مسرح وسينما
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
مسرحية (أم رتيبة)
تأليف: الأستاذ يوسف السباعي إخراج: فتوح بشاطي تمثيل:
الفرقة المصرية
للأستاذ علي متولي صلاح
الإنسان - منذ كان - يتقلب بين الفرح والترح، وتعتوره السراء والضراء، وللجد عنده - كما يقول الشاعر - أوقات وللهزل مثلها، وحياة موزعة بين هذين الأمرين، ولن يستقيم لإنسان - مهما كانت الظروف التي تشتمله وتحيط به - واحد منهما دون الآخر.
ولما كان المسرح - كما هو معلوم - صورة من الحياة وتعبيراً عنها وتفسيراً لها، تعطيه الحياة فيأخذ، وتمده بالصورة فيعبر، كان - هو الآخر - متقلبا بين الفرح والترح، والسراء والضراء. ومنذ الأزمان السحيقة كان إلى جانب (التراجيديات) الفاجعة (كوميديات) هازلة ضاحكة، وقد عرفها اليونان الأقدمون وكان لها فيهم شعراء أعلام ما زال المؤلفون ينهلون منهم حتى اليوم، مثل (أرستوفان)، (فيلامون)، (ميناندر). وقد عرفت الكوميديات الهزلية في مصر منذ أمد ليس بالقصير، وكان لها مسارح خاصة، وممثلون يقومون بأدائها ولا يشاركون في أداء غيرها، وكتاب يكتبون لها ويكادون يقتصرون عليها. وليس شيء أكثر ذهابا في الضلالة عندي من الرأي الذي ينادي بأن تقصر العناية على الجوانب الجادة في حياة الناس دون الجوانب الهازلة الضاحكة.
إن ذلك خطر يجب أن يتنبه إليه المسئولون، فالسم أكثر ما يكون خفاء عندما يندس في العسل، والنفوس يستهويها النكتة وتأخذها الكلمة الضاحكة فتتسرب خلالها الحكمة والموعظة في لطف ويسر وخفاء لا يكون في الكلمات الجادة الصارمة! والمسرحية التي جعلناها موضوع حديثنا اليوم من المسرحيات الكوميدية التي تعرض على الناس هذه الأيام، وأعني بها المسرحية المسماة (أم رتيبة). وهي تقوم على قصة أخوين: رجل وامرأة، أما الرجل فقد كان يشتغل مدرساً للخط العرب ثم أحيل على المعاش، فاشتغل بتحضير (الأرواح) وانهمك فيه وجمع حوله بطانة من محبيه ومريديه يعقدون بين الفينة والفينة (جلسة) لتحضير الأرواح والتذاكر في أحوال الدنيا والآخرة، ولتبادل الآراء في فلسفة الحياة وما بعد الحياة.
واسم هذا الرجل (عبد الصبور) وقد قطع حياته عازبا، وكان يرى أن الزواج هو سبب الشقاء والبلاء وسبب خراب البلاد والعباد! وأما المرأة فهي (أم رتيبة) التي كان أخوها هذا عائقا دائما لها دون الزواج، فقد خطبها الكثيرون فأباهم أخوها ورفضهم جميعا لما كان يراه في أمر الزواج، فقطعت حياتها هي الأخرى عزبة حتى بلغت الخامسة والأربعين وهي بين الحسرة والأسف واللهفة على الزوج الحبيب، والولد النجيب! وكان لها جار اسمه (سيد أفندي) يشتغل خبيرا فنيا في معمل (طرشي)! جاء يخطبها من أخيها (عبد الصبور) الذي ما كاد يعلم صناعته حتى طرده شر طرد لما كان بينه وبين (الطرشي) - كما يقول - من عداء قديم مستحكم! ثم مات أخوها فإنكشفت الغمة وزال العائق الثقيل وتزوجت (أم رتيبة) من (سيد أفندي) على يد (مأذون) صديق من مريدي أخيها (عبد الصبور) ومحبيه. وقد كتبها المؤلف (الأستاذ يوسف السباعي) باللغة العامية؛ لأنه يرى أنه (من الجنون أن يحاول إنطاق أبطالها باللغة العربية) وللمؤلف في ذلك بواعث وأعذار! أما البواعث فهي أنه متغلغل في فهم الروح الشعبية واللغة العامية تغلغلا قل أن توفر لغيره، فهو يجد يسرا وسهولة في الأداء باللغة العامية قد لا يجدهما في الأداء باللغة العربية! وأما الأعذار فإن أبطال الرواية - أو أغلبهم على الأصح - من عامة الشعب الذين لا تجري اللغة العربية على لسانهم في شئ، فكان من كمال (الواقعية) - في نظر المؤلف - أن يكون كلامهم باللغة العامية! وجو الرواية - كذلك - جو شعبي خالص، لا يبدو فيه الكلام العربي إلا كما تبدو الرقعة في الثياب! هذه بواعث وأعذار المؤلف - على ما يبدو لي - في استعمال اللغة العامية، ولكني نظرت فوجدته يخاطب الخادم (زينهم) المسرف في الشعبية بقول أبي نؤاس (وداوني بالتي كانت هي الداء)، ويخاطب الخادمة (سنية) بقول أبي العلاء (هذا جناه أبي علي) فكيف تسنى لهما أن يفهما ذلك وهما أقل أشخاص الرواية علما وإدراكا؟ ووجدته يجري في الرواية عددا من الألفاظ العربية الفصيحة مثل قوله (المصل الواقي)، (حاجة تبدد الإيمان)، (الدنيا سفر والآخرة غاية) وغيرها، فكيف أمكن أن تفهم هذه العبارات في الجو الشعبي الذي انحدر من (حوش آدم)؟ أنا لا أشير باستعمال اللغة الفصيحة العالية الجزلة على المسرح، ولكني أريد الحلقة المفقودة عندنا، أريد اللغة العربية اليسيرة السهلة التي لا يفصلها عن العامية إلا حاجز رقيق لطيف، واعتقادي أن الأستاذ يوسف السباعي - وقد بلغ في فهم اللغة العامية والروح الشعبي مبلغا بعيدا - يستطيع بشيء من الجهد والدأب والمشقة أن يجئ لنا بهذه الحلقة المفقودة. والأستاذ يذكر لنا أن هذه المسرحية أول محاولة له في كتابة المسرحية، فإن كان الأمر كذلك، فإن الأمل المرقوب منه كثير.
إن الموهبة مكتملة في المؤلف دون شك، وإنما تنقصه في معالجة (المسرح) أمور أرجو أن يتوفر على استكمالها، وأنا أهمس إليه ببعض ما في مسرحيتنا هذه من تلك الأمور، فإني أرى فيه بوارق وضاءة من أمل كبير. أراه يوزع الحوادث والكلام على الفصول توزيعا غير عادل! وأنا أعلم أن الحوادث قد تقتضي المؤلف شيئاً من ذلك، ولكنني أعلم كذلك أن المؤلف القادر هو الذي يحكم هذه (الحوادث) ويطوعها لقلمه وتصرفه! فالفصل الأول كبير مزدحم، والفصل الأخير صغير متخاذل، والفصل الثاني بين بين! وأراه يعني - أكثر ما يعني - بإيراد النكتة تلو النكتة، والأصل في المسرحية أنها (موضوع) والنكتة فيها ثانوية لا يجوز لها أن تغطي على الموضوع الأصلي الذي هو (مركز الاستشارة) كما يقول فقهاء المسرح. وأراه يكثر من الحكايات الجانبية التي تقع في المسرحية كما تقع (الجملة المعترضة) في الكلام! والإكثار من هذه الحكايات - فوق أن فيه تعطيلا لحركة المسرحية - فهو يصرف المؤلف عن الاهتمام بالموضوع الأصلي الذي يجب أن يكون له المحل الأول دائماً، وقد أورد المؤلف من ذلك حكايات طويلة كحكايات (المعزتين) وحكاية (البنت هانم) صديقة الشيخ جاد وسواهما. وأراه (يرشح) لبعض الحوادث بكلام سافر يدل عليها قبل وقوعها! مثل (إرهاص) أم رتيبة بقدوم الضيف فيقدم الضيف بعد إرهاصها ومثل إرهاص (سيد أفندي) بأنه سيموت وتوكيده لذلك وتوديعه لأهله وصعوده إلى السرير للموت فيموت فعلا! وغير ذلك.
والمسرح (أفعال) لا (أقوال) فالحوادث وحدها هي التي ترهص وترشح إن جاز أن يكون في المسرح إرهاص أو ترشيح.
. وأراه - وذلك أمر ذو أهمية كبيرة للمؤلف - يجري على لسان شخصياته كلاما لا مواربة فيه يمس مقدسات الناس وعقائدهم الدينية، كلاما سافرا جدا قد يشك بعض الناس فيما يعتقدون به ويخضعون له.
ولست أريد أن أردد هنا ولكنه مضطرب في كثير من صفحات الرواية وخصوصاً في الصفحات (135، 164، 169، 202، 203، 204) والمسرح للناس جميعا وفيهم الساذج والضعيف الإيمان والحائر بين العقائد، فإن كانت إشارة لا معدى عنها إلى هذه الأمور فلتكن خفيفة خاطفة لا صريحة سافرة متكررة كما رأينا. وأراه يسرف في بحث المشكلات الاجتماعية والدينية بحثاً جدلياً نظرياً كأنه محاضرات! فيبحث - فيما يبحث - مثلا الاشتراكية ونظام الطبقات ومعاهدات (عدم الاعتداء) والإيمان الأعمى والموت وما بعد الموت وسواها، وذلك تحميل لهذه المسرحية الكوميدية ما لا تحتمل! واعتقادي أن مرد ذلك القلق عند مؤلفنا الفاضل إلى (رباعيات الخيام) التي ترجمها والده الأديب الكبير المرحوم الأستاذ محمد السباعي وعاش مؤلفنا في جوها منذ كان طفلا فامتلأت بها نفسه وأخذ يرددها منثورة في مسرحيته! وأراه ينطق الخدم وغيرهم بكلام قد يجرح حياء بعض من يرودون المسرح (كقوله تناكحوا تناسلوا)، وقوله (تبقى قيمة العيشة إيه لما الواحدة ما تعملش الحاجة اللي انخلقت علشانها؟) وقوله (أمد إيدي تحت القميص بس ما تبقيش تقولي شيل إيدك)! ومثل وصف صدر المرأة وبطنها قبل الزواج وبعده! وأريد أن أسأل المؤلف: كيف ينتقل الحديث فجأة من حديث (الملوخية والكسبرة) إلى حديث زواج أم رتيبة ولا اتصال بينهما؟ وكيف يدخل الخدم ويخرجون هكذا دون داع ودون استئذان؟ وكيف يجرءون هكذا على العراك بالكلام وبالأيدي، وكيف يتغزلون بالغزل المكشوف أمام سادتهم؟ اللهم إلا إذا كان دخولهم لدفع ملل من حديث طويل أو لإحداث حركة في موقف خامد! وكيف تستفهم (أم رتيبة) هل مات (سيد أفندي) عندما شرب ماء اللفت وهو طفل مع أنه يسكن جوار منزلها وتراه كل يوم وتسمع عنه كل يوم وتأمل الزواج به؟ وكيف يسأل (عبد الصبور) - في أول الرواية - عن صديقه (علوان أفندي) الذي لم يحضر مع مريديه ومحبيه سؤالا نفهم منه أنه يعجب لعدم حضوره معهم ويستنكر ذلك مما يدل على أنه مواظب على حضور هذه الجلسات التي يعقدونها لتحضير (الأرواح) ثم تمضي الرواية كلها دون أن نرى (علوان أفندي) هذا؟ وأريد - قبل أن يمضي بي الحديث إلى غايته - أن أنوه بالمجهود الكبير الذي بذله الأستاذ فتوح نشاطي في إخراج هذه المسرحية، فقد التمس لكل دور الشخص الذي لا يتصور الخيال أن أحدا غيره يناسبه! أنه قد تعمق فهم شخصيات المؤلف وأخرجها لنا كما يريد المؤلف تماماً حتى صارت شخصيات نموذجية في موضوعها ومعناها وصورتها أيضاً! وإن الحيل المسرحية التي اعتمد عليها في تحضير (أرواح) الموتى، وفي تحريك المنضدة والكوب والكراسي حيل بارعة لا يظهر فيها افتعال أو صنعة! ولقد نهض الممثلون بأدوارهم في براعة أشهد أنها في الذروة من البراعة والمشقة والجهد، ولا أدري كيف أشيد بأحدهم وأترك الآخرين فكلهم ناجح وكلهم مشهور، بيد أني آخذ على (وداد حمدي) التي كانت تقوم بدور الخادمة أنها لم تكن خادمة حقاً! وأقرر أن هذا عيب شائع في ممثلينا، فهم يرضخون لحكم (الصنعة) عندما يكلفون تمثيل أدوار الخدم، ولكنهم يضمرون الكراهية لهذا الدور بينهم وبين أنفسهم! فتراهم لا يعملون تماماً ما يعمل الخدم، وإن عملوا فإنهم يحاولون أن تبدر منهم لفتة عظيمة، أو كلمة فخمة، أو مشية وقورة، تشير إلى أنهم ليسوا من الخدم في شئ!! وذلك نقص أرجو أن يتلافوه! وبعد: فأرجو أن يعلم المؤلف أننا نرقب منه خيرا كثيرا للمسرح، وأننا نرى فيه مواهب متدفقة أصيلة، وأن اللغو الذي أثير حول هذه المسرحية إنما هو من عبث الذين لا يعرفون عن المسرح سوى خشبته وأنواره! والذين يحسبون المسرح مجرد شعوذة بيانية، أو خطب منبرية! أرجو أن يتوجه الأستاذ يوسف السباعي إلى التأليف المسرحي بكلياته، وأن يحاول اصطناع اللغة العربية السهلة التي أشرت بها، وأن يدرس فنون المسرح دراسة جد وصرامة لا دراسة هواية فحسب، وأنا زعيم له - بعد ذلك - بأنه سيكون من كبار مؤلفي المسرحيات الكوميدية، وسيكون النقد - عندئذ - أسعد ما يكون وهو يقدم للجمهور هذا المؤلف الكبير. علي متولي صلاح