أرشيف المقالات

طرب العلماء

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2طرب العلماء

قد يتعجب البعض عندما يقرأ العنوان، ويسأل باستغراب: وهل يطرب العلماء؟ وهل عندهم وقت للطرب؟ ومن أباح لهم الطرب؟ وكيف يطربون؟

لا يا صديقي، لا تستعجل على الحكم من خلال العنوان، فالعلماء نعم يطربون، وطربهم ليس كطرب أهل اللهو والعبث، فطربهم رقص مشاعرهم فوق السحاب، فأفراحهم ومتعتهم لها ذوق وفن آخر، تعال معي حتى تشاهد طرفًا من ذلك الطرب.
 
قبل أن أبدأ أذكر أنه كان لي صديق في الجامعة يعد من النوابغ، كلما أتقن فنًّا من فنون العلم أو أكمل كتابًا أخذته النشوة، وهزَّه الفرح، وسارَعَ لاصطحابنا إلى أحد المطاعم، وأطعمنا مما لذَّ وطاب من الأطياب، واجتمعنا في مقيل حافل نُهنِّئه، فكنت أرى السعادة تهمي عليه، والفرح يملأ مُحيَّاه، والسرور يداعب قسماته، فكأنما حاز كنزًا من كنوز الذهب بل أعظم.
 
وتلك الليالي الماتعة التي يطرب فيها تعد غرر لياليه وأبهجها، وبينما كنتُ أتأمل فرحته وطربه وجدتُ الإمام الشافعي نفسه يمُرُّ بحالات من هذا الطرب؛ بل دوَّنَها شعرًا؛ إذ يقول:






وَتَمَايُلِي طَرَبًا لِحَلِّ عَوِيصَةٍ
فِي الدَّرْسِ أَشْهَى مِنْ مُدَامَةِ سَاقِي











ويعد الإمام الشافعي أحد علماء الأمة المتبوعين الكبار وفِطَحْلًا من فطاحلها العظام المجتهدين، فيا الله! كيف كان يعيش أفراحه ما دام أنه يتمايل طربًا لحل عويصات المسائل؟! بقيت أفكر وأقول: ليت شعري! كيف هي حالته عندما صلَّى فجر تلك الليلة عند تلميذه أحمد بن حنبل وقد استنبط من حديث "يا أبا عمير ما فعل النغير" مائة وعشرين مسألة وفائدة؟! كيف هي فرحته ولذته وتمايله وطربه عندما قَبِله الإمام مالك تلميذًا عنده؟! كيف متعته عندما كتب آخر كلمة في كتابه "الرسالة" أول كتاب بقر أصول الفقه وفتق مبهمات هذا الفن ووضع أسسه؟! وكيف هي فرحة الإمام السيوطي وقد استنبط من قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257] أكثر من "مائة وعشرين" نوعًا من أنواع البديع؟!

ومن طريفِ ما قرأتُ في ترجمة حسان بن ثابت أنه كان إذا عالج شعرًا، واستعصى عليه، ثم أحكمه وأعجبه، طرب به، وربما صاح من الطرب، ومن فرحة الانتهاء من الشعر قال أحدهم: "سمعت حسان بن ثابت في جوف الليل وهو ينوه بأسمائه ويقول: أنا حسان بن ثابت، أنا ابن الفريعة، أنا الحسام، فلما أصبحتُ غدوتُ عليه، فقلت له: سمعتك البارحة تنوه بأسمائك، فما الذي أعجبك؟ قال: عالجت بيتًا من الشعر، فلما أحكمته نوهت بأسمائي! فقلت: وما البيت؟ قال: قلت:






وإِنَّ امْرًا أَمْسَى وَأَصْبَحَ سالِمًا
مِنَ النَّاسِ إِلَّا ما جَنى لَسَعيدُ











وقد قال علماء الأدب: إن هذا البيت هو أحكم بيت قالته العرب، فكيف لا يرقص طربًا ويصيح ويفخر بأسمائه؟!

