أرشيف المقالات

هل تستطيع روسيا غزو العالم؟

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ فؤاد طرزي المحامي عندما أعلن كارل ماركس نبوءته بشر بثورة العمال الكبرى التي ستنهي المرحلة الرأسمالية وتقيم على أنقاض عالمها نظاماً شيوعياً، وقال إن الفقر سيكون الدافع الذي يعجل بهذا الانهيار.
وقد حصلت الثورة في روسيا وقام أبطالها بتطبيق نظريات كارل ماركس تمهيداً لإنشاء المجتمع الشيوعي الموعود.
واليوم، وبعد أن مر أكثر من ثلث قرن على هذه الثورة، نسمع أن الجيش الأحمر حل محل ثورة العمال، وأن زعامة ستالين خلفت الفقر في تولي قيادة التاريخ.
وبهذا تعلق مصير الشيوعية بهذا الجيش وبهذه الزعامة ولم تعد تعني تطوراً اجتماعياً محتماً لا بد منه.
وبناء على هذا التحول نتساءل الآن عما إذا كان في إمكان الجيش الأحمر ومن وراء قوته روسيا غزو العالم وإقامة النظام الشيوعي؟ لقد اتضح بسرعة بعد الثورة الروسية أن هؤلاء الاشتراكيين البلشفيين أناس يختلفون في نزعتهم عن أولئك البلغار الدستوريين والثوريين من اتباع كريسنكي.
لقد كانوا من الشيوعيين المتعصبين، وكانوا يعتقدون أن تسلمهم للسلطة في روسيا ليس إلا بداية للثورة الاجتماعية، فعملوا على تغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي وإقامة نظام جديد بعقول لم تنضجها التجارب.
وإن كانت الحكومة البلشفية قد نجحت في كفاحها ضد التدخلات الخارجية والثورات الداخلية، إلا أن نجاحها كان أقل في محاولاتها لإقامة نظام اجتماعي جديد يرتكز على المبادئ الشيوعية.
فقد كان الفلاح الروسي، ذلك الفلاح الجائع صاحب الأرض الصغيرة، بعيداً عن الشيوعية في آرائه وطرائقه في الحياة بعد الحوت عن الطيران كما يقول ويلز.
إن الثورة منحته أرضاً من تلك الأراضي التي كان يملكها الملاك الكبار، ولكنها لم تيسر له إنتاج غذائه لغير معاملات التبادل النقدية، بل إن الثورة دمرت من بين ما دمرت قيمة النقد ذاتها.
يضاف إلى ذلك أن الفوضى كان قد سبق لها أن شملت الإنتاج الزراعي من جراء انهيار طرق السكك الحديدية أثناء المجهود الحربي فتقلص هذا الإنتاج تقلصاً انتهى به إلى أن غدا مجرد إنتاج للطعام يتعهده الفلاحون لاستهلاكهم الخاص.
وجاعت المدن وفشلت فشلاً تاماً كل المحاولات الارتجالية الداعية لتحويل الإنتاج الصناعي وفقاً للمبادئ الشيوعية.
وما إن حل عام 1920 حتى كانت روسيا قد عرض أول اتجاه من نوعه في المدينة الحديثة إلى الانهيار التام.
وأعقب ذلك انهيار خطوط السكك الحديدية وخراب المدن وسريان الدمار إلى كل مكان.
وفي عام 1921 حل جدب عام وسرت بين الفلاحين المنتجين مجاعة كبرى دمرت المناطق الجنوبية وأجاعت الملايين من الناس. ووسط هذه الظروف المؤلمة وضعت التصاميم لتنفيذ عملية الأعمار، ووضعت سياسة اقتصادية جديدة.
وبمقتضى هذه التدابير منحت حرية لا بأس بها للمالك الفردي ولصاحب المشروع الخاص على عكس ما يتطلبه المنطق الماركسي.
ولهذا لاح أن روسيا قد تخلت عن الاشتراكية وأنها أصبحت تعيش في ظروف تشبه نوعاً ما تلك الظروف التي كانت عليها الولايات المتحدة في المئات الأولى من سني تاريخها.
فقد ظهرت طبقة الفلاحين المرفهين من الكولاك الذين يشبهون الفلاحين الأمريكيين الصغار وتضاعف عدد التجار المستغلين.
ولكن الحزب الشيوعي لم يكن يميل إلى ترك وسائله الخاصة في سبيل السماح لروسيا أن تسير على النمط ذلك سارت عليه اليقظة الأمريكية منذ مئات السنين. وفي عام 1928 بدأ مجهود ضخم جبار لإعادة البلاد إلى الطريق الشيوعي في التطور الاجتماعي.
فوضع مشروع الخمس سنوات وفق تصميم يروم دفع البلاد إلى الأمام لتحقيق توسع سريع في ميدان التصنيع، وعلى الأخص، وبصورة كبيرة، في مجال المصنوعات الثقيلة وإعادة تنظيم الإنتاج الزراعي حسب أسلوب الإنتاج الكبير الذي تتعهده المزارع التعاونية.
وفي شهر يناير من عام 1924 خسرت روسيا قيادة لينين البارعة، وكان خلفه ستالين صاحب يد قوية قاسية فعمل على تصنيع البلاد بالعنف ولكنه لم يصب أي تقدم رغم كل المحاولات.
وما إن حل الشتاء عام 1933 - 1934 حتى وجدت روسيا نفسها دفعة واحدة تواجه نقصاً كبيراً في الطعام.
وخلال كل هذه المراحل كانت بقية الدول في العالم مشغولة في اجتناء نظام الفائدة الخاصة، مراقبة التجربة الروسية مراقبة يمتزج فيها الفضول بعدم الثقة والتهيب.
ولكن هذه التجربة كانت تتحول من حال إلى حال ومن شكل إلى شكل.
فإن الضغط العنيف على المعارضة قد استمر على قوته مما اضطر كل أسلوب من أساليب المقاومة أن يعمل في الخفاء والسر، وبذلك كان الأمر ينتهي بالمعارضة المضغوط عليها إلى أن تصبح معارضة دموية.
وأخذت دواعي الانفصال تأكل في قلب النظام الجديد، وأعقب وفاة لينين صراع طاحن من أجل السلطة، بين تروتسكي الذي يعزي إلى قيادته العسكرية اللامعة النجاح الذي أحرزته الجمهورية في المعارك الدفاعية التي خاضتها عام 1919 - 1920 وبين ستالين سكرتير الحزب الشيوعي سابقاً.
إن التفاصيل الكاملة لهذا الصراع المعقد لا تزال غامضة لم يزح عنها النقاب؛ فقد كان تروتسكي موهوباً ولكنه كان مغروراً، أما ستالين فكان صلباً مستبداً برأيه.
وأدى الصراع بينهما إلى تقسيم القوة الماركسية اليسارية في جميع العالم إلى جبهتين متخاصمتين. وشوهد في روسيا نفسها الكفاح السري الذي يؤججه المعارضون من الموظفين والمستخدمين ضد ستالين في إدارته، ولكن أكثر قوى هذا الكفاح قد ضاع في وسط شديد الغموض وفشت بين الجبهات المعارضة بكل تأكيد بعض الخيانات والانشقاقات، إلا أن هناك احتمالاً يقرب من اليقين يؤيد بأن المعارضة كانت موجودة في زمان لينين، وأنها ازدادت نشاطاً وترابطاً بعد وفاته.
وسلكت الحكومة الستالينية في بادئ الأمر سياسة معتدلة مع هؤلاء المعارضين لفترة من الزمن.
وقد سيق إلى المحاكمة عدد من الموظفين المسؤولين معهم عدد من الفنيين البريطانيين متهمين بأنهم يعوقون عن عمد المحاولات الجارية لتصنيع روسيا.
وانكشف الستار بعد عدة محاكمات متتالية عن عناصر سياسية متآمرة.
ولكن حتى مقتل واحد من أقرب المقربين إلى ستالين وهو وزيره (كيرون) الذي قتل أثناء قيامه بواجبه في الكرملين في أول ديسمبر 1934، وإلى حد هذا التاريخ كان المتهمون يساقون إلى السجن أو إلى المنفى؛ إلا أن الأمور بعد هذه الحادثة أخذت تتجهم وتزداد حلوكة.
ففي ربيع 1934 فقد ستالين زوجته في ظروف لا تزال إلى الآن غير معروفة بل وأن هناك من يظن أنها انتحرت بسبب الآلام التي قاساها الفلاحون عند تطبيق مشروع السنوات الخمس.
وبعد أن نفض ستالين يديه من جميع معارضيه قتلاً وتشريداً وحبسا وجد نفسه بلا صديق حميم فراحت المحاكمات السياسية تتبع الواحدة الأخرى، وأصبح الموت هو الشيء الوحيد الذي يتبع مجرد الاتهام، وقتل القادة البولشفيك الواحد بعد الآخر، ولم يبق منهم غير اثنين أو ثلاثة.
وغدا ستالين طاغية لا يعرف معنى التسامح ولا أسلوب التسويات بل كان همه مكافحة المتآمرين على حياته ومصلحته. هذه هي الحالة التي كانت عليها روسيا عام 1938؛ فالحياة المادية فيها - كما يقول ويلز في كتابه تاريخ العالم - كانت تعاني الإجهاد يصاحبها نقصان تدريجي في الإنتاجين الزراعي والصناعي.
وقد كان في وسع الجيش الهتلري لو وجه كل قواه منذ أول الحرب لغزو روسيا أن ينجح أكثر من نجاحه الذي حققه في الغزو الذي شنه بعد أن استنزفت القوى الألمانية وبعد أن استطاع الإنجليز والأميركيون أن يزيدوا مواردهم ويضاعفوا إنتاجهم. ومع أن قوات الروس والحلفاء ظلت متعاونة قرابة أربع سنين إلا أن الهوة التي تفصل بين الأهداف الروسية والأهداف الأمريكية سرعان ما فصلت بين الحلفاء الغربيين وبين روسيا بمجرد انتهاء الحرب، وعاد العالم - كما حدث في كل مراحل التاريخ - لينقسم إلى معسكرين متعاديين متعارضين، وأخذت تتردد أحاديث الحرب الجديدة على الشفاه، فيكتب عن هولها المعلقون، ويتنبأ بنتائجها الباحثون والكاتبون.
ولا يمكن حتى لأشد الناس تفاؤلا أن يكتم يقينه بوقوع الواقعة يوماً ما، لأن ستالين قد أعد جيشه الأحمر ليكون رسولا لمبادئ كارل ماركس، كما سبق لهتلر أن أعد جيش الرايخ ليقيم النظام الجديد.
فما هي الموارد التي تمون هذا الجيش الذي أضحى بديلاً عن الثورة العمالية الكبرى؟ أو بمعنى أصح، هل روسيا قادرة على تحقيق حلم ستالين بإقامة قيصرية روسية كبرى مركزها الكرملين؟ هل تستطيع روسيا أن تثير حرباً؟ هذا هو السؤال الذي يجابهنا اليوم، وفي الإجابة عنه نقول إن خطط روسيا الحربية يجب أن تبنى على اقتصادها الصناعي في حين أن المعلومات عن هذا الاقتصاد غير متوفرة تمام التوفر.
ومع ذلك فهناك عدد من الحقائق الأساسية يمكن التكهن بواسطتها.
ولنبدأ أول ما نبدأ بالسكان ندرس بعد ذلك مساحة البلاد نفسها.
وفي هذا المجال من الخطأ الظن بأن روسيا إقليم ضخم ذو ثروة وإمكانيات غير محدودة.
فمساحة روسيا تبلغ ما مقداره (45) مرة بقدر مساحة ألمانيا؛ إلا إن أكثر من نصف مساحتها غابات، وما يقارب خمسها صحراء أو شبه صحراء، ولا تتجاوز المنطقة الخصبة ثمن المساحة الحقيقية.
وهذا يعني أن قابلية روسيا لإعاشة (182) مليون نفس لا تتجاوز قابلية أمريكا لإعاشة (142) نفس، ويعني أيضاًبأن الروس سيعانون دوما نقصاً في غذائهم وستبقى روسيا مدة طويلة من البلدان التي تدركها المجاعات. ويوجد حوالي خمسة ملايين من الروس مشتتين في مناطق بعيدة تشتتاً أضاعهم في الغابات والمجاهل الواسعة، وكذل فإن عدد السكان الروس العاملين لا يتجاوز عدد السكان الأمريكيين العاملين.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن أغلب المصانع الروسية متركزة في المثلث الذي يمتد من (لينينغراد) و (أوكرانيا) غرباً إلى المناطق الصناعية الجديدة في وسط سيبريا وهي المنطقة الروسية المنتجة الوحيدة، وأن هذا المصدر الرئيسي المتركز داخل المثلث مكشوف تماماً، عرفنا مقدار انحطاط القابلية الصناعية في روسيا ومقدار تعرضها للخطر في حالة نشوب حرب حديثة. ويبلغ الإنتاج الروسي اليوم إنتاج الولايات المتحدة قبل 48 سنة.
ونحن نعرف أن الحرب قد أتلفت الكثير في ألمانيا وإيطاليا واليابان وإنجلترا إلا أن التلف الذي حصل في روسيا يفوق كل تلف سواه، فقد خسرت روسيا 58 بالمائة من طرقها الحديدية و44 بالمائة من قوتها الكهربائية و45 بالمائة من إنتاجها من الحديد و55 بالمائة من إنتاجها من المواد الغذائية، كما خسرت الملايين من البيوت والبنايات والجسور. (البقية في العدد القادم) فؤاد طرزي المحامي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن