أرشيف المقالات

جنة المحبين

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
جنة المحبين
 
جاءني أحدُ إخواني الساعة الثانية ليلاً، في ظلالِ لَيلَةٍ كريمةٍ من خواتيم رمضان [1431هـ]، وكنت معتكفًا في المسجد، وناقشني في قضية إيمانية تَخُصُّ المثول بين يدي الله عزَّ وجلَّ ثم قال لي: يعلم ربي أنني إذا مَثَلْتُ بين يديه لا أقدر على التسليم من الصلاة، بل أبقى في التَّشَهُّدِ طويلاً طويلاً!!
 
فقلت له: وَلِمَ؟ قال لي: أقول في نفسي: أَذِنَ اللهُ لي بِنِعمَةٍ حُرِمَ منها كثيرٌ من العباد، فَكَيْفَ أَتْرُكُ ربي الذي أَكْرمَنِي ووفقني؟!! حتى إذا طال جُلُوسِي نَاجَيْتُه بِقَولِي: اللهُمَّ إني أعتذر إليك، سأخرج لقضاء بعض حاجاتي، ثم أعود إليك في أقربِ صلاة!
 
أما في اعتكاف رمضان الماضي [1432هـ] فَمِمَّنْ اعتكف معي ثلةٌ فريدةٌ من طلاب المرحلة الإعدادية، كان أكثرهم يأتيني سائلاً: أريد الليلة أن أقوم بـ [1000 آية]؛ لأكون من المقنطرين، فأي السُّوَرِ أَتْلُو؟! فيقوم أكثر الليل في ركعتين لا ثالث لهما!
 
وهذا ما كان عليه الإمام محمد المختار الشنقيطي في أول حياته العلمية، فَكَانَ إذا صَلَّى العشاء افتتح الليل بِرَكعتين وَيَقُول: وبينما أنا في صلاتي وَإذ بي أَسْمَعُ فجأةً الفجرَ ينادي، وأنا في سورة الناس، قد ختمت القرآن في ركعة!
 
فائدةٌ تُذْهِلُ العقول:
إنَّ الله تعالى أَوْصَلَ لنا الدين كُلَّه بأحكامه وتكاليفه وكتابه المنزل بواسطة جبريل إلى نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا تكليفًا وَاحدًا، فَلَمْ يُرسِلْهُ ربنا عزَّ وجلَّ لِمُحمد صلَّى الله عليه وسلَّم بل استقدم محمدًا عنده فوق سبع سموات؛ ليأمره به، إنه الصلاة..
الصلاة!
 
ولهذا؛ فإن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُعَظِّمُ قَدْرَ الصلاة، بل غضب يوم الأحزاب لما شَغَلَهُ الكفار عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، ومع ندرة دعائه عليهم إلا أن القضيةَ كبيرةٌ خطيرة فقال - كما في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه: ((مَلأَ اللهُ قُبُورَهُم وَبُيُوتَهُم نَارًا)).
 
يا تارك الصلاة:
اعلم أن من أنكر فَرضِيَّةَ الصلاة كان خارجًا عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين، أما من تركها كسلاً فَإِنَّهُ يقتلُ عندَ جُمهور العلماء والمُحدثين بعد أن يُستتاب، فإن لم يَتُبْ قُتِلَ.
 
وقال الحنابلة: إنه كافرٌ كفرًا حقيقيًّا يخرجه من الإسلام، ألم يقل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((العَهْدُ الذِّي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم الصَّلاة، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَد كَفَر))؟ وهذا ما قرره شيخ البخاري إسحاق بن راهويه بقوله: ما زال الناس من عهد الصحابة يقولون: إن تارك الصلاة كافرٌ! وهذا ما رجحه ابن عثيمين رحمه الله وأقام عليه أدلة عديدة في صفحات عشر في كتابه الفقهي الماتع "الشرح الممتع".
 
وأنشأ هؤلاء العلماء على ذلك أحكامًا وقالوا:
تارك الصلاة لا نزوجه من بناتنا، ولا نُوَرِّثُهُ من أرضنا، وإذا مات لا نُغَسِّلُه، ولا نُكَفِّنُه، ولا نُصَلِّي عليه، ولا ندفنه في مقابرنا، ثم لا ندعو له بمغفرة، ولا بعفوٍ، ولا نسأل ربنا له الجَنَّة، ولا أن ينجيه الله من النار!
 
بل نقل ابنُ حزم عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وابن مسعود وابن عباس أن من ترك صلاة واحدة عمدًا حتى يخرج وقتُها؛ فَإِنَّهُ كافرٌ مُرتد، عياذًا بالله تعالى وهذا ما شايعه ابن باز رحمه الله.
 
وَلِهَذِهِ الخطورة وَدَّع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حياته دون أن يُوصِي أهلَهُ عن ماله، أو تَرِكَته، بل ترك نفسه وقال: ((الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم)).
 
لحظةٌ أمام قبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:
تعلم حبيبي في الله أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم دُفِنَ حيثُ مات، وقد شرفني الله أن أُسَلِّمَ عليه ماثلاً أمام قبره مرات ثلاث، ويعلم الله تعالى أنني لم أستشعر وصيته لنا بالصلاة إلا في المكان الشريف الذي قِيلَت فيه.
 
ذلك أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فِي آخر يومٍ له على أرضنا كان يُغْمَى عليه، فَإِذَا أفاقَ سأل عائشة: ((أَصَلَّى الناس؟!))، ثم يغمى عليه، وإذا أفاق يسألها ثانية: ((أَصَلَّى الناس؟!))، فتقول: هم ينتظرونك يا رسول الله!
 
أخي الفاضل، أختي الكريمة:
إن نبيك صلَّى الله عليه وسلَّم كان يخشى أن يؤخر صحابته صلاة الجماعة، فكيف تُقابله أنت يوم القيامة وقد نسيتها يومًا، أو قَصَّرْتَ عنها أسبوعًا، أو هجرتها على مداد الأيام عياذًا بالله من ذاك وهذا؟!
 
والله لو دخلت الروضة النبوية، ومثلت أمام قبره ووقفت بجوار منبره، وتخيلته يهتف في سمعك بقوله: الصلاةَ الصلاة يا فلان بن فلان؛ فإني جازمٌ أنك لن تتركها أبدًا حتى تلقى الله تعالى.
 
خطرٌ داهم:
رأى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً توضأ فَبَقِيَ جزءٌ من عَقِبِ قدمه لم يَصِلْهُ الماء، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ))؛ متفق عليه.
 
بل إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خاطب من أدمن التأخير عن الصف الأول في الصلاة بقوله كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود بِسَندٍ صححه الألبانيُّ من حديثِ عائشة رضي الله عنها: ((لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ)).
اللَّهُمَّ سَلِّم، اللَّهُمَّ سَلِّم، اللَّهُمَّ سَلِّم.
 
إخوتاه:
أفاد الحديثُ الأول أن الجزءَ الذي لم يَصِلْهُ الماء سَيُنقَل إلى نارِ جهنم يوم القيامة، فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ الوضوءَ كليةً، ولم يَسجُد لله سجدةً؟!
 
وأفاد الحديث الآخر أن من أدمن التأخر عن الصلاة أَخَّرَهُ اللهُ - تعالى - إلى نارِ الجحيم يوم الدين، فكيف بمن لم يَصِلِ المسجد قط؟!
 
أخي الفاضل، أختي الكريمة:
ماذا تنتظر حتى تصلي؟! ألا بد من زِلزالٍ قاتلٍ يُداهِمُ بلادنا حتَّى تقرر الصلاة؟!
أَيُشْتَرَطُ حتى تُصَلِّي أن ترى رؤيةً تُفزِعُكَ في المنام حتى تعود إلى الله؟!
أَيَجِبُ أن تتعرضَ لِحَادثٍ يَكْسِرُ قدميك، ويصيبك بِدَاءٍ عُضالٍ في رئتيك، حتى تَفِرَّ هاربًا من ذنبك إلى بيت الله؟!
 
