أرشيف المقالات

مفهوم الإعالة بين المعنى اللغوي والواقع القضائي

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2مفهوم الإعالة بين المعنى اللغوي والواقع القضائي   توسع القضاء في العصر الحديث في قضاء التوثيق والإثبات، بسبب توسع الحياة المعاصرة، وأصبح القضاء يقوم إضافة إلى قيامه بفصل الخصومات وإيقاع العقوبات: إلى القيام بتوثيق الحقوق، وإثبات الأحوال والوقائع عبر ما يسمى اليوم بــ"الإنهاءات".   والإنهاءات الأصل أنها غير محصورة، بمعنى أن لها أنواعاً كثيرة ومتجددة، لكن أصولها معلومة، وإجراءاتها معروفة، فقد يُطلب من بعض المحاكم إنهاءات لا تُطلب في محاكم أخرى؛ لأسباب اقتضتها الأحوال والظروف؛ كإثبات وثائق التملك المؤقتة، وإثبات التضرر من السيول وغيرها.   ومن الإنهاءات المستحدثة في هذا العصر، والتي يكثر طلب إثباتها لدى القضاء، وتعد من أكثر الإنهاءات إثباتاً لدى المحاكم: إثبات الإعالة، وذلك أن كثيراً من الدوائر الحكومية تطلب إثبات الإعالة استكمالاً لبعض خدماتها، كما في الإعانات المالية، والمنح السكنية، والنقل الوظيفي، وصرف المستحقات التقاعدية، وكذلك القيام بشؤون غير الراشدين والقاصرين من سفر وتعليم وغيره.   ومن الإشكالات في فقه الإعالة: تحديد مفهومها والمقصود بها، فهناك أشكال في تعريف بعض الباحثين المعاصرين للإعالة وبين الواقع العملي القضائي في إثباتها، وحقيقة هذا الاشكال أنه خلاف في مفهوم مصطلح الإعالة بين التنظير الفقهي المعاصر والواقع العملي القضائي.   وبالعودة إلى ما جاء في معنى الإعالة في التراث الفقهي، نجد أن كلمة الإعالة ورد اشتقاقها في السنة النبوية في أحاديث كثيرة، منها ما روي عن أنس بن مالك –رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو» وضم أصابعه، أخرجه مسلم، وتناول شراح الحديث تفسير الإعالة بمعناه اللغوي وأن عال بمعنى أنفق، يقال عال عياله: قاتهم وأنفق عليهم [مختار الصحاح، ص405]، جاء في كتاب: [مطالع الأنوار على صحاح الآثار، 5/56]: (قوله: "مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ" أي: مانهما وقام بنفقتهما، وأصله من العول وهو القوت)، وجاء في كتاب: [عمدة القاري ، 6/237]: (يُقَال عَال الرجل عِيَاله يعولهم إِذا قَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من قوت وَكِسْوَة وَغَيرهمَا، وَقَالَ الْكسَائي يُقَال عَال الرجل يعول إِذا كثر عِيَاله واللغة الجيدة أعال يعيل).   وقد بحثت عن تعريف فقهي لمصطلح الإعالة عند الفقهاء المتقدمين فلم أقف على شيء رغم بذل الوسع، وأما الباحثين المعاصرين فقد ساروا في تعريفهم للإعالة على ما ورد في المعنى اللغوي، جاء في كتاب: [الإنهاءات الثبوتية بالمحاكم الشرعية، 2/956] بأن الإعالة: (من الإعانة، وتطلق على قوت العيال، يقال: عال الرجل عياله: إذا قام بما يحتاجون إليه من طعام وكساء وغيرهما)، وقد نقل ذلك عن كتاب: [القاموس الفقهي في مادة عال].   وعرفها الشيخ محمد بن إبراهيم الصايغ في كتابه: [المصطلحات الإجرائية والتوثيقية في المحاكم وكتابات العدل، ص28] أن (إثبات الإعالة يقصد به: وثيقة رسمية تصدر من المحكمة يثبت فيه أن المنهي يصرف من ماله الخاص على المنهى عليه ويراعي شؤونه).   وذكر الشيخ سليمان بن إبراهيم الأصقه في كتابه: [مذكرة في القضايا الإنهائية، ص50] أن (الإعالة تعني النفقة، يقال عال عياله يعولهم عولاً وعيالة أي قاتهم وأنفق عليهم).   