أرشيف المقالات

الاستعداد للموت

مدة قراءة المادة : 70 دقائق .
2الاستعداد للموت
 
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا.
 
أما بعد:
فإن الموت هو الحقيقة التي لا يستطيع أحد من الناس أن ينكرها؛ من أجل أحببت أن أذكِّر نفسي وإخواني الكرام بوسائل الاستعداد للموت، وأقوال السلف الصالح عند الاحتضار، وشدة الموت عند خروج الروح، وعلامات حسن الخاتمة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
الموت يأتي فجأة:
يجب علينا جميعًا أن نعلم أن الموت يأتي بغتةً، ولا يدري أحد من الناس متى وأين وكيف سينتهي أجله الذي كتبه الله تعالى.
قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34].
 
ولذا ينبغي على كل مسلم أن يحرص على كتابة وصيته؛ وذلك بأن يوصيَ أهله وأقاربه بتقوى الله عز وجل، والحرص على طاعته، وذلك بأداء جميع العبادات على وجهها الصحيح، وعليه كذلك أن يكتبَ ما له وما عليه من الديون.
 
روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبة عنده))؛ (البخاري حديث 2738 / مسلم حديث 1627).
 
قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100].
 
وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11].
 
وقال جل شأنه: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8].
 
روى البخاري عن مجاهد بن جبر، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك))؛ (البخاري حديث: 6416).
 
روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعِظه: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث 1077).
 
وسائل الاستعداد للموت:
وسائل الاستعداد للموت كثيرة، ويمكن أن نوجزها في الأمور الآتية:
أولًا: المحافظة على ما افترضه الله تعالى على المسلم:
يجب على المسلم أن يستعد للموت بالمحافظة على أداء كل ما افترضه الله تعالى عليه، من الصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان.
 
وينبغي على المسلم أن يتبع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الأقوال والأفعال.
 
قال سبحانه: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43].
وقال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238].
وقال جل شأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
وقال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].
 
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))؛ (البخاري حديث 8 / مسلم حديث 16).
 
وأمرنا الله تعالى باتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، بقدر المستطاع، ولا يكلف الله تعالى نفسًا إلا وسعها.
 
قال سبحانه: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
 
وقال جل شأنه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
 
وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].
 
ثانيًا: الإكثار من ذكر الموت:
(1) روى الحاكم عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنه يرق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هُجْرًا))؛ (حديث حسن)؛ (أحكام الجنائز للألباني صـ 228).
• هُجْرًا: الكلام الباطل المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
 
روى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذِكْرَ هاذم اللذات)) يعني الموت؛ (حديث حسن صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني حديث 1877).
 
(2) قال أبو الدرداء: (مَن أكثر من ذكر الموت، قل حسدُه، وقل فرحُه)؛ (مصنف ابن أبي شيبة جـ 7 صـ 110 ـ رقم: 34583).
 
(3) قال عمار بن ياسر: كفى بالموت واعظًا، وكفى باليقين غنًى، وكفى بالعبادة شغلًا؛ (الزهد لأحمد ـ صـ 145 رقم: 984).
 
(4) شكَتِ امرأة إلى عائشة رضي الله عنها قساوة في قلبها، فقالت لها: أكثري من ذكر الموت، يرق قلبك، ففعلت، فرق قلبها، فجاءت تشكر عائشة؛ (العاقبة في ذكر الموت ـ لعبدالحق الإشبيلي صـ 41).
 
(5) قال كعب الأحبار: مَن ذكر الموت، هانت عليه المصائب؛ (العاقبة في ذكر الموت ـ لعبدالحق الإشبيلي صـ 41).
 
(6) قال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يدَعْ لذي لب فيها فرحًا، وما ألزم عبدٌ قلبه ذكر الموت إلا صغُرت الدنيا عليه، وهان عليه جميع ما فيها؛ (مختصر منهاج القاصدين صـ: 383).
 
(7) قال الأوزاعي: ما أكثر عبدٌ ذكر الموت إلا كفاه اليسير؛ (الخلعيات ـ لعلي بن الحسن الخلعي صـ 8).
 
(8) قال عبدالأعلى التيمي: قطع عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى؛ (تاريخ الإسلام للذهبي جـ 3 صـ 675).
 
(9) قال الدقاق: مَن أكثر ذكر الموت، أُكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسيه، عوقب بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة؛ (التذكرة للقرطبي صـ: 126).
 
ثالثًا: الاستعداد للموت بالتوبة الصداقة:
يجب على المسلم أن يستعد للموت بالتوبة الصادقة، والمحافظة على أداء الفرائض، واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الأقوال والأفعال.
 
