أرشيف المقالات

قلب المفاهيم وأثره في تضليل الناس

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
قلب المفاهيم وأثره في تضليل الناس

كلُّنا سمِعنا بمسألة الغَواية التي وقع فيها آدمُ وزوجُه حوَّاءُ عليهما السلام، بعدما أمَرَهما الله تعالى بالتفسُّح في الجنة والتنعُّم بكل خيراتِها، باستثناء شجرةٍ نهاهما عنها، وحذَّرهما من الأكل منها؛ مصداقًا لقوله سبحانه: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35]؛ وذلك لحكمةٍ يعلَمُها الله سبحانه وتعالى، مُذكِّرًا آدمَ عليه السلام بعدوِّه إبليس، وضرورة أخذ الحيطة والحذر من مكايده وغدره؛ حتى لا يُخرِجه وزوجَه من الجنة، كما خرج هو وأُبْلِسَ مِن رحمة الله، قال تعالى: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 117 - 119].
 
غيرَ أن إبليس مِن شدَّة حقده على آدم عليه السلام أخَذَ عهدًا على نفسه بالتسبُّبِ في طرده هو الآخر مِن رحمة الله تعالى، وإخراجه من الجنة، وقد كان له ذلك، ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 20 - 22].
 
فتأتَّى لإبليس ما أراد، فقط بوسوسة مُغلَّفة بغِلاف النصيحة، ومختومة بالقَسَم العظيم، ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾[الأعراف: 21]، فوقع ما وقع، وأُهبِط الجميع إلى دار الابتلاء، ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38].
 
غيرَ أنه بالتأمُّل في فعلِ إبليسَ اللعينِ، يتبيَّن لنا أنه في وسوستِه اعتَمَد خُطَّة جَهنَّمية، قامت بالأساس على قلبِ مفهومِ الشجرة، وإعطائها معنًى جديدًا مختلفًا عن ذاك الذي استقرَّ في ذهن آدم عليه السلام، كونها شجرةً منهيًّا عنها وكفى! مُبرِزًا أنها شجرةُ مُلْك وخُلْد، وأن الآكِلَ منها لا محالةَ يُصبِح مَلِكًا خالدًا، فنسِي آدم نَهْيَ ربِّه سبحانه، فأكل فندِم، وتاب فتاب الله تعالى عليه.
 
إن خبثَ إبليسَ ومنهجَه في التدليس، وقلب الحقائق بتغيير مُسمَّيات الأشياء، وتغليفها بالنصح، وإظهار حبِّ المصلحة للغير - لم يقف عند الخطيئة الأولى وإيقاع آدم عليه السلام وزوجِه وحَسْب، بل تعدَّاه إلى ذرِّيَّتِهما أيضًا، ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأعراف: 16 - 18].
 
وقد استطاع إبليسُ أن يَفِيَ بعهدِه الذي أخذه على نفسِه من خلال توريث منهجه لأتباعه من الإنس والجن، الذين لم يدَّخِروا جهدًا في تطبيق منهج إبليس - المُعلِّمِ الأوَّلِ للتدليس - حرفيًّا، فقلَبوا المعانيَ، ودلَّسوا الحقائق، وأدخَلوا الناس في متاهات ودوَّامات من الشك والتِّيه، لدرجةٍ أصبَح معها الرِّبا يُسمَّى فوائدَ بَنْكيةً، والزنا واللواطُ والسحاق يسمى حرياتٍ فرديةً، والخمورُ وغيرها من المُسكِرات تسمى مشروباتٍ رُوحيةً، وأضحى التبرُّج تحضرًا، والتعفُّف والستر تزمُّتًا وتخلفًا، والقِمار حظًّا، والنصيحةُ أصبحت ثرثرةً وفضولًا، والفضولُ ونشرُ الرذائل وهدمُ الثوابت فكرًا ورأيًا، والصراحةُ أصبحت وقاحةً...، فاختلط الحابل بالنابل، وامتزج الغث بالسمين، والصحيح بالسقيم؛ فوقع خلقٌ كثير في محظوراتٍ جَمَّة، ومخالفات شرعية شتى، تارة بالامتناع عن الحلال لتوهُّمِ حُرمته، وتارة أخرى بالوقوع في الحرام توهمًا لحِلِّيَّتِه، نسأل الله العافية!

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