والمتأمل في التعريفات السابقة يجد أنها حصرت معنى الإعالة بالإنفاق بناء على المعنى اللغوي: أن الإعالة من عال بمعنى أنفق، وهذا المعنى يخالف الواقع العملي لمعنى الإعالة التي يُطلب إثباتها في المحاكم، وذلك أن الإعالة تطلب في أحيانٍ كثيرة لغير معنى الإنفاق كما في حالات النقل الوظيفي، فإن الموظف الذي يرغب بالنقل عند والديه وأهله حقيقة طلبه أنه يطلب إثبات قيامه على رعاية والديه وأهله بدنياً وليس مالياً، لأن ماله يصل إليهم وهو في غربته؛ ومثل ذلك في حالات طالبي الإعالة غير المكتسبين الذين يطلبون إثبات قيامهم على المعالين بتدبير أمورهم ورعاية شؤونهم، كالأرامل والمطلقات غير المكتسبات في قيامهن بتدبير أمور أولادهن وإن لم يكن لديهن مال ينفقنه على من يعُلن، بل كثير منهن يتقدمن للمحكمة لإثبات إعالتهن لأولادهن لضيق الحال حتى يجدن من يساعدهن في رعاية أولادهن؛ وكذلك الأبناء غير المكتسبين في طلبهم إثبات إعالتهم لآبائهم للسفر بهم ومرافقتهم ورعايتهم، ولو كانوا أغنياء فقد يكونوا كباراً أو مرضى بحاجة أولادهم لمساعدتهم بدنياً لا مالياً؛ وكذا في صور كثيرة لطلبات الإعالة ليس فيها معنى النفقة.   والعمل جار في القضاء أن معنى الإعالة أوسع من الإنفاق، وقد عقب الشيخ سليمان بن إبراهيم الأصقه على التعريف الذي أورده لمعنى الإعالة بأنه يدخل في معنى الإعالة عملياً رعاية الشؤون والقيام بالمصالح، فالحقيقة أن هناك استعمال لمعنى الإعالة يختلف عن المعنى اللغوي الذي بنى عليه الباحثون المعاصرون تعاريفهم، وهذا المعنى الواسع للإعالة صار عرفاً عملياً في المحاكم وعند الجهات الحكومية طالبة إثباتات الإعالة، وبناء عليه يمكن تعريف الإعالة بعد الاطلاع على المعني اللغوي، والتعريفات المعاصرة، والتأمل في الواقع العملي وصوره، بما يلي: هي القيام بشؤون الغير، وتدبير أموره، ورعاية مصالحه، أو الإنفاق عليه. وهذا المعنى للإعالة هو المترجح لأمور منها:   أولاً: أن القاعدة الأصولية حمل اللفظ على الحقيقة العرفية مقدم على الحقيقة اللغوية [التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، للمرداوي، 6/2699]، يقول الإمام الأصولي محمد الأمين الشنقيطي [مذكرة في أصول الفقه، ص274]: (واعلم أن التحقيق حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية، ثم العرفية، ثم اللغوية، ثم المجاز عند القائل به إن دلت عليه قرينة). ثانياً: أن هذا المعنى هو المتوافق مع روح الأنظمة والتعليمات المتعلقة بالإعالة، فالْمُتأمل لها يجد أنها تُوسع معنى الإعالة ولا تَقَصُرُه على الإنفاق. ثالثاً: أن هذا المعنى فيه تحقيق لمصالح المسلمين، وتلبية لطلباتهم، ويظهر هذا جلياً فيما ذكرته من صور وأمثلة، وما سأذكره عند بيان ثمرة البحث في هذا الموضوع. رابعاً: أن هذا المعنى ليس غريباً على اللغة، فقد جاء في لسان العرب [10/340] أن العَوْل: المستعان به، يقال: عَوّلْ عليه أي استعن به، وعَوَّل عليه: اتكل واعتمد، وذكر الزبيدي في تاج العروس [30/73] أن العول: المستعان به في المهمات.   قد يتساءل البعض عن ثمرة البحث في هذا الموضوع؟!، والحقيقة أن الثمرة كبيرة جداً تظهر عند التطبيق العملي، فمثلاً إذا تقدم للقضاء غير المكتسبين ولا مال لديهم كالمطلقات والأرامل غير العاملات يطلبن إثبات قيامهن على أولادهن بالرعاية والقيام بالشؤون والمصالح، فعلى المعنى الأول أن الإعالة بمعنى النفقة فإنه لا تثبت إعالتهن لأولادهن، وعلى المعنى الثاني وهو أن معنى الإعالة أوسع من النفقة فتشمل القيام بالشؤون ورعاية المصالح فإنه يُثبت إعالتهن لأولادهن..
وكذا في إعالة الوالدين المرضى إذا كانا أغنياء فعلى المعنى الأول لا تثبت إعالة الابن لوالديه الكبار المرضى إذا كانا أغنياء، وعلى المعنى الثاني تثبت إعالته لهما لقيامه برعايتهما.   أخيراً فإنه مع كثرة طلبات الإعالة التي ترد المحاكم إلا أن الكتابات في أحكامها وإجراءاتها قليلة، والحاجة قائمة وماسة إلى المزيد من البحث والتحرير لكثير من أحكام الإعالة ومسائلها، اسأل الله الإعانة والنشاط للمساهمة في تجلية وتحرير شيء من أحكامها ومسائلها.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد    



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