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].
 
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]؛ أي: توبةً صادقةً جازمةً، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلمُّ شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات؛ (تفسير ابن كثير جـ 14 صـ 60).
 
شروط التوبة الصادقة:
قال الإمام النووي (رحمه الله): قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث: أن يعزم ألا يعود إليها أبدًا.
 
فإن فقد أحد الثلاثة لم تصحَّ توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي، فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالًا أو نحوه رده إليه، وإن كانت حدَّ قذف ونحوه، مكَّنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غِيبةً استحله منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها، صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي؛ (رياض الصالحين للنووي صـ 25: 24).
 
علامات قبول التوبة الصادقة:
(1) أن يكون المسلم بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها.
 
(2) لا يزال الخوف مصاحبًا للمسلم، لا يأمن مكرَ الله تعالى طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الملائكة لقبض روحه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]؛ فهناك يزول الخوف.
 
(3) انخلاع قلب المسلم وتقطُّعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عِظَم الجناية وصغرها، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه، وهذا هو تقطُّعه، وهذا حقيقة التوبة؛ لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه، وخوفًا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفًا، تقطع في الآخرة إذا حقَّت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بد من تقطع القلب، إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
 
(4) الإكثار من الاستغفار والدعاء؛ (مدارج السالكين لابن القيم جـ 1 صـ 208: 206).
 
رابعًا: حسن الظن بالله عند الموت:
روى مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدُكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عز وجل))؛ (مسلم حديث: 2877).
 
قال الإمام النووي (رحمه الله): قال العلماء: هذا الحديث تحذيرٌ من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة؛ (مسلم بشرح النووي جـ 17 صـ 209).
 
روى أحمد عن حيان أبي النضر قال: دخلت مع واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه، وجلس، فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها؟ قال: وما هي؟ قال: كيف ظنك بربك؟ قال: فقال أبو الأسود: وأشار برأسه؛ أي: حسَن، قال واثلة: أبشِر؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء))؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد جـ 25 صـ 398 حديث: 16016).
 
روى ابن ماجه عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: ((كيف تجدك؟))، قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف))؛ (حديث حسن) (صحيح سنن ابن ماجه للألباني حديث 3436).
 
قال الإمام القرطبي (رحمه الله): حسن الظن بالله تعالى ينبغي أن يكون أغلب على العبد عند الموت منه في حال الصحة، وهو أن الله تعالى يرحمه ويتجاوز عنه ويغفر له، وينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك؛ حتى يدخل في قوله تعالى: ((أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء))؛ (التذكرة للقرطبي صـ: 174).
 
خامسًا: الاستعداد للموت بذكر عذاب القبر ونعيمه، والبعث والحشر، والعرق، والمرور على الصراط، وصحيفة الأعمال، والميزان، والحوض والشفاعة، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما، والوقوف للحساب أمام الله تعالى.
 
قال الله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
 
روى النسائي عن البراء قال: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27] قال: نزلت في عذاب القبر؛ (حديث صحيح) (صحيح النسائي للألباني جـ 2 صـ 74).
 
قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ [الحاقة: 18 - 36].
 
قال الله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
 
وقال جل شأنه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 - 11].
 
قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65].
روى الترمذي عن المقداد بن الأسود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة أُدنِيَت الشمس من العباد حتى تكون قِيد مِيل أو اثنين - قال سليم: لا أدري أي المِيلين عَنَى؛ أمسافة الأرض أم المِيل الذي تكتحل به العين؟! - قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم؛ فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حِقْويه، ومنهم من يلجمه إلجامًا))، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى فيه؛ أي: يُلجمه إلجامًا؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1973).
 
روى البخاري عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني فَرَطُكم على الحوض، مَن مر عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليَرِدَنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا سُحقًا لِمن غيَّر بعدي))؛ (البخاري حديث 6583 / 6584).
 
قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94].
 
روى الشيخان عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة))؛ (البخاري حديث 6539 / مسلم حديث 1016).
 
أقوال السلف الصالح عند الاحتضار:
(1) أبو بكر الصِّدِّيق:
لَمَّا احتُضر أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه قالت عائشة:
لَعمرُك ما يُغني الثراء عن الفتى ♦♦♦ إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدرُ
 
فكشف أبو بكر رضي الله عنه عن وجهه وقال: ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19]؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 122).
 
• الحشرجة: الغرغرة عند الموت، وتردُّد النفَس؛ (النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير جـ 1 صـ 389).
 
(2) عمر بن الخطاب:
• قال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان رأس عمر في حجري في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: ضَعْ خدي على الأرض، فقلت: وما كان عليك كان في حجري أو على الأرض؟ فقال: ضعه لا أُمَّ لك، فوضعتُه، فقال: ويلي، ويلٌ لأمِّي إن لم يرحمني ربي؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 54 رقم: 42).
 
• وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا لما حضرته الوفاة: (لو أن لي ما على الأرض لافتديتُ به من هول المطلع)؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 55 رقم: 43).
 
(3) عثمان بن عفان:
لما احتُضر عثمان بن عفان رضي الله عنه جعل يقول ودمه يسيل: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعين بك على أموري، وأسألك الصبر على بلائي؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 123).
 
(4) علي بن أبي طالب:
قال محمد بن علي بن أبي طالب: إن عليًّا لما ضُرب، أوصى بنيه، ثم لم ينطق إلا بـ: (لا إله إلا الله) حتى قبضه الله؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 61 رقم: 53).
 
(5) معاذ بن جبل:
لما احتُضر معاذ بن جبل رضي الله عنه، جعل يقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها النار، مرحبًا بالموت، مرحبًا زائر مغب حبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حلق الذكر؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 215).
 
(6) أبو الدرداء:
لما احتُضر أبو الدرداء رضي الله عنه، جعل يقول: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟! ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟! وبكى، فقالت له امرأته: تبكي وقد صاحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: وما لي لا أبكي ولا أدري علامَ أهجم من ذنوبي؟!؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 216).
 
(7) أبو هريرة:
لما احتُضر أبو هريرة رضي الله عنه، بكى، فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: بعد المفازة (أي الصحراء) وقلة الزاد، وعقبة كَؤُود، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 216).
 
(8) حذيفة بن اليمان:
لما حضرت حذيفةَ بن اليمان رضي الله عنهما الوفاةُ، قال: اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، وقيام الليل، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في حلق الذكر، ولما اشتد به النزع جعل كلما أفاق من غمرة فتح عينيه وقال: يا رب، شد شداتك، واخنق خنقاتك، فوعزتك إنك لتعلم أني أحبك؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 126).
 
(9) معاوية بن أبي سفيان:
لما حضرت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الوفاة، قال: أقعِدوني، فأقعدوه، فجعل يذكر الله تعالى ويسبِّحه ويقدسه، ثم قال: الآن تذكر ربك يا معاوية بعد الانحطام والانهدام، ألا كان ذلك وغصن الشباب نضير ريان، وبكى حتى علا بكاؤه، ثم قال:
هو الموتُ لا منجَى من الموتِ والذي ♦♦♦ أحاذرُ بعد الموت أدهى وأفظعُ
 
ثم قال: يا رب، ارحمِ الشيخ العاصي، ذا القلب القاسي، اللهم أقِلِ العثرة، واغفرِ الزلة، وجُدْ بحِلمك على من لم يرجُ غيرك، ولا وَثِقَ بأحد سواك؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 125).
 
(10) عمرو بن العاص:
لما دنا الموت من عمرو بن العاص رضي الله عنه، دعا بحرسه ورجاله، فلما دخلوا عليه قال: هل تُغنون عني من الله شيئًا؟! قالوا: لا، قال: فافترقوا عني، ثم دعا بماء فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال: احملوني إلى المسجد، ففعلوا، فقال: استقبلوا بي القبلة، ففعلوا، فقال: اللهم إنك أمرتني فعصيتُ، وائتمنتني فخنتُ، وحددت لي فتعديت، اللهم لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، بل مذنب مستغفر، لا مُصرٌّ ولا مستكبر، ثم قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلم يزل يرددها حتى مات؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 125).
 
(11) الحسن بن علي:
قال محمد بن علي بن الحسين: لما حضَر الحسنَ بن علي الموتُ، بكى بكاءً شديدًا، فقال له الحسين: ما يبكيك يا أخي وإنما تقدَمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عليٍّ وفاطمة وخديجة وهم ولدوك، وقد أجرى الله لك على لسان نبيه أنك ((سيد شباب أهل الجنة))، وقاسمت الله مالك ثلاث مرات، ومشيت إلى بيت الله على قدميك خمس عشرة مرةً حاجًّا؟ وإنما أراد أن يطيِّبَ نفسه، قال: فوالله ما زاده إلا بكاءً وانتحابًا، وقال: (يا أخي، إني أقدَمُ على أمر عظيم، وهولٍ لم أقدَمْ على مثله قط)؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 173).
 
(12) عبدالملك بن مروان:
لما حضَر الموتُ عبدَالملك بن مروان (رحمه الله)، نظر في موضع له مشرف إلى رجل وبيده ثوب وهو يضرب به المغسلة، فقال: يا ليتني كنت مثل هذا الرجل، أعيش من كسب يدي يومًا بيوم، ولم أَلِ مِن هذا الأمر شيئًا، وقال له رجل: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: تجدني كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94]؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 127).
 
(13) هارون الرشيد:
لما احتُضر الرشيد (رحمه الله) أمر بحفر قبره، ثم حمل إليه، فاطلع فيه، فبكى حتى رحم، ثم قال: يا من لا يزول ملكه، ارحَم مَن قد زال ملكه؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 216).
 
(14) عمر بن عبدالعزيز:
• قالت فاطمة بنت عبدالملك - امرأة عمر بن عبدالعزيز -: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم أخفِ عليهم موتي ولو ساعةً من نهار، فلما كان اليوم الذي قبض فيه، خرجت من عنده، فجلست في بيت آخر، بيني وبينه باب، وهو في قبة له، فسمعته يقول: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]، ثم هدأ، فجعلت لا أسمع له حركةً ولا كلامًا، فقلت لوصيف كان يخدمه: ويلك انظر أمير المؤمنين أنائم هو؟ فلما دخل عليه صاح، فوثبتُ، فدخلت، فإذا هو ميت، قد استقبل القبلة، وأغمض نفسه، ووضع إحدى يديه على فيه، والأخرى على عينيه؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 81 رقم: 86).
 
• قال عمرو بن قيس: قالوا لعمر بن عبدالعزيز لما حضره الموت: اعهد يا أمير المؤمنين، قال: (أحذركم مثل مصرعي هذا؛ فإنه لا بد لكم منه، وإذا وضعتموني في قبري، فانزعوا عني لبنةً، ثم انظروا ما لحقني من دنياكم هذه)؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 82 رقم: 87).
 
قال يحيى بن أبي كثير: لما حضر عمر بن عبدالعزيز الموت، بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ أبشِرْ؛ فإن الله قد أحيا بك سننًا، وأظهر بك عدلًا، فبكى ثم قال: أليس أوقف فأسأل عن أمر هذا الخلق؟ فوالله لو رأيت أني عدلت فيهم، لخفتُ على نفسي ألا تقوم بحجتها بين يدي الله إلا أن يلقنها حجتها، فكيف بكثير مما صنعنا؟ قال: ثم فاضت عيناه، فلم يلبث إلا يسيرًا بعدها حتى مات، رحمه الله؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 83 رقم: 89).
 
(15) لما احتُضر هشام بن عبدالملك، أبصر أهله يبكون حوله، فقال: (جاد عليكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما حمل، ما أعظمَ متقلَّبَ هشام إن لم يُغفَر له!)؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 87 رقم: 94).
 
(16) محمد بن سيرين:
لما حضرت محمد بن سيرين (رحمه الله) الوفاة، بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما يُنجيني من النار الحامية؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 133).
 
(17) إبراهيم النخَعي:
لما حضرت إبراهيم النخَعي (رحمه الله) الوفاة، بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أنتظر رسولًا من ربي يبشرني بالنار أو بالجنة؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 133).
 
(18) فُضَيل بن عِياض:
لما حضرت الوفاة فُضَيل بن عياض (رحمه الله)، غُشي عليه، ثم أفاق، وقال: يا بُعد سفري، وقلة زادي؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 133).
 
(19) الشافعي:
قال المُزَنيُّ: دخلت على الشافعي (رحمه الله) في علته التي مات فيها، فقلت له: أبا عبدالله، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلًا، ولإخواني مفارقًا، وبكأس المنية شاربًا، وعلى الله تعالى واردًا، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم بكى؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 217).
 
(20) يزيدُ الرَّقاشي:
بكى يزيد الرقاشي (رحمه الله) عند موته، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: أبكي على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار، ثم جعل يقول: يا يزيد، مَن يصلي لك ومن يصوم عنك؟ ومن يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال بعدك؟ ويحكم يا إخواني، لا تغتروا بشبابكم، فكأن قد حل بكم مثل ما قد حل بي؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 217).
 
سكرات الموت في القرآن والسنة:
إن لشدة الموت آلامًا لا يعلمها إلا الميت؛ فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم، فالموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، فلم يترك لإنسان قوة للاستغاثة، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها غرغرة تصدر من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 4 صـ 462: 461).
 
أولًا: القرآن الكريم:
تحدث القرآن الكريم عن شدة الموت في آيات عديدة، نذكر منها:
(1) قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
 
(2) قال جل شأنه: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93].
 
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): قال الله: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ﴾ [الأنعام: 93]، أي: في سكراته وغمراته وكرباته، ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾ [الأنعام: 93]؛ أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسُهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾ [الأنعام: 93]؛ وذلك أن الكافر إذا احتُضر بشَّرته الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضَبِ الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم؛ (تفسير ابن كثير جـ 3 صـ 302).
 
(3) قال سبحانه: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يقول تعالى: ﴿ وَجَاءَتْ ﴾ - أيها الإنسان- ﴿ سَكْرَةُ ﴾ (شدة) ﴿ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾؛ أي: كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه؛ ﴿ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾؛ أي: هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فَكاك ولا خلاص؛ (تفسير ابن كثير جـ 7 صـ 399).
 
(4) قال جل شأنه: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 83 - 85].
 
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): قوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ﴾ [الواقعة: 84]؛ أي: إلى المحتَضَر وما يكابده من سكرات الموت؛ (تفسير ابن كثير جـ 7 صـ 548).
 
(5) قال سبحانه: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 26 - 30].
 
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ﴾؛ أي: انتزعت روحك من جسدك، وبلغت تراقيَك، والتراقي: جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق؛ (تفسير ابن كثير جـ 8 صـ 281).
 
ثانيًا: السنة:
(1) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة - أو علبة - فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات))، ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى)) حتى قبض ومالت يده، قال أبو عبدالله (أي البخاري): (العلبة من الخشب، والركوة من الأدم "الجلد")؛ (البخاري حديث: 6510).
 
(2) روى ابن ماجه عن أنس بن مالك، قال: لما وجَد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم؛ إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدًا، الموافاة يوم القيامة))؛ (حديث حسن صحيح)؛ (صحيح ابن ماجه للألباني حديث 1320).
 
أقوال السلف في سكرات الموت:
(1) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: يا كعب، حدثنا عن الموت، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الموت كغصنٍ كثير الشوك، أُدخل في جوف رجل، وأخذت كل شوكة بعرق، ثم جذبه رجل شديد الجذب، فأخذ ما أخذ؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 4 صـ 463).
 
(2) كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحض على القتال ويقول: إن لم تقتلوا تموتوا، والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من موت على فراش؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 4 صـ 462).
 
(3) قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يلقَ ابن آدم شيئًا منذ خلقه الله عز وجل أشد عليه من الموت؛ (العاقبة في ذكر الموت لعبدالحق الإشبيلي صـ 278).
 
(4) قال شداد بن أوس رضي الله عنه: الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن، وهو أشد من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، وغليٍ في القدور، ولو أن الميت نُشِر فأخبَر أهل الدنيا بالموت، ما انتفعوا بعيش، ولا لذوا بنوم؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 4 صـ 463).
 
(5) لما حضرت عمرَو بن العاص الوفاةُ، قال له ابنه: يا أبتاه، إنك قد كنت تقول لنا: ليتني كنت ألقى رجلًا عاقلًا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصِف لي الموت، قال: والله يا بني لكأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سَمِّ إبرة، وكأن غصن الشوك يجر به من قدمي إلى هامتي؛ (المُحتَضَرين لابن أبي الدُّنيا صـ 93 رقم: 103).
 
(6) قال الإمام الغزالي (رحمه الله): لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديرًا بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقًا بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 4 صـ 461).
 
حسن الخاتمة
معنى حسن الخاتمة:
حسن الخاتمة هو: أن يوفَّق العبد قبل موته لاجتناب كل ما يُغضب الله تعالى، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة؛ (فصل الخطاب في الزهد ـ لمحمد نصر عويضة جـ 2 صـ 138).
 
الدعاء بحسن الخاتمة:
يجب على المسلم أن يسأل الله تعالى دائمًا، في دعائه، أن يثبت قلبه على طاعته، وأن يرزقه سبحانه حسن الخاتمة عند الموت.
 
لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كثيرًا ما يسأل الله أن يثبت قلبه صلى الله عليه وسلم على طاعته سبحانه.
 
(1) روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: ((يا مقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك))، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1739).
 
(2) روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم مصرِّف القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك))؛ (مسلم حديث 2654).
 
قال الإمام النووي (رحمه الله): معنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرِّف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء، لا يمتنع عليه منها شيء، ولا يفوته ما أراده، كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 455).
 
وقال الإمام ابن عثيمين (رحمه الله): ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائمًا أن يثبته، وأن يصرِّف قلبه على طاعته، وإنما خص القلب؛ لأن القلب إذا صلَح صلَح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله؛ (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين جـ 6 صـ 22).
 
روى الشيخان عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن في الجسد مضغةً (قطعة لحم)، إذا صلَحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))؛ (البخاري حديث: 52 / مسلم حديث: 1599).
 
علامات حسن الخاتمة:
ذكر الإمام الألباني (رحمه الله) علاماتٍ لحسن الخاتمة، كما يلي:
(1) النطق بالشهادة عند الموت:
روى أبو داود عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2673).
روى أحمد عن يحيى بن طلحة، عن أبيه، قال: رأى عمر بن الخطاب طلحة بن عبيدالله ثقيلًا (أي مهمومًا)، فقال: ما لك يا أبا فلان؟ لعلك ساءتك إمرة ابن عمك (يعني أبا بكر الصِّدِّيق) يا أبا فلان؟ قال: لا، إلا أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا، ما منعني أن أسأله عنه إلا القدرة عليه حتى مات، سمعته يقول: إني لأعلم كلمةً لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفَّس الله عنه كربته، قال: فقال عمر: إني لأعلم ما هي، قال: وما هي؟ قال: تعلم كلمةً أعظم من كلمة أمر بها عمه عند الموت: لا إله إلا الله، قال طلحة: صدقت، هي والله هي؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد جـ 3 صـ 8 حديث: 1384).
 
(2) الموت برَشْح الجبين:
روى أحمد عن بريدة أنه كان بخراسان، فعاد أخًا له وهو مريض، فوجده بالموت، وإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((موتُ المؤمن بعرَق الجبين))؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد جـ 38 صـ 129 حديث: 23022).
 
(3) الموت ليلة الجمعة أو نهارها:
روى الترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر))؛ (حديث حسن) (صحيح الترمذي للألباني حديث 858).
 
(4) الاستشهاد في ساحة القتال:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 - 171].
 
روى الترمذي عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ستُّ خِصال؛ يُغفَر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1358).
 
روى النسائي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهيد لا يجد مسَّ القتل إلا كما يجد أحدكم القرصة يقرصها))؛ (حديث حسن صحيح) (صحيح النسائي للألباني جـ 2 صـ 393).
 
روى النسائي عن راشد بن سعد، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنةً))؛ (حديث صحيح) (صحيح النسائي للألباني حديث 1358).
 
فائدة مهمة: هذه الشهادة ترجى لمن سألها الله تعالى مخلصًا من قلبه، ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة.
 
روى مسلم عن سهل بن حنيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))؛ (مسلم حديث: 1909).
 
(5) الموت غازيًا في سبيل الله تعالى:
روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون الشهيد فيكم؟))، قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: ((إن شهداء أمتي إذًا لقليل))، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: ((مَن قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن (هو الاستسقاء) فهو شهيد، والغريق شهيد))؛ (مسلم حديث: 1915).
 
(6) الموت بالطاعون:
روى الشيخان عن حفصة بنت سيرين، قالت: قال لي أنس بن مالك رضي الله عنه: يحيى (أخو حفصة بنت سيرين) بمَ مات؟ قلت: من الطاعون، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة لكل مسلم))؛ (البخاري حديث: 5732/ مسلم حديث: 1916).
 
روى البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمةً للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا، يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد))؛ (البخاري حديث: 5734).
 
(7) الموت بمرض البطن:
روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات في البطن (مرض الاستسقاء) فهو شهيد))؛ (مسلم حديث: 1915).
 
(8) الموت بالغرق:
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله))؛ (البخاري حديث: 2829/ مسلم حديث: 1914).
 
(9) الموت تحت الهدم:
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم (أي: الذي يموت تحت الهدم)، والشهيد في سبيل الله))؛ (البخاري حديث: 2829/ مسلم حديث: 1914).
 
(10) موت المرأة في نِفاسها بسبب ولدها:
روى أبو داود عن جابر بن عتيك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المرأة تموت بجُمْعٍ (أي تموت وفي بطنها ولد) شهيدة))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2668).
 
(11) الموت بالحرق:
روى أبو داود عن جابر بن عتيك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صاحب الحريق شهيد))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2668).
 
(12) الموت بمرض ذات الجنب:
روى أبو داود عن جابر بن عتيك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صاحب ذات الجنب شهيد))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2668).
• ذات الجنب: ورم يصيب الغشاء المستبطن للأضلاع.
 
(13) الموت بمرض السل:
روى الطبراني عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السل شهادة))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث: 3691).
 