ورُوي أيضًا أنه قام من جوف الليل فصاح: يا آل الخزرج، فجاءوه وقد فزعوا، فقالوا: ما لك؟ قال: بيت قلته فخشيت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة، خذوه عني، قالوا: وما قلت؟ قال: قلت:






رُبَّ حِلْمٍ أضاعه عدم المَا
ل وَجَهْلٍ غَطَّى عَلَيْهِ النَّعِيمُ











يهتزُّ طربًا ويصيح: واصباحاه! ليسجلوا عنه بيته الشعري وهو في غمرة الفرح والإعجاب والسرور.

وقفتُ على كلمة لابن الجوزي أقسَم فيها بالله على هذه اللذة، ويا للعجب لهذا القسم الذي يؤكد لك جمال هذا الطرب وإمتاع هذه الأفراح.


فيقول: "والله، ما أعرف مَن عاش رفيعَ القَدْر بالِغًا من اللَّذات ما لَم يبلُغْ غيرُه، إلَّا العلماء المُخلصين؛ كالحسَن وسفيان، والعُبَّاد المُحقِّقين كمعروف؛ فإنَّ لذة العلم تزيد على كلِّ لذة، وأمَّا ضرُّهم إذا جاعوا أو ابتُلوا بأذًى، فإنَّ ذلك يَزِيد في رِفْعتهم، وكذلك لذة الخلوة والتعبُّد".

وما أجمل ما قاله أحد أصحاب أبي بكر بن دُرَيد يصور فرحته وطربه ولذته وأنسه بكتبه فيقول:






إذا اعتلَلْتُ فكُتْب العلمِ تَشْفِيني
فيها نَزَاهةُ أَلْحاظِي وتَزْيِيْنِي


إذا شكوتُ إليها الهمَّ من حَزَنٍ
مَالَتْ علَيَّ تُعَزِّيْنِي وتُسْلِيْنِي


إِلْفِي وحِلْفي وأُنْسي حين يُؤْنِسُنِي
فَاقَ الصَّدِيقَ الَّذي بالوُدِّ يُصْفِيْنِي


حَسْبي الدفاترُ من دنيا قَنِعْتُ بها
لا أبتَغِي بدَلًا منها ومن دِيْنِي






 
هل مَرَّ عليك فرحٌ جعلك تسهر ليلك كله؟! هذا الفرح يحصل للعلماء، ولك أن تسمع إلى عالم جِهْبِذ قلَّ نظيره، وهو أبو عبيد، فهل سمعتم بالإمام المجتهد الكبير أبي عبيد صاحب المصنفات التي سارت بها الركبان.

أريد أن أُحدِّثكم بشيء من طرَبه لكن قبل ذلك أودُّ أن أخبركم عن ثناء العلماء على نبوغه وعبقريته، فهذا أبو العباس ثعلب يقول عنه: "لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجبًا"، والهلال بن العلاء الرقي يقول: "مَنَّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بالشافعي تفقَّه بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبأحمد ثبت في المحنة، وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الحديث، وبأبي عبيد فسر الغريب من الحديث".

وقد سُئل أبو قدامة عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، فقال: أما أفقههم فالشافعي، وأما أورعهم فأحمد، وأما أحفظهم فإسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فأبو عبيد.

بل يقول عنه إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة تعجز النساء أن يلِدْنَ مثلهم: رأيت أبا عبيد، ما مثَّلته إلا بجبل نفخ فيه روح......."

ورآه يومًا الأصمعي وهو مقبل، فشق إليه بصره حتى اقترب منه، فقال: أترون هذا المقبل؟ قالوا: نعم، قال: لن تضيع الدنيا أو الناس ما حيي هذا.

حسنًا..
ماذا يقول؟ وما هو طربه؟

يقول: "كنتُ في تصنيف هذا الكتاب -كتاب "غريب الحديث"- أربعين سنَةً، ورُبَّما كنت أستفيد الفائدةَ من أفواه الرِّجال، فأضَعها في موضِعِها من هذا الكتاب، فأبِيت ساهِرًا؛ فرَحًا منِّي بتلك الفائدة".

