أرشيف المقالات

شكر النعم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
شكر النعم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فإن نعم الله علينا لا تحصى وإن عُدَّت، وأنفسنا في شكرها مقصرة وإن اجتهدت، وسنُسأل عنها إذا القبور بعثرت، وإذا الصحف نُشرت، فهل شكرنا المنعم الكريم، وهل تدبرنا قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8].
 
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني.
 
هل نستشعر النعم التي نتمتع بها ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، أم أن اعتيادنا عليها أنسانا شكر الله تعالى، قال سبحانه: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].
 
لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وأسجد له ملائكته، وسخر له هذا الكون، قال سبحانه: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13].
 
رأى بكر بن عبد الله المزني حمالًا عليه حمله وهو يقول: الحمد لله، أستغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا قال: بلى أحسن خيرًا كثيرًا اقرأ كتاب الله غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة، وأستغفره لذنوبي، فقلت: الحمال أفقه من بكر.
 
أيها الأحبة في الله، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي، وصححه الألباني.
 
وقوله: (آمِنًا فِي سِرْبِهِ)؛ أي: في نفسه، وقيل: السرب: الجماعة، فالمعنى: في أهله وعياله.
 
قال مطرف بن عبدالله: لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أبتلى فأصبر، وقال الشعبي: الشكر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.
 
من رزق شكر الله على النعم، فهو بحاجة إلى شكر الله تعالى مرة أخرى على أن وفَّقه لشكره، فهذه نعمة أخرى تحتاج إلى شكر، كما قيل:

إذا كان شكري نعمة الله نعمةً
علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
وإن طالت الأيام واتصل العمر

إذا عم بالسراء عم سرورها
وإن خص بالضراء أعقبها الأجر

 
أيها الإخوة الكرام، أمرنا الله تعالى أن نشكره على النعم ووعد من شكره بالمزيد، ومن كفر بالعذاب الشديد، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
 
فلنتأمل في نعم الله تعالى حتى تزداد في قلوبنا عظمة الله، وحبه وخشيته، وحتى نقبل على الله تعالى ونشكره على نعمه.
 
وإن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نعمة الإيمان والهداية، فمن رُزق الإيمان بالله وطاعته، فقد رزق الخير كله، وفاز الفوز العظيم، ولن يضرَّه إن مات فقيرًا، أو مطاردًا، أو مريضًا، ومن لم يرزق الإيمان به، فقد فاته الخير كله، وإن ملك كل متاع الدنيا الفاني؛ قال الله تعالى: (﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
 
لقد أكرمنا الله بالإسلام، وضل عنه مليارات البشر، يتخبطون في ظلمات الكفر ويتجرعون مرارات المعاصي، وغصص الإعراض عن ذكر الله.
 
قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].
 
وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
 
فأعظم شكر لله تعالى أن نتمسك بهذا الدين العظيم، وأن نكون دعاة إليه بكل ما نستطيع من وسائل مشروعة.
 
وشكر الله تعالى ليس مقصورًا على الشكر باللسان، وإنما المطلوب أيضًا أن يكون الشكر بالعمل بالجوارح والأركان، وذلك بطاعة ربنا الرحمن؛ قال سبحانه: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ﴾ [سبأ: 13].
 
ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل حتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، قِيلَ له: أَتَكَلَّفُ هذا؟ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، قالَ: أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)
؛ رواه البخاري ومسلم.
 
وقد أمر الله تعالى بشكره في كتابه العزيز، فقال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].
 
وقال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].

وللشكر ثمرات عظيمة من أعظمها رضا الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7].

وكما أن شكر الله بالعمل الصالح يزيد النعم ويبارك فيها، فإن كفران النعم المعاصي والآثام يمحق ويزيلها؛ قال سبحانه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
 
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: قيدوا نعم الله بشكر الله.

وقال ابنُ القيم رحمه الله: "المعاصِي نارُ النعَم تأكلُها كما تأكُلُ النارُ الحَطَبَ".
 
وإذا رأيت العاصي يُعطى من النعم فاعلم أنه استداجٌ من الله، قال سبحانه: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 182، 183].
 
ومن مظاهر كفر النعم الإسراف والتبذير؛ قال سبحانه: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].
 
وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].
 
ومن أنكر نعم الله عليه، فقد خالف أمر الله تعالى، وجحد النعم، فالله تعالى أمر بالتحدث بالنعمة، فقال سبحانه: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11].
 
فكم نعصي الله تعالى بنعمه، وكم ننظر إلى ما عند غيرنا من النعم وننسى ما عندنا.....
 
سبحانه وتعالى ما أحلَمه، سبحانه ما أعظمه، فله الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شاء من شيء بعد؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ [العاديات: 6]؛ يعني لجحود.
 
أيها الكرام، من أراد أن يعرف نعم الله عليه فلا ينظر إلى من هو فوقه ممن أُعطي أكثر منه من زهرة الدنيا الفانية، وإنما ينظر إلى من هو دونه، قال سبحانه: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131].
 
وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية العظيمة التي مَن عَمِلَ بها رُزق القناعة والرضا، وشكر الله على النعم، ففي الحديث: (انظُروا إلى من هو أسفلَ منكم، ولا تنظُروا إلى من هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ ألا تزدَروا نعمةَ الله عليكم)؛ متفق عليه.
 
اللهم اغفِر لنا تقصيرنا في شكرك، وبارك لنا وزدنا من فضلك، وارزُقنا شكر النعم، فمنك أعظم الجود والكرم.
 
لا إله إلا أنت سبحانك، ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.
 
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