(14) الموت في سبيل الدفاع عن المال:
روى الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد))؛ (البخاري حديث: 2480/ مسلم حديث: 141).
 
روى مسلم عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطِه مالك))، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتِلْه))، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد))، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: ((هو في النار))؛ (مسلم حديث: 140).
 
(15) الموت في سبيل الدفاع عن النفس:
روى أبو داود عن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمِه، أو دون دينه فهو شهيد))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 3993).
 
(16) الموت في سبيل الدفاع عن الأهل:
روى أبو داود عن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمِه، أو دون دينه فهو شهيد))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 3993).
 
(17) الموت مرابطًا في سبيل الله:
روى مسلم عن سلمان الفارسي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجريَ عليه رزقه، وأمن الفتَّان))؛ (مسلم حديث: 1931).
 
روى الترمذي عن فضالة بن عبيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله؛ فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1322).
 
(18) الموت على عمل صالح:
روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله))، فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفِّقه لعمل صالح قبل الموت))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث: 1742).
 
روى ابن حبان عن عمرو بن الحمق الخزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبد خيرًا عسَّله قبل موته))، قيل: وما عسَّله قبل موته؟ قال: ((يفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه))؛ (السلسلة الصحيحة للألباني جـ 3 صـ 107 حديث: 1114).
 
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقصته ناقته (أي: كسرت عنقه) وهو محرِم، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمِّروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا))؛ (البخاري حديث: 1851/ مسلم حديث: 1206).
 
روى أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله، ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة، ومن صام يومًا ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة))؛ (حديث صحيح لغيره) (مسند أحمد جـ 38 صـ 350 حديث: 23324)؛ (أحكام الجنائز للألباني صـ 58: 48).
 
صور لحسن الخاتمة:
(1) سحرة فرعون:
قال سبحانه: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 41 - 51]، قال كعب الأحبار: كان سحرةُ فرعون اثنَيْ عشر ألفًا؛ (تفسير ابن أبي حاتم جـ 8 ـ صـ 2762).
 
(2) روى الشيخانعن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائةً، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة، انطلِق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلَق حتى إذا نصف الطريق، أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملَك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قِيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له، فقاسُوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضَتْه ملائكة الرحمة))؛ (البخاري حديث 3470 / مسلم حديث 2766).

وفي رواية لمسلم: (فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر، فجُعل من أهلها).

وفي رواية أخرى لمسلم: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرَّبي)؛ (مسلم - كتاب التوبة حديث 47 / 48).

سوء الخاتمة
معنى سوء الخاتمة:
سوء الخاتمة: هي ما يعرض عند وفاة المسلم من الشكوى والأوهام، وعدم القدرة على النطق بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) إذا كان غير ملتزم بطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يتُبْ من ذلك قبل الموت؛ (التحذير من سوء الخاتمة ـ لعبدالحميد السحيباني صـ 8).
 
أقسام سوء الخاتمة:
سوء الخاتمة على رتبتين:
الأولى: أن يغلِب على القلب، عند سكرات الموت وأهواله، شك في ذات الله تعالى، أو جحود لِما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيقتضي ذلك العذاب الدائم، وهذه أعظم.
 
الثانية: أن يغلِب على القلب عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها، فيتمثل ذلك في قلبه، ويستغرقه حتى لا يبقى في متسع لغيره، أو يجور العبد في وصيته، أو يموت مصرًّا على ذنب من الذنوب، وهذه أقل من الأولى؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 4 صـ 174: 17).
 
خوف السلف الصالح من سوء الخاتمة:
(1) بكى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ليلةً فأطال، فسئل عن بكائه، فقال: ذكرت مصير القوم بين يدي الله عز وجل ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7]، ثم صرخ وغُشي عليه؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 83).
 
(2) قال سفيان الثوري: أخاف أن أُسلَب الإيمان قبل أن أموت؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 7 صـ 12).
وقال سفيان الثوري أيضًا: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 7 صـ 51).
 
(3) كان مالك بن دينار إذا أقام في محرابه قال: يا رب، قد عرفتَ ساكن الجنة وساكن النار، ففي أي الدارين مالك، ثم بكى؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 2 صـ 383).
 
(4) قال حاتم الأصم: من خلا قلبُه من ذكرِ أربعةِ أخطار، فهو مغترٌّ، فلا يأمن الشقاء:
الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: ((هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي))، فلا يعلم في أي الفريقين كان.
والثاني: حين خُلق في ظلمات ثلاث، فنودي الملَك بالسعادة والشقاوة، ولا يدري: أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟!
والثالث: ذكر هول المطلع، ولا يدري أيبشَّر برضا الله أو بسخَطه؟
والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتًا، ولا يدري، أي الطريقين يُسلَك به؛ (التبصرة لابن الجوزي صـ 82).
 