ما أروعه من فرح! وما أجمله من طرب!

لقد ذكرتُ لك طَرَفًا من ثناء العلماء على عبقريته؛ لتدرك مدى طربه، فإن المسائل الكبار التي يتعرض لها تناسب حجمه، فكان الفرح إذن يناسب شخصيته الفذة ووعورة المسائل التي يحلها.

حسنًا..
هل سمعتَ عن رجل يفرح لفهم مسألة أكثر من فرحه بإطلاقه من السجن؟!

لقد حصل هذا للإمام الكبير المجتهد ابن حزم، ابن حزم الذي وُصِف في "نفح الطيب" أنه أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة.."

ابن حزم الذي وصفه أبو زهرة بقوله: "لم يعرف التاريخ قبل ابن حزم عالمًا جمع بين ضروب العلم المختلفة ما جمعه ابن حزم..".


ابن حزم الذي ألَّفَ أربعمائة مجلد تشتمل على ما يقرب من ثمانين ألف ورقة.

لقد كان مسجونًا ذات مرة وقد تعب من التفكير في مسألة علمية عويصة، ثم شاء الله أن يفهم المسألة ويُطلق سراحه في نفس الوقت، فهام طربًا لحل المسألة لا للخروج من السجن! ولك أن تسمعه إذ يقول: "وكنتُ مفكرًا في مسألة عويصة من كليات الجمل التي تقع تحتها معانٍ عظيمة كثر فيها الشغب قديمًا وحديثًا في أحكام الديانة، وهي متصرفة الفروع في جميع أبواب الفقه، فطالت فكرتي فيها أيامًا وليالي إلى أن لاح لي وجه البيان فيها وصح لي وحق لي الحق يقينًا في حكمها وانبلج، وأنا في الحال الذي وصفت، فبالله الذي لا إله إلا هو الخالق مدبر الأمور كلها أقسم، والذي لا يجوز القسم بسواه، لقد كان سروري يومئذٍ وأنا في تلك الحال بظفري بالحق فيما كنت مشغول البال به وإشراق الصواب لي أشد من سروري بإطلاقي مما كنت فيه".

وقد يصل الفرح بهذا العالم أن يخرجه عن وقاره وسمته، ويجد لذلك لذَّةً لا تُوصَف.

فقد روى أحد الكُتَّاب عن أحد علماء المغرب وهو محمد بن إدريس بلبصير أنه قال: كان هناك فقيه قبل عشرات السنين يسكن بالقرب من جامع القرويين بفاس، وله مكتبة فوق السطوح، يظل فيها الليل كله يبحث ويتدبر ويستنبط، وكان إذا فتح الله عليه في مسألة من المسائل يأخذ دُفًّا كان يعلقه في حائط غرفته ويبدأ في الضرب عليه بسعادة وفرح، وكان الناس إذا سمعوا ضرب الدُّفِّ يقولون: ها هو الشيخ قد فهم.

وقبل ذلك فهذا عبدالله بن مسعود فرح فرحًا شديدًا عندما وافق حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة بروع بنت واشق التي مات زوجها قبل الدخول بها، وقد مكث ابن مسعود شهرًا وهو متوقف عن الإجابة، يترددون عليه، فلما أجاب أن لها الصداق، ولها الميراث، وعليها العدة، أُخبِر في نفس المجلس أنَّ حكمه وافق حكم الرسول، فطار فرحًا، ووصف الرواة فرحه بـ "الشديد".

ولك أن تتأمَّل الحديث الذي في البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن شجرة تشبه المؤمن، فيقع الصحابة في شجر البوادي، ويعرف ابن عمر الإجابة؛ لكنه لا يجيب، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة"، وحدَّث ابن عمر أباه أنها وقعت في نفسه واستحى أن يتقحم الإجابة لصغره، ماذا قال له عمر رضي الله عنه؟ قَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَكونَ لي كَذَا وكَذَا.

كان سيفرح فرحًا شديدًا وينبسط ويُسَرُّ أن ابنه عرف الإجابة.

لما قرأتُ في ترجمة ابن حجر وقصة وليمته لما أكمل كتابه فتح الباري ذكرتُ ما فعله زميلي، فإن ابن حجر مكث خمسًا وعشرين سنة يؤلف كتابه "فتح الباري"، ولما أتمَّ التأليف عمل مأدُبةً، ودعا إليها أهلَ قلعة دمشق، وكان يومًا عظيمًا.

قال تلميذه السخاوي: وكان يومًا مشهودًا لم يعهدْ أهلُ العصر مثلَه بمحضرٍ من العلماء، والقضاة، والرؤساء، والفضلاء، وقال الشعراء في ذلك فأكثروا، وفُرِّق عليهم الذهب، وكان المستغرقُ في الوليمة خمسمائة دينار، ووقعت في ذلك اليوم مطارحة أدبية...
إلى آخر ما قال؛ انتهى.


قال الشيخ العلامة صديق حسن خان رحمه الله: ولما وقفتُ على هذه الحكاية -أي: حكاية وليمة ابن حجر آنفة الذكر- عملتُ وليمةً عظيمةً على تفسيري "فتح البيان في مقاصد القرآن".

هذه الولائم هي من أفراح العلماء وطربهم لإكمال مؤلفات كتبوها وحبَّروها.

ومنهم من كان يبيت الليل كله يفكر في مسألة من المسائل ثُمَّ يُفتَحُ له فيها، فإذا به يبتهج بفتقها وكأنها عذارى كما يصور ذلك الشنقيطي صاحب أضواء البيان؛ إذ يقول في مقطوعة ماتعة:






وَلِي شُغُلٌ بِأَبْكَارٍ عَذَارَى
كَأَنَّ وُجُوهَهَا ضَوْءُ الصَّبَاحِ


أَرَاهَا فِي الْمَهَارِقِ لابِسَاتٍ
بَرَاقِعَ مِنْ مَعَانِيهَا الصِّحَاحِ


أَبِيتُ مُفَكِّرًا فِيهَا فَتُضْحِي
لِفَهْمِ الفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ






 
فما أعظمَها من متعة! وما أروعَها من لذَّة! وما أجمله من طرب حينما يصل إلى مبتغاه في فهمها!

من الأخبار التي طربت لها ما ورد في كتاب الفرج بعد الشدة أن الأصمعي حكى عن اللغوي المقرئ الكبير أبي عمرو بن العلاء، قال: كنت مستخفيًا من الحجَّاج، وذلك أن عمي كان عاملًا له، فهرب، فهمَّ بأخذي، فهربتُ منه ناحية اليمن، وكان من قبل أيضًا قرأ قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249]بالفتح، فأحضره الحجَّاج، وقال: ما حجتك في قراءتها بالفتح؟ قال: أمهلني أيها الأمير، قال: أمهلتك شهرًا، فإن لم تأتني بحجة ضربت عنقك، قال أبو عمرو: فبينا أنا على حال خوفي منه إذ رأيت أعرابيًّا يسوق إبلًا وينشد:






يَا قَلِيل العزاءِ فِي الْأَحْوَالِ
وَكثير الهموم والأوجال


صبِّرِ النَّفْسَ عِندَ كُلِّ مُلِمٍّ
إِنَّ في الصَّبْرِ حيلَةَ المُحتالِ


لا تَضيقَنَّ بِالأُمورِ فَقَد يُك
شَفُ غَمَّاؤُها بِغَيرِ احتيالِ


رُبَّما تَجزَعُ النُّفوسُ مِنَ الأَمْ
رِ لَهُ فَرْجَةٌ كَحَلِّ العِقالِ






 
وهذه الأبيات لأمية بن الصلت، وهي من غرر شعره، فقال له أبو عمرو: ما وجه الفتح في فَرْجة؟ فقال: ما أتى على وزن فعلة فلنا فيه ثلاث لغات، ففرح أبو عمرو بوجود الحجة لقراءته، ثم إنه سأل الأعرابي بتلهف: ما سبب إنشادك هذه الأبيات؟ قال الأعرابي: إنه قد بلغنا نعي الحجَّاج، وكنا متخوفين منه، فقال أبو عمرو: والله ما أدري بأيتهما أفرح؛ بموت الحجاج، أم بوجود الحجة على قراءتي ومذهبي؟!

لك أن تتخيَّل رجلًا عالمًا لغويًّا بحجم أبي عمرو يبحث عن شاهد وقد أعياه الأمر، ثم يسمعه فجأة وهو مُطارَد، كيف سيكون فرحه؟! وما حجم طربه بسماع هذا الشاهد؟!

إن القارئ الطروب يخفق قلبه للمعلومات الجديدة، وتتحرك مشاعره للمعاني الفريدة، يضحك في مواقف الضحك، ويبكي في مواقف البكاء، مشاعره هائمة، وروحه سابحة، يرى المشاهد البديعة بعين فكره.

فإذا رأيته يترنَّح ويتمايل ويهتز اهتزاز الغصن فلا تظن به ظن السوء؛ فلا تظن أنه ثمل، أو أن به دوار البحر، كلَّا بل ربما يكون قرأ استنباطًا بديعًا في تفسير آية، أو مرَّ على شاهد لغوي في كلام العرب، أو هزَّتْه مسألة فقهية، أو جواب حكيم، أو اكتشافٌ مذهل.

إنه أمام كتبه يهتز طربًا، ويتمايل عجبًا، وينتفض دهشة، ويترنَّح طيبًا وأنسًا؛ لأنه من هواة العلم، ومتذوِّقي الأدب، وسابري أغوار المعاني، وقد عبَّر أحد العلماء عن هذا الطرب بقوله:






كم سرتُ طِفْلًا لِتحصيلِ العلومِ وكمْ
أصبحتُ بَعدُ بتدريسي لها طرِبا











إنه السرور الذي يشع في سماء روحه ومروجها المفعمة، فيطرب الوجدان، ويسر الخاطر، وينثال الجمال البديع بين جوانحه فينتشي طربًا، وطرب العلماء أعظمُ من طرب النابغة حيثُ يقول:






وأراني طَرِبًا في إِثْرِهِم
طربَ الوالهِ أوْ كالمُخْتَبَلْ











إن الطرب خفَّة تصيب الإنسان؛ لشدة السرور، أو ما تطغى عليه من مشاعر تغمره، فتؤثر في بشرته.

وسبب فرحتهم شهوتهم العارمة للعلم، فشهوة تحصيل العلم عندهم عبَّر عنها النوفلي عندما سُئل: مَا بلغ بِك من شهوتك للعلم؟ قال: إذا نشطتُ فلذَّتي، وإذا اغتممتُ فسَلْوَتي.

ومما يروى عن الشافعي في هذا أنه قيل له: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف مما لم أسمعه من قبل فتودُّ أعضائي أن لها سمعًا تتنعَّم به مثل ما تنعَّمت به الأذنان، فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذَّته للمال، قيل: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلَّة ولدها ليس لها غيره".

فشهوة العلم تطغى عندهم على كل شهوة، فإن أتقن أحدهم بابًا أو أكمل تأليف كتاب، أو وجد حلًّا لمسألة عويصة، طار فرحًا وسُرَّ سرورًا لا يُوصَف؛ بل شبه ابن الجوزي بعض مجالس العلم بالجنة؛ إذ يقول:






كَمْ كَانَ لِي مِنْ مَجْلِسٍ لَوْ شُبِّهَتْ
أَجْوَاؤُهُ لَتَشَبَّهَتْ بِالْجَنَّةِ

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير