إبراهيم باشا في حروبه
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
للأستاذ كمال السيد درويش
لقد كان إبراهيم باشا قائداً حربياً ممتازاً، كان ميالاً للحروب منذ نشأته المبكرة، وكان كما وصفه معاصروه: (شديد الشغف بالقتال، ولا يطيب نفساً إلا في جو الحروب)، جو المعارك الطاحنة والمواقع الفاصلة، ذلك الجو المملوء بالعمل والنشاط والحركة اضطلع إبراهيم بالحملات التي أسندت إليه منذ شبابه، وكان النصر حليفه في كل ميدان من الميادين التي خاضها. توجه إلى قتال الوهابيين، وكانوا عدواً صعب المراس شديد الحماس، يسيطر على شبه جزيرة العرب، قد أسكرته خمرة الانتصار على جيوش والى العراق، كما أسكره التحرر من حكم العثمانيين، وكان عجز السلطان عن إخضاعهم من عوامل بعث الثقة في نفوسهم وتقوية إيمانهم بمذهبهم الجديد حتى أصبحوا يرون أنفسهم على الحق، والعالم الإسلامي كله على الباطل! هذا هو العدو الذي توجه إبراهيم لقتاله، وقد نجح في إسدال الستار على تلك الحركة الوهابية، وعلى تلك الدولة الفتية، بعد أن استولى على عاصمتها الدرعية.
وعاد قاهر الوهابيين وحاكم بلاد العرب إلى مصر لتتلقاه بأهازيج النصر والفخار. ونظر إبراهيم فوجد محمد علي قد أسند إلى الكولونيل سيف مهمة إنشاء جيش حديث، فلا يجد غضاضة، وهو القائد المظفر، في الانضمام كجندي عادي إلى الجيش الحديث، وينبهه الكولونيل سيف في لهجة الآمر إلى أن مكانه - لقصر قامته - في آخر الصفوف لا في أولها.
ويدرك ذلك إبراهيم فيطيع أمر رئيسه في الحال. ويذهب إلى السودان بعد ذلك ليساعد أخاه إسماعيل في إكمال فتحه، ثم يحول المرض بينه وبين إتمام مهمته، بعد أن وصل إلى قرب نهر السوباط فيعود إلى مصر من جديد. وتشتد الثورة في اليونان، ويعجز السلطان عن إخضاعها، فيلجأ إلى تابعه القوي محمد علي باشا الذي يسند قيادة الحملة إلى نجله إبراهيم. وكانت ثورة اليونانيين كثورة الوهابيين، كلتاهما كانت تلهبه العقيدة ويشعله الحماس.
كانت الحرية أنشودة الثوار، بل أنشودة الشعوب الأوربية بأسرها ضد الحكومات الرجعية التي كانت تجثم فوق صدرها.
ولذلك كان العدو الذي واجهه إبراهيم في بلاد اليونان كالعد الذي واجهه في بلاد العرب مستميتاً في كفاحه، مستبسلاً في نضاله، مضحياً بكل ما لديه، ومع ذلك استطاعت الجيوش المصرية تحت قيادة إبراهيم أن تتغلب على قوات الثوار بالرغم من تأييد الشعوب الأوربية لها. ويعود إبراهيم من حرب اليونان ليستعد لخوض أعظم مرحلة في كفاحه الحربي الطويل، وليسطر أروع الصفحات لا في تاريخه العسكري فحسب، بل في التاريخ العسكري في القرن التاسع عشر. عاد إبراهيم ليخوض الحرب ضد جيوش السلطان نفسه، فتسقط على يديه مدينة عكا الحصينة، ثم يهزم العثمانيين بعد ذلك في دمشق، ثم يستولي على حمص وحلب، ويقضي على الجيش العثماني في بيلان، ثم ينتصر انتصاراً حاسماً في قونيه، ويتوغل في بلاد الأناضول حتى يصل إلى كوتاهيه، وينزل السلطان مضطراً على شروط الصلح، وعند ذلك تبدأ عبقرية إبراهيم كإداري في الظهور، فيلتفت إلى بلاد الشام لتنظيمها من جديد ولانتشالها من الفوضى والانحلال. ويعود السلطان إلى دس الدسائس وتحديه، فيتقدم إبراهيم إلى جيش السلطان، ويقابل قائده حافظ باشا في نصيبين، وتبدأ الموقعة ولا تستمر سوى ساعتين حتى كان القائد العثماني قد ركن مع جيشه إلى الفرار. هذه نظرة عامة نلقيها على حياة إبراهيم التي ملئت بالكفاح والنضال، حتى إذا أنعمنا النظر قليلاً راعتنا عبقريته الحربية وأيقنا أنه لم ينجح هذا النجاح إلا بعد أن أتخذ له من الخطوات ما هو كفيل بتسجيله. لم يحارب إبراهيم أعداءه فقط بل كان وهو في بلاد العرب يحارب ضد الصحراء المترامية بما فيها من جبال وهضاب وكثبان وأعاصير طالما اقتلعت الخيام فتركت الجند في العراء يصلون حر نهارها الشديد وبرد ليلها القارس.