أسباب سوء الخاتمة:
الأسباب التي تؤدي إلى سوء الخاتمة لا يمكن حصرها، لكن يمكن الإشارة إليها بإيجاز شديد، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
أولًا: تهاون المسلم في أداء ما افترضه الله تعالى عليه، من الصلاة، والزكاة، والحج، وصوم رمضان، وغير ذلك، مع إصراره على ارتكاب المعاصي، وفعل ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه.
قال الله تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59].
روى الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُه، فإن صلَحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسَدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 337).
 
قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34، 35].
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار))؛ (مسلم حديث 987).
 
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279].
 
روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواءٌ))؛ (مسلم حديث 1598).
 
قال جل شأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91].
 
روى الشيخانِ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصَنات المؤمنات الغافلات))؛ (البخاري حديث 2766/ مسلم حديث 89).
 
ثانيًا: من أسباب سوء الخاتمة أيضًا: حب المعاصي، والاعتياد عليها، والتسويف بالتوبة، وطول الأمل، والانتحار، والإصرار على الابتداع في الدين.
 
قال عبدالحق بن عبدالرحمن الإشبيلي (رحمه الله): اعلم أن لسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسبابًا، ولها طرق وأبواب، أعظمها: الانكباب على الدنيا، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل، وربما غلَب على الإنسان ضرب من الخطيئة، ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه، وسبى عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجحت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك؛ (العاقبة في ذكر الموت ـ لعبدالحق الإشبيلي صـ 178).
 
صور من سوء الخاتمة:
(1) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية، أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني، افعلوا فيه كذا.
(2) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه آه، لا أستطيع أن أقولها.
(3) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاتنا تننتا، حتى مات.
(4) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فقال: وما ينفعني ما تقولُ ولم أدَعْ معصيةً إلا ركبتها؟ ثم مات ولم يقلها.
(5) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فقال: وما يغني عني، وما أعرف أني صليت لله صلاةً؟ ثم مات، ولم يقلها.
(6) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فقال: هو كافر بما تقول، ثم مات، ولم يقلها.
(7) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فقال: كلما أردت أن أقولها لساني يمسك عنها.
(8) قيل لأحد المتسولين عند موته: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: لله، فلس لله، حتى مات.
(9) قيل لأحد التجار عند موته: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترٍ جيد، هذه كذا، حتى مات.
(10) قيل لشارب خمر عند موته: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: اشرَبْ واسقني.
(11) قيل لرجل: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ (منجاب: اسم لصاحبة الحمـام).
 
وهذا الكلام له قصة؛ وذلك أن رجلًا كان واقفًا بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام، فمرت به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأَتْ نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها، أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع، فوجدها قد خرجت وذهبت، ولم تخُنْه في شيء، فهام الرجل وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول:
يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تعِبَتْ ♦♦♦كيف الطريقُ إلى حمامِ مِنْجابِ؟!
 
فبينما هو يومًا يقول ذلك، إذا بجاريته أجابته من طاق:
هلَّا جعَلْتَ سريعًا إذ ظفِرْتَ بها ♦♦♦ حِرزًا على الدارِ، أو قُفلًا على البابِ
 
فازداد هيمانه واشتد، ولم يزل على ذلك، حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا؛ (العاقبة في ذكر الموت ـ لعبدالحق الإشبيلي صـ 179) (الجواب الكافي لابن القيم صـ 116: 115).
 
فائدة مهمة:
قال الإمام عبدالحق بن عبدالرحمن الإشبيلي (رحمه الله): اعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله تعالى منها - لا تكون لمن استقام ظاهره وصلَح باطنه، وإنما تكون لمن له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية؛ (العاقبة في ذكر الموت ـ لعبدالحق الإشبيلي صـ 180).
 
قال الإمام ابن القيم (رحمه الله): كيف يوفَّق بحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبَه عن ذكره، واتبع هواه وكان أمره فُرُطًا؟!فبعيدٌ مِن قلبه، بعيدٌ من الله تعالى، غافل عنه، متعبد لهواه، أسير لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته - أن يوفَّق للخاتمة بالحسنى؛ (الجواب الكافي لابن القيم صـ 116).
 
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، ويرزقنا حسن الخاتمة، كما أسأله سبحانه أن ينفع بهذا العمل طلاب العلم.
 
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
 
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك الخبر

المرئيات-١