أرشيف المقالات

مذكرات في علوم التفسير (4)

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2مذكرات في علوم التفسير (4) "مقرر السنة الخامسة"   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين؛ نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم تسليمًا مزيدًا إلى يوم الدين. أما بعد، فهذه مذكرات في علوم القرآن، أمليتُها على طلبة الصف الخامس بدار التوحيد السعودية، مراعيًا فيها أن تكون تكملة لما أمليتُه عليهم مِن هذا الفن في الصف الرابع، راجيًا من الله النفع والقبول؛ إنه أعظم مسؤول، وأكرم مأمول.   أهم كتب التفسير بالرأي: علمت مما تقدم لك في الصف الرابع أنَّ التفسير بالرأي ينقسم إلى قسمين: جائز، وهو الممدوح، وغير جائز، وهو المذموم، وقد أُلِّفت في كل من القسمين كتب كثيرة، سيأتي لك التعريف بأشهرها.   أشهر المؤلفين في القسم الأول (الجائز) من أشهر المؤلفين في التفسير بالرأي المحمود: 1- ناصر الدين أبو سعيد عبدالله بن عمر البيضاوي؛ له تفسير "أنوار التنزيل وأسرار التأويل". 2- أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي؛ له التفسير المسمى: "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم". 3- نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري؛ له التفسير المسمى: "غرائب القرآن ورغائب الفرقان". 4- محمد الشربيني الخطيب؛ له التفسير المسمى: "الصراط المنير في الإعانة على معرفة كلام ربنا الخبير". 5- عبدالله بن أحمد بن محمود النَّسَفي؛ له التفسير المسمى: "مدارك التنزيل وحقائق التأويل". 6- علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي؛ له تفسير "الخازن".   التعريف بتفسير البيضاوي • هو كتاب جامع بين التفسير والتأويل على مقتضى قواعد اللغة العربية، قرَّر فيه الأدلة على أصول أهل السنة. • يمتاز بدقة العبارة وجمع الأقوال باختصار، غير أنه روى في آخر تفسير كل سورة أحاديث ضعيفة في فضلها ولم يتحرَّ في ذلك الصحة. • وقد كُتبت عليه حواشٍ كثيرة، أهمها: حاشية الشهاب الخفاجي؛ وهي ديوان أدب، وفيها من الفنون المختلفة ما يدل على وفرة العلم وسعة الاطلاع.   تفسير أبي السعود • من أهم مميزات هذا التفسير: عنايته بفنون البلاغة، وحرصه على إبرازها وتقريرها، وبخاصة في باب الفصل والوصل ووجوه المناسبات بين الآيات، وقد خلا من كثير من القصص الإسرائيلي، وجرى على قواعد أهل السنة، غير أن في أسلوبه بعض تعقيد يحتاج إلى إعمال فكر ودقة نظر.   تفسير النيسابوري هو خلاصة لما في تفسير الفخر الرازي، وفيه زيادة عليه ما يأتي: أ- وجوه القراءات المفصلة. ب- التفسير الإشاري؛ وسيأتي الكلام عليه. جـ- سهولة عبارته وخلوه من الحشو. د- إيراده لبعض الإشكالات وإجابته عنها. ويُعتبر تفسير النيسابوري من أجلِّ التفاسير قدرًا وأعظمها شأنًا.   تفسير النَّسَفي كأنه مختصر من تفسير الكشاف، غير أنه مخالف له في الطريقة؛ فهو على مذهب أهل السنة، والكشاف على مذهب المعتزلة. وكتاب النسفي كتاب جليل - مع اختصاره - مشتمل على فوائد نافعة؛ ولذلك اعتمده كثير من الدوائر العلمية.   تفسير الخطيب والخازن كلاهما مشتمل على القصص الإسرائيلي بتوسُّع، وقد اعتنى صاحب الخازن بتقرير الأدلة في بعض المواضع، بخلاف الخطيب؛ فإن المأثور فيه - مع حذف الأسانيد - أكثر، وهما كتابان جليلان إذا استثنينا بعض القصص.   