وفي بلاد اليونان حارب ضد الجبال المرتفعة والأنفاق الضيقة والوديان العميقة، والعدو خبير بذلك كله معتصم به وبالجزر المنتشرة في ذلك البحر، تحيط بها أمواجه فتحميها وتحميه وتنتشر بينها قراصنته حتى تترصد العدو لترديه.
وكذلك حارب في هضبة الأناضول وفي فصل الشتاء، وحدثت موقعة فونيه ودرجة الحرارة فوق الصفر بقليل. كان ذلك في الحادي والعشرين من شهر يونية سنة 1818 م حين كان أحد الجنود يوقد النار فأطارتها العاصفة على معسكر الجيش فاندلعت إلى خيمة منصوبة على قرب من مستودع الذخيرة فاحترقت الخيمة وامتدت نارها إلى المستودع فانفجر لساعته ونسف ذلك الانفجار من القنابل والرصاص ما ذهب بنصف ذخيرة الجيش، ودب الذعر، واختل النظام، وكاد الموقف الرهيب يودي بالحملة كلها.
فالجيش يحاصر الدرعية عاصمة الوهابيين، وصحراء نجد تحيط به من جميع الجهات، والعدو يتنبه على صوت الانفجار فيتهيأ لانتهاز الفرصة وتجديد الهجوم. ولكن إبراهيم يقابل خبر الكارثة وحرب الطبيعة بصر رحب وثبات عجيب، وينظر لمن حوله من القواد والجند نظرة الواثق من الفوز، المتأكد من النصر، ثم يقول في صوت هادئ عميق: (لقد فقدنا كل شيء، ولم يبق لدينا إلا شجاعتنا فلنتدرع بها، ولنهاجم العدو بالسلاح الأبيض)! وكان ذلك في يوم 17 مايو سنة 1825 حين تمكنت بعض سفن اليونانيين من الاقتراب من ميناء مودون حيث كانت بعض سفن أسطول إبراهيم راسية، واستطاعت الحراقات اليونانية خلسة إشعال النار في سفينة من تلك السفن المصرية، وكانت الريح شديدة، فاندلعت النار إلى باقي السفن، وتعذر إطفاؤها ولم ينج بحارتها إلا بعد عناء شديد، وخسر إبراهيم معظم سفنه في هذا الحريق، وامتدت النار إلى المدينة، فتناولت مخازن البارود فنسفتها أيضا؛ ومع أن إبراهيم كان يشدد حصاره على المدينة في ذلك الحين، فقد تقبل ضربة الطبيعة وغضبها بنفس الروح التي تقبل بها ضربتها أمام الدرعية، واستمر يقاتل أمام أسوار مودون حتى استولى عليها. أما بعد، فهذه بعض المواقف التي تجلى فيها ثبات إبراهيم أثناء حروبه، ذلك الثبات الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى الحوادث وإظهار عبقرية إبراهيم كقائد حربي ممتاز. كمال السيد درويش مدرس بمدرسة الرمل الثانوية وعضو الجمعية التاريخية لخريجي جامعة فاروق