون لأنفسهم طاعةَ الشيطان ولا التأثُّر بوسْواسه، ويتفطَّنون لمَداخله فيفرون منها.   بل انظر كيف يحرص القرآنُ الكريم على خلُق التبصُّر؟ وذلك عن طريق الأمثال الواعظة؛ فيقول تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ﴾ [فاطر: 19 - 22]، وقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ﴾ [هود: 24]؛ كل ذلك لينبِّه المسلم إلى هذا الخُلق العظيم؛ خلق التبصُّر.   ثم ما هي البصيرة؟ البصيرة: هي نور في القلب يُهتدى به، كما أن البصر هو نور العين الذي ترى به وتبصر الأشياء، والسؤال الذي يطرح نفسه: أيهما أفضل البصر أم البصيرة؟ أصحاب العقول النيرة يفضِّلون البصيرة على البصَر ويقدمونها عليه، وكانوا يقولون: "ليست المصيبة مَن فقدَ بصره، ولكن المصيبة مَن فقدَ بصيرته"، وهناك حكمة عظيمة تقول: "عمى العيون أهون من عمى البصائر".   فكم من رجل أعمى العينين ولكن قلبه مُبصر، فهو بقلبه أهدى العقلاء، وكم من مفتَّح العينَين وبصره فيها حديد، ولكنه أعمى القلب؛ فهو أضل من الأنعام والبهائم، وتأمل قوله تعالى: ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 45، 46].   بل انظر أخي المسلم، نحن إذا دقَّقنا النظر في آي الذِّكر الحكيم، سنجد أنه لم يُرَدْ بالعمى - في أغلب الآيات - المكفوف الذي ذهب بصرُه؛ وإنما أُريدَ من العمى المعنويُّ؛ العمى القلبي، العمى الفكري؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]؛ أي: من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق، فهو في الآخرة أعمى؛ أيْ: أشدُّ عمى وأضلُّ سبيلاً.   قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لما نزلت: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى ﴾ [الإسراء: 72]، سأل ابن أم مكتوم النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت هذه الآية: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]؛ إذًا ليس السعيد من كان مفتَّح العيون؛ وإنما السعيد مَن كان بصير القلب.   قيمة الإنسان عند الله ليست بلون بَشَرته، ولا وسامة مَظهره، ولا أمواله ونَسَبِه ومنصبه؛ وإنما قيمته عند الله في عمله الذي قدَّمه لنفسه، أو في عملٍ صالح نفع به أهلَه وأمَّته، فكم من ضرير نوَّر الله بصيرته وفاق بعلمه وفهمه كثيرًا من الأصحَّاء المبصرين، وكم من مُبصِر له عينان ولكنه أعمى القلب لا بصيرةَ له، وشرُّ العمى عمى القلب، ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].   فتعالَ أخي لنعيش جوًّا إيمانيًّا رائعًا مع سلفنا الصالح، مع الذين فقدوا أبصارهم، كانوا عُميان العيون، ومع ذلك آزرتهم بصائرُهم ولم يستطع العمى أن يَحُول بينهم وبين مواصلتهم خطوات العمل والتوفيق في هذه الحياة.   وأبدأ بالصحابي الجليل الذي غضِب اللهُ له وأنزل في حقِّه قرآنًا يُتلى في سورة سمِّيت بسورة الأعمى؛ إنه عبدالله بن أم مكتوم الذي أقبل يومًا والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشتغل بمن حضَره مِن وجوه قريش يدْعوهم إلى الله تعالى، وقد قَوِيَ طمعه في إسلامهم، وكان في إسلامهم إسلامُ مَن وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - وهو أعمى، فقال: يا رسول الله، علِّمني مما علمك الله، وجعل يُناديه ويُكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقطعه كلامه، فعبَس وأعرض عنه، فنزلت الآية: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾ [عبس: 1، 2]، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا رأى ابنَ أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: ((مرحبًا بمن عاتبني فيه ربِّي))، ويقول: ((هل من حاجة؟)).   عبدالله ابن أم مكتوم لم يمنعه فقْدُ بصره من الجهاد في سبيل الله وطلب العلم، وأن يكون مؤذِّنًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلِّمًا للقرآن في المدينة قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، بل استخلَفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة مرتَين، وكان يوم القادسية راكبًا وعليه درع كالمُقاتلين الأبطال، ويحمل معه راية الجيش السوداء.   بل في ذات يوم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، أنا رجل أعمى، وبيني وبين المسجد وادٍ مسيل، وليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟"، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - المشقَّة، ورأى العذر واضحًا، فقال: ((نعم))، ثم ولى الرجل، فانتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((عليَّ بالرجل))، فرجع الأعمى فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تسمع النداء؟))