هذه أهم الكتب المتداولة - عدا تفسير الألوسي - ولو شئنا أن نذكر المفسرين من هذا القسم ونعرف كل كتاب بإسهاب، لخرجنا عن قصد الاختصار.   أشهر المؤلفين في القسم الثاني (غير الجائز) 1- الزمخشري: له كتاب "الكشاف". 2- القاضي عبدالجبار: له كتاب "تنزيه القرآن عن المطاعن". وسنتكلم عليهما بالتفصيل.   التعريف بالزمخشري والكشاف هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، النحوي اللغوي المتكلم المعتزلي المفسر، الملقب بـ"جار الله". ولد في رجب سنة 467هـ بـ"زمخشر" قرية من قرى خوارزم، وتوفي سنة 538هـ. كان متظاهرًا بالاعتزال داعية إليه، وكان علامة زمانه، فريدًا في الأدب، ونسابة العرب، وكان إمام عصره؛ برع في اللغة والنحو والبلاغة، وما دخل بلدًا إلا واجتمع عليه أهلها وتتلمذوا له. صنف كتبًا مفيدة، منها: كتاب "الكشاف"؛ وهو كتاب مهم في تفسير القرآن الكريم، له فيه آراء مفيدة، تكلم فيه على وجوه الإعجاز في غير ما آية فأفاد وأجاد، وبيَّن أسرار البلاغة وأشار إلى دقائق في النظم الكريم، ولولا ما في كتاب الكشاف من تأييد مذهب المعتزلة - بحمْل النظم الكريم عليه ولو بالتأويل البعيد - لكان خير مرجع وأعظم ديوان؛ لذلك ينبغي لكل من تمكَّن في أصول الدين ووقف على الأدلة اليقينية - أن يطالع الكشاف بإمعان؛ فإنه من أمهات كتب البلاغة القرآنية.   ومما امتاز به كتاب الكشاف ما يأتي: 1- خلوُّه من الحشو المُخل والتطويل المُمل. 2- سلامته من القصص الإسرائيلي. 3- اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم في كثير من المواضع. 4- عنايته بعلمي المعاني والبيان بأحسن بيان؛ فقد يفيض في كثير من النكت البلاغية قصدًا إلى ما في القرآن الكريم من بلوغه الغاية في البلاغة تحقيقًا لدرجة الإعجاز. 5- تحقيقه لمذهب المعتزلة في كثير من الآيات على طريقة أهل الكلام. 6- بيانه لما يقصد إيضاحه بطريق السؤال والجواب في مواضع كثيرة؛ فيقول في السؤال: "فإن قلتَ:..." إلخ، ثم يقول في الجواب: "قلتُ:..." إلخ.   نماذج من تفسير الكشاف: أ- المنزلة بين المنزلتين. ب- لا يفعل القبيح؛ فأفعال العباد مخلوقة لهم. جـ- إنكار الرؤية.   المثال الأول: في إثبات المنزلة بين المنزلتين: قال الزمخشري في تفسير قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ الآية [البقرة: 3]: "فإن قلتَ: ما الإيمان الصحيح؟ قلتُ: أن يعتقد الحق، ويُعرب عنه بلسانه، ويصدقه في عمله؛ فمَن أخلَّ بالاعتقاد - وإن شهد وعمل - فهو منافق، ومَن أخلَّ بالشهادة فهو كافر، ومَن أخلَّ بالفعل فهو فاسق". فقد فَسر الإيمان بناءً على معتقده، وهو وجود منزلة بين منزلتين. ويرد عليه اللغة والشرع؛ أما اللغة: فمعنى الإيمان التصديق، وأما الشرع: فعَطْف العمل عليه في كثير من الآيات يقتضي أنه غيره، وأن الإيمان يحصل بدون العمل.   المثال الثاني: قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]: "وإسناد الرزق إلى نفسه؛ للإعلام بأنهم ينفقون الحلالَ المطلَق، الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى" اهـ.   وهذا يقتضي أن الرزق الحلال من الله، وأن الرزق الحرام من العبد؛ جريًا على قاعدة "لا يفعل القبيح"؛ وذلك مخالِف لقوله تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ ﴾ [فاطر: 3]، فالله سبحانه هو الخالق وهو الرازق وحده.   المثال الثالث: في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185]. قال الزمخشري: "ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي، ونيل رضوان الله والنعيم المحقق..." إلخ اهـ. فتراه يقرِّر أنَّ أعظم الفوز هو النجاة من النار والظفر بالجنة، وأنْ لا فوزَ وراء ذلك؛ وفي هذا إنكارٌ للرؤية بطريق التعريض لا التصريح، وقد أنكر الرؤية صراحةً؛ حيث فسر آية الأنعام - وهي قوله تعالى: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾ [الأنعام: 103] - طبق معتقده، فقال: "البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركَّبه الله في حاسة النظر، وبه تدرك المبصرات؛ فالمعنى: أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه؛ لأنه متعالٍ أن يكون مبصرًا في ذاته؛ لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلًا أو تابعًا كالأجسام والهيئات"؛ اهـ.   ويرد عليه بأنَّ المنفي في الآية إنما هو الإدراك الذي هو الإحاطة، لا أصل الرؤية؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ﴾ [يونس: 90]؛ أي: أحاط به، وقوله حكايةً عن أصحاب موسى: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]؛ أي: مُحاط بنا، وأما مجرد الرؤية بدون إحاطة، فليس بمنفي. ولم يذكر الزمخشري دليلًا عقليًّا على استحالة الرؤية، ولكنه اقتَصر على استبعاد أن يكون المرئي في غير جهة.   ونقول له: إن منشأ ذلك الوهم - الذي يُستبعَد أيضًا - أن يكون الموجود في غير جهة، والعقل السليم يبطل هذا الوهم ويجيز الأمرين معًا، وكما نقول: لا تحيط به العقول مع حصول المعرفة، نقول: لا تحيط به الأبصار مع حصول أصل الرؤية.   ومما يدل على ثبوت أصل الرؤية من القرآن: قوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وقد جعل الله الحجب عنه عقابًا للكافرين؛ حيث قال: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، فتكون الرؤية ثوابًا للمؤمنين. وفي السنة أحاديث صريحة في إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة.   كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن هو كتاب في تفسير القرآن بالرأي على مذهب المعتزلة. ألفه القاضي عبدالجبار بن أحمد البغدادي؛ شيخ المعتزلة في عصره. استدعاه الصاحب إلى الرَّيِّ بعد سنة 360هـ، فبقي فيها مواظبًا على التدريس، إلى أن توفي رحمه الله سنة 415هـ.   ويمتاز هذا الكتاب بما يأتي: 1- ذكر الشبه والإجابة عنها، وذكر مسائل تتضمن كل مسألة سؤالًا وجوابًا في الآية. 2- لم يتعرض فيه لتفسير القرآن جميعه؛ وقد يَذكر من السورة الطويلة آياتٍ تُعد، مكتفيًا بما يستطيع تأويله على مقتضى عقيدته وإن كان بعيدًا. 3- أيَّد فيه مذهب المعتزلة في كثير من الآيات كما سلك صاحب "الكشاف". 4- تعرض لدفع شبه ربما ترد على ظاهر القرآن، فأبطلها بما هو آية في التحقيق وغاية في التدقيق، لولا ما يَعرِض في ثنايا كلامه من حمْل القرآن على مذهبه. وبالجملة، فإن هذا الكتاب - على صغر حجمه وعدم إطالته - قد حوى كثيرًا من الفوائد؛ فلا ينبغي أن يُترَك ما فيه من خير كثير بسبب ما في ثناياه من رأي كليل، بل الواجب أخْذ زُبده وطرح مخضه.



شارك الخبر

المرئيات-١