أرشيف المقالات

أسماء النبي صلى الله عليه وسلم (1)

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2أسماء النبي صلى الله عليه وسلم (1) [*]   عن جُبَيْر بن مُطْعم رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لي خمسةُ أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللهُ بي الكفرَ، وأنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ الناسُ على قَدَمي، وأنا العاقِبُ))؛ رواه الشيخان واللفظ للبخاري[1].   الأسماء النبويَّة: لا يريد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُحدِّدَ أسماءه الشريفة بهذا العدد تحديدَ أصابع اليد، وإلَّا لم يُحدِّثنا بأنَّ له أسماءً غيرها كثيرة؛ وإنما أراد أنَّ لها من الفضائل والمزايا ما ليس لغيرها، كما يُنْبئ عن ذلك تفسيرها، أو أنه اختُصَّ أو اشتهر بها في أمته والأمم التي قبلَها.
ولا يريد صلى الله عليه وسلم بذكر أسمائه أن نُعدِّدها ونردِّدها ونتباهى بها، وإنما أراد أن نتدبَّر ما احتوت عليه مِن معانٍ سامية، أو أشارت إليه مِن آداب عالية، فنسموَ بها، ونتحلَّى بأخلاقها، حتى نرفع رؤوسنا، ونكون جدراء بالانتساب إليه.   خصوص الأسماء النبويَّة وعمومها: فأمَّا الخاصُّ فهو الذي لا يشركه فيه غيره مِن الرسل، كهذه الأسماء الخمسة، والمُقَفَّى[2] وهو الذي قفى من قبله فكان آخرهم، ونبيُّ المَلْحَمَة[3] وهو الذي بُعث ليجاهدَ أعداء الله جهادًا كبيرًا.
وأما العام فهو الذي يشاركه في معناه غيره من الرسل، ولكنْ له منه ذِرْوتُه وكماله، فَضْلًا من الله عظيمًا، وذلك كرسول الله ونبيِّه وعبدِه، والشَّاهدِ والبشيرِ والنذيرِ، ونبيِّ الرحمة، ونبيِّ التوبة.   كثرة أسمائه الشريفة وأوصافه المنيفة صلى الله عليه وسلم: مَنْ تدبَّر أسماءَه صلوات الله وسلامه عليه لم يَجِدْها أعلامًا محضةً لمجرَّد التعريف، كما هو الشأن في أسماء الناس؛ بل يجدها مشتقةً من صفات قائمة به، تُوجب مَدْحَه، وتشيرُ إلى كماله..
وأسماء الأنبياء ليست أعلامًا مجرَّدة؛ ولكنها مع العَلَميَّة نعوتٌ وصفاتٌ تُوجب لموصوفها السَّناء والثناء كما يليق به، وكثرة الأسماء والصفات دليلٌ على العناية بأصحابها، ومن هنا قيل: إنَّ كثرة الأسماء برهانٌ على شرف المُسمَّى.   أمهات الأسماء النبوية وأصولها: وَحَسْبُنا في حديثنا هذا أن نلمَّ بمعاني هذه الأسماء الخمسة؛ فإنَّها أمهات الأسماء النبويَّة وأصولها، ومن ابتغى زيادةً في البسط والتفصيل، فليرجع إلى "زاد المعاد"[4]، و"جلاء الأفهام"[5]، وكلاهما لشمس الدين ابن القيِّم، ثمَّ إلى "المواهب اللَّدنيَّة وشرحها"[6]، وعلى هذه الثلاثة أكثرُ تعويلِنا في شرح هذه الأسماء.   مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: ومحمَّدٌ اسمه الأشهرُ الذي سمَّاه الله به في غير آية مِن كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144]، ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].   ومحمدٌ اسمه الأسبق الذي سمَّاه الله به في التوراة، على ما حقَّقه وارتضاه ابن القيِّم في كتابيه السَّابقين، خلافًا لما ذهب إليه أبو قاسم السُّهيلي والقاضي عياض على ما نشير إليه.   أحمد صلى الله عليه وسلم: وأمَّا أحمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي يلي محمدًا في فضْله وسَبْقِه وشُهرتِه، حتى كأنَّه هو، في كلِّ معنى يتَّصل به أو يرمز إليه[7]، ولا عَجَبَ إذا كان كلاهما منقولًا من الحَمْد؛ فهو يتضمَّنُ الثناء على المحمود، كما يتضمَّن محبته وإجلاله وتعظيمه واتِّباعه في كلِّ ما جاء به.

وإذا غَلَبَ على الأول أنه المحمود حَمْدًا بعد حَمْد، عند الله وعند ملائكته وعند إخوانه المرسلين من قبله، وعند أهل الأرض جميعًا - بَلْهَ الجاحدين والجاهلين منهم - وعند الأمم قاطبةً في موقف الحشر؛ فقد غلب على الثاني أنه أحقُّ الناس وأولاهم بأن يُحمد هذا الحمد، فالاسمان كلاهما واقعان - كما اختار ابن القيِّم - على صيغة المفعول، والفرقُ بينهما أنَّ محمدًا كثيرُ الخصال التي يُحمد عليها، وأحمد هو الذي يُحمد بحقٍّ أكثرَ مما يُحمد غيرُه؛ فمردُّ الأول إلى الكَثرة والكميَّة؛ ومردُّ الثاني إلى الصِّفة والكيفيَّة، وأيًّا ما كان الأمر، فقد أُوتِي صلى الله عليه وسلم من خصال الثناء والحمد ما لم يُؤْتَ أحد؛ فكان أعظمَ من حُمِد، وأجلَّ من حُمد، وسبحان من لا ينتهي عطاؤه عند حد.   اسمه صلى الله عليه وسلم في الإنجيل: وأحمد هو الاسم الذي سمَّاه الله به في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم عليهما السلام؛ إذ قال: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، تلك تسميتُه وبشارته في الإنجيل بلا خلافٍ ولا رَيْبٍ.
اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة: وإنما الخلاف فيما سُمِّي به في التوراة: هل هو محمد أو أحمد؟ قال أبو القاسم السُّهيلي، والقاضي عياض، وصاحب "الفتح": كان عليه الصلاة والسلام أحمدَ قبل أن يكون محمدًا كما وقع في الوجود؛ فإنَّ تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدًا وقعت في القرآن الكريم؛ وذلك أنه حَمِد ربَّه قبل أن يَحمدَه الناس، وكذلك في الآخرة يحمد ربَّه فيشفِّعه، فيحمده أهل الموقف، وقد خُصَّ بسورة الحمد، وبِلِوَاءِ الحمد، وبالمقام المحمود، وشُرِع له الحمد بعد الأكل والشرب والدعاء وغيرها، فجُمعت له معاني الحمد وأنواعه صلى الله عليه وسلم[8].   اسمه صلى الله عليه وسلم محمدٌ في التوراة وأحمدُ في الإنجيل: وقال ابن القيم في أثناء ردِّه واختياره: إنه صلوات الله وسلامه عليه عُرِفَ عند كلِّ أُمَّةٍ بأَعْرَف الوَصْفَين لديها...، فلما كانت أُمَّةُ موسى أوسع علمًا ومعرفة وَشِرْعة ومنهاجًا من أمَّة المسيح، عُرِفَ عندها بالاسم الجامع للمحامد التي يُحمد عليها حمدًا مُتكرِّرًا، وهذا إنَّما يُعرَف بعد العلم بخصال الخير، وأنواع العلوم والمعارف والأخلاق والصِّفات التي يستحقُّ تكرار الحمدِ عليها، ولا ريب أنَّ بني إسرائيل هم أهل الكتاب الذي كتب الله فيه من كلِّ شيءٍ موعظةً وتفصيلًا لكلِّ شيء.
  ولما كان الإنجيل كأنه مُكَمِّلٌ للتوراة ومُتَمِّمٌ لها، جاء فيها اسمه الدالُّ على الفَضْل والكمال، كما جاءت شريعتُهم بالفضل المكمِّل لشريعة التوراة.   ولمَّا كان القرآن الكريم مُصَدِّقًا لما بين يديه مِن التوراة والإنجيل، وجامعًا لمحاسنهما معًا، جاء كذلك بالوَصْفَيْن جميعًا[9].
  الماحي صلى الله عليه وسلم: وأمَّا الماحي فهو الذي مَحَا الله بنوره ظُلُماتِ الكفر، ولم تُمحَ هذه الظلمات بأحدٍ من الخَلْق كما مُحِيَتْ به صلوات الله عليه؛ فإنه بُعث وقد أَطبق الكفر على أهل الأرض قاطبةً، إلا بقايا من أهل الكتاب.

والكفار ما بين عُبَّادِ أوثانٍ، وعُبَّادِ كواكب، وعُبَّادِ نار، ويهودٍ ونصارى، وصابئةٍ ودهرية - لا يعرفون ربًّا ولا مَعَادًا - وفلاسفةٍ لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرُّون بها، فمحا الله بنبيِّه الماحي صلى الله عليه وسلم هذه الظلماتِ، وأظْهَر دينَه على كلِّ دين غيره، حتى بلغ مبلغَ الليل والنهار، وسَارَ مَسيرَ الشَّمس في الأقطار.

الحاشر صلى الله عليه وسلم: وأمَّا الحاشر: فهو الذي يُحشر الناس على قدمه؛ لأنَّه أوَّلُ مَنْ تنشقُّ عنه الأرض، ثَّم الناس على أثره يُحشرون، وإليه في المحشر يَلْجَؤون، وبه عند الفزَع الأكبر إلى ربِّهم يتوسَّلون، وهنالك يتجلَّى مقامُه المحمود الذي يحمده له الأوَّلون والآخرون.
العاقب صلى الله عليه وسلم: وأما العاقب: فهو في معنى المُقفَّى والآخر؛ لأنَّه تَبِعَ آثارَ مَنْ سبقه من الرسل، فكان خاتمهم صلى الله عليه وسلم، وهذا الاسم صريحٌ في أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبيَّ بعده، وقد فُسِّر بهذا عند مسلم؛ ففي إحدى روايتيه لهذا الحديث نفسه: ((وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي))[10]، وفي الرواية الأخرى: ((وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد))[11]، وقد تظاهرت الدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة من صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة، على أنه أتى عَقِبَ جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنَّ به انتهاء النبوَّة وحُسْن الختام.
وحَسْبُنا من صريح الكتاب قوله عزَّ وجل: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]. ومن صحيحِ السنة قوله صلوات الله عليه فيما رواه الشيخان: ((إنَّ مَثَلي ومثل الأنبياء من قبلي، كَمَثَلِ رجُل بنى بيتًا، فأحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ، إلاَّ مَوْضعَ لَبِنَةٍ من زاوية، فجعل الناسُ يَطُوفونَ به ويَعْجَبون له، ويقولون: هلَّا وُضِعَتْ هذه اللَّبِنَة، قال: فأنا اللَّبِنَة، وأنا خاتمُ النَّبيين))[12].   ونرجو أن نُقَفِّيَ على هذا بمزيدِ بيانٍ في الجزء الآتي إن شاء الله.


[*] مجلة الأزهر، العدد الثالث، المجلد السابع والعشرون، سنة 1375 هـ.
[1] أخرجه البخاري (3532) في المناقب، ومسلم (2354) في كتاب الفضائل. [2] أخرجه أحمد 4: 395 (19525)، ومسلم (2355)، كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [3] أخرجه أحمد 4: 395 (19525) و4: 403 (19621). [4] 1: 86 - 97. [5] ص73 - 89. [6] 3: 112 - 115. [7] في الرواية التي اخترناها: "أنا محمد وأحمد" نكتة لطيفة تؤكِّد هذا الاتصال؛ حيث عطف الثاني على الأول من غير الضمير الفاصل (طه). [8] فتح الباري، 6: 641 - 642، وانظر: الشفا، 1: 312. [9] جلاء الأفهام، ص89. [10] أخرجه مسلم 124 (2354). [11] أخرجه مسلم 125 (2354). [12] أخرجه البخاري (3535)، ومسلم (2286).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١