، قال: نعم، قال: ((فأجبْ))، إنني لا أستطيع أن أرخِّص لك في ترك الجماعة ولو كنت أعمى، ولو كان بينك وبين المسجد وادٍ مسيل، ولو لم يكن لك قائد يقودك إلى المسجد، ما دمت تسمع النداء فأجبْ، فالْتزم هذا الأعمى في محافظته على صلاته في المسجد ولم يتخلَّف عنها.   أنا من خلال هذا المشهد أخاطب كل مَن يتخلف عن الجماعات في المساجد فأقول: إذا كان هذا الأعمى لم يأذنْ له النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يصلي في بيته، فماذا يقول الرجل الصحيح المعافى من الأمراض الذي يتخلف عن صلاة الجماعة؟! ماذا يقول من شغله المالُ والوظيفة والمسلسلات والجلوس هنا وهناك عن صلاة الجماعة؟!   بل هناك من السلف من لم يمنعْه العمى من المنافسة في الخيرات، وكان شعار الواحد منهم: لن يسبقني إلى الله أحد، ولئن حُرمت في الدنيا من نِعَم تمتَّع بها غيري، فلن يحول ابتلائي بيني وبين مرضاة ربي، والآخرة خيرٌ للمتقين؛ هذا الإمام الترمذي، وهو الإمام الحافظ صاحب "سنن الترمذي" المشهورة، وأحد أصحاب الكُتب الستَّة المشهورة في الحديث - كان - رحمه الله - أعمى، ولكنه أوتي من المواهب والأخلاق ما جعله من كبار العلماء، فبَرَع في علم الحديث وحَفِظه وأتقنه، وطاف البلاد، وسمع من كبار العلماء، وألَّف وصنَّف عددًا من الكتب النافعة، من أهمها: "سنن الترمذي"، و"الشمائل المحمدية"، فأين نحن من هؤلاء الرجال؟   وهذه زِنِّيرَةُ - رضي الله عنها - كانت أمَةً لدى واحدة من نساء قريش، شرَح الله صدرها للإسلام، فآمنتْ وشهدت شهادة الحق، فكانت سيدتُها تعذِّبها، وتأمُر الجواري أن يضربْنَ زِنِّيرَةَ على رأسها، ففعلنَ حتى ذهب بصرها، وكانت إذا عطشت وطلبت الماء قُلنَ لها متهكِّمات: الماء أمامك فابحثي عنه، فكانت تتعثَّر، فاشتراها أبو بكر وأعتقَها، فجاءها المشركون فقالوا لها: "لو أنك بقيتِ على ديننا ما ذهب بصرُك، أرأيت كيف غضبتْ عليك الآلهة؟ عُودي إلى الآلهة لتردَّ عليك بصرَك"، فقالت لهم بلسان اليقين، بلسان الثقة بالله: "والله لا يملك الأمرَ إلا اللهُ، هو القوي العزيز الناصر الرازق، اللهم ردَّ عليَّ بصري"، وما هي إلا لحظات حتى استجاب الله دعوتها وردَّ عليها بصرها، فقالوا: هذا سحر محمد - صلى الله عليه وسلم. وإذا رُميتَ من الزمان بريبةٍ أو نالك الأمرُ الأشدُّ الأصعبُ فاضرعْ لربِّك إنه أدنى لِمَن يدْعوه من حبْل الوريد وأقربُ   وهذا سيدنا سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أُصيبَ بالعمى على كِبَر، فقال له أولاده: يا أبانا، لماذا لا تدعو الله أن يردَّ عليك بصرك؛ فأنت مجاب الدعوة؟ فقال لهم سيدنا سعد: والله إني أستحيي أن أسأله ذلك، ولكن أسأله أن يدَّخر لي ذلك عنده في الآخرة.   لقد علِم سيدنا سعد بأن الذي يفقد أحدَ كريمتيه فيصبر، فليس له جزاء إلا الجنة؛ فهذا سيدنا أنس - رضي الله عنه - يقول: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - قال: إذا ابتلَيتُ عبدي بحبيبتَيه فصبر، عوَّضتُه منهما الجنَّة))؛ يريد عينيه؛ رواه البخاري.   هذه هي غيض من فيض من مواقف أصحاب العيون المغمضة، التي ظلت وستظل شاهدةً على قوة إيمانهم وصبرهم وثباتهم على الحق، فكأنهم من خلال مواقفهم يخاطبون أصحابَ العيون المفتَّحة، فيقولون لهم: أين أنتم من مواقفنا؟ ماذا قدَّمتم لآخِرتكم؟ كيف حالُكم مع صلاة الجماعة في المساجد؟ كيف حالكم مع كتاب الله؟ كيف حالكم مع الله؟ هل ابتعدتم عن المعاصي والذنوب؟ هل ابتعدتم عن التعامُل بالحرام؟ هل ابتعدتم عن الظلم؟   إن صاحب البصيرة هو من يحافظ على الصلاة في وقتها مع الجماعة، هو من له وردٌ من كتاب الله تعالى، هو من يسعى لنفْع الناس، هو من يُقدِّم طاعة لله، هو الذي لا يكذب ولا يغش ويظلم ولا يتعامل بالربا، هو من يحفظ أسرته وأهلَ بيته من نارٍ وقودُها الناسُ والحجارة، هو من يعمل بكتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام.   وأختم كلامي بهذا الموقف الذي يُبيِّن لنا حالَ صاحب البصيرة، كيف يكون حاله مع الله: مرَّ سيدنا الحارث بن مالك الأنصاري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ((كيف أصبحت يا حارث؟))، قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا، فقال: ((انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقةً، فما حقيقة إيمانك؟))، فقال: قد عزفتْ نفسي عن الدنيا، وأسهرتُ لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: ((يا حارث، عرفت فالْزم)) ثلاثًا.   أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم حبَّه، وحبَّ من يحبه، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم اجعل ما رزقتنا عونًا لنا على ما تُحبُّ.



شارك الخبر

المرئيات-١