أنت من يصنع خاتمة حياتك:
أفصح ابن كثير عن كلمةٍ ترشح فقهًا وحكمةً جاء فيها:
إن الله الكريم أجرى بِكَرَمِهِ أن من عاش على شيء مات عليه، وأن من مَات على شيءٍ بُعِثَ يوم القيامة عليه.
أما تخشى الموت على معصيةٍ؟! كيف تضع المنبه بعد الفجر بساعتين، وتريد أن يقبضك الله وأنت في صلاة؟!
 
قال أحد الدعاة:
زرتُ أخًا لي، ونصحته بالصلاة، فَأَبَى، فَذَكَّرْتُهُ بِلِقَاءِ الله، فقال لي: عمري الآن [40 عامًا]، وأبي بلغ [90 عامًا]، وجدي مات على [100عام]، وأنا إذا بلغت [60 عامًا] سوف أصلي!!
 
فخرجت من عنده، وفي مساء اليوم نفسه ليلاً اتصل بي من يخبرني بِوَفاتِه، وهو في طريقه إلى المنطقة الشرقية! وهو الذي أراد أن يمكث [20 سنة]، فلم يمهله الجبار عزَّ وجلَّ [20 ساعة].
 
أخي العزيز، أختي الموقرة:
لم لا نجعل خاتمتنا كخاتمة الشيخ عبدالله عزام - رحمه الله؟!
 
كان الشيخ عبدالله عزام في طريقه لِخُطبةِ الجمعة، فاغتيل بِتَفجيرِ سيارته!
 
قال شاهد الخبر: طار الشيخ ما يزيد عن [30 مترًا] في الهواء، ونزل ساجدًا تجاه القبلة، فظننته يسجد شكرًا لله، فَطَالت سجدته، فَحَرَّكْتُهُ وإذا به قد فارق الحياة!
 
وشاء الله لهذا الرجل أن يموت على ما عاش عليه، فلما عُرِف بِصَلاحِهِ وخيره أكرمه الله بالموت في يوم جمعة، ولما عاش داعيًا إلى الله بإذنه مات في طريقه لِمِنبَرِ الجمعة يَعِظُ الناس ويربيهم، ولما كان مجاهدًا أماته الله شهيدًا - نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله - ولما كان عابدًا قوامًا صوامًا أماته الله ساجدًا!
لكن إياكَ إياك أن تكون كهذا الشاب.
 
أُدْخِلَ شابٌّ لِمَسجدِ الراجحي بالرياض بعد أن مات في حادثٍ مروري، فَتَطوعَ شابٌّ بتغسيله، فبدأ يغسله ولاحظ بياض وجهه الذي بدأ يتغير تدريجيًّا إلى السمرة، حتى أصبح كَالفَحم، فَخَرجَ فَزِعًا لأبيه، فَوَجَدَهُ يُدَخِّن، وَسَأَلَهُ عن صنيعِ ولده في حياته، فقال: والله ما كان يَعْرِفُ الصلاة، فقال له: خُذ ولدك، والله لا أغسله، ثم حمله أبوه، ولا يُعلم أين ذهب به؟!
 
البيان الختامي:
أيها الشاب الطيب، أيتها الفتاة العفيفة:
أنت أخي وأنت أختي، وأنا أخوكم، لستما من أمي، ولا أنا من أبيكم، لكني والله أَوَدُّ لكما سعادة الدنيا، وفلاح الآخرة؛ كي تُلَبِّيَا دَاعِيَ السُّجود، فَلا أُريد أن تَهْلَكَا؛ ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [القلم: 42].
 
هيا أَطلق عَهدًا وَوَعدًا وعقدًا صَادقًا بينك وبين ربك، ليس للشيطان فيه نصيب، على ألاَّ تترك الصلاة ما حييت، ثم أخبر بهذا القرار أهلك، وأصدقاءك، وأقرباءك؛ كي لا تنتكس من جديد، ولا تكترث بمن يعوقك عن الهدى، فإنك قوي بإيمانك، وما زالت فطرتك سليمة، ومحبتك لله قائمة.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