Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
ثم لما ولي المفضل بن المهلب خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه، فأصاب كل رجل ثماني مائة.
ثم غزا آخرون وشومان فغنم وقسم ما أصاب، ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاء شيء، وإن غنم شيئا قسمه بينهم.
أراد عبد الملك بن مروان أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ويبايع لابنه الوليد بن عبد الملك، فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب وقال: لا تفعل؛ فإنك تبعث على نفسك صوت عار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه.
فكف عنه ونفسه تنازعه إلى خلعه.
فدخل عليه روح بن زنباع، وكان أجل الناس عند عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك.
قال: نصبح إن شاء الله.
ونام روح عند عبد الملك، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه أن لا يحجبوا قبيصة عنه، وكان إليه الخاتم والسكة، تأتيه الأخبار والكتب قبل عبد الملك، فلما دخل سلم عليه، قال: آجرك الله في أخيك عبد العزيز.
قال: وهل توفي؟ قال: نعم.
فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح، فقال: كفانا الله ما كنا نريد، وكان ذلك مخالفا لك يا قبيصة.
فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة، فقال عبد الملك: وربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمرو بن سعيد، ألم تكن العجلة فيه خيرا من الأناة؟ وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأولى في مصر، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه مصر.
فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره.
فلما أتى خبر موته إلى عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنيه الوليد وسليمان، فبايعوا، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان.
سقطت مدينة برشلونة بالأندلس بيد ملك الفرنج بقيادة أذفونش بعد تحالفه مع البشكنس- لعنهم الله- وأخذوها من المسلمين، ونقلوا حماة ثغورهم إليها، وتأخر المسلمون إلى ورائهم.
وكان سبب ملكهم إياها اشتغال الحكم بن هشام صاحب الأندلس بمحاربة عميه عبد الله وسليمان.
غزا راغب الخادم مولى الموفق بلاد الروم ففتح حصونا كثيرة، وأسر ذراري كثيرة جدا، وقتل من أسارى الرجال الذين معه ثلاثة آلاف أسير، ثم عاد سالما مؤيدا منصورا.
غزا ابن الإخشيد بأهل طرسوس بلاد الروم، ففتح الله على يديه حصونا كثيرة، ولله الحمد.
هو إمام النحو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي الثمالي المعروف بالمبرد، النحوي البصري.
ولد بالبصرة عام 210 إمام في اللغة العربية، أخذ ذلك عن المازني وأبي حاتم السجستاني، وكان إماما علامة، جميلا وسيما، فصيحا مفوها، ثقة ثبتا فيما ينقله, كان المبرد مناوئا وزميلا لأبي العباس أحمد بن يحيى المشهور بثعلب.
والمبرد يحب مناظرته والاستكثار منها، بