همسة مسافر
مدة
قراءة المادة :
دقيقتان
.
همسة مسافرأعتقد أن أكثر الناس شعورًا بمعنى الرحيل عن الحياة هم مُستأجرو الشقق والمنازل، ففي كل مرة يدخلون فيها دارًا جديدة يَنثرون في جوانبها أمتعتهم وأحلامهم، ويجهدون أنفسهم ليُرتِّبوا كلَّ التفاصيل في مواضعها التي تُريحهم ويحذرون أن يُغيِّروا في البيت شيئًا مُهمًّا؛ خشية ألا يروق ذلك التغيير لصاحب البيت الحقيقي، وهم مع كلِّ ذلك يُدرِكون في أعماقهم أن تلك الدار أيضًا ليست إلا نقطة عبور إلى أخرى، فلا جدوى من التعلُّق بالأمكنة ما دام الرَّحيل عنها أكيدًا، ومهما أحبُّوها، ومهما زيَّنوها، ومهما رتَّبوها، ورغم كلِّ الذِّكريات التي ستكون لهم في كل موضع وزاوية من هذا المعبَر، فإنهم في نهاية المطاف سيُغادرونه إلى آخر...!!
كذلك الحياة، أو ما نُسمِّيه حياة، مهما أجهدنا أنفسنا في تزيين دنياها، ومهما بذلنا من أجلها، ورغم ارتباطنا بها أو حتَّى كرْهِنا لها...
لا يهم، كلُّنا عنها راحلون يومًا إلى دارٍ يكون فيها الخلد في النعيم أو الجحيم، وسنترك وراءنا من أحببْنا ومن كرهنا، سنترك أشياءنا المهمة، وملفَّاتنا وكتبنا التي كنَّا نحرص عليها، وصورنا التي صوَّرناها يومًا في أمكنة مختلفة وأزمنة مُتغيِّرة، وأمزجة متقلبة، وسنترك أحلامنا وأوهامنا لتتجلى لنا الحقيقة في أصفى أوجهها وأقساها، وإننا من الآن نعلم أن الحياة ستستمر مع آخرين من بَعدِنا، سيُعاودون الفرح من جديد، وسيَبنون صروح الأمل أيضًا، وسيكدُّون لتحقيق أحلامهم كما كنا نحن نفعل يومًا، وسينسوننا بالتدريج حتى نَغيب عن الذاكرة تمامًا، وسيظل الله معنا، وحده لن ينسانا، فوحده لا يَنسى صنْع يديه، وستؤنس أعمالنا وحشة قبورنا، وستؤكل الأجساد منَّا، والتي طالما بذلنا من أجلها، وكم عصينا أيضًا من أجلها! وحده لا يجب أن يُنسى، ووحده فقط يُهِمُّ أن يَرضى، وباقي الوجود إلى فناء، فكيف نحن معه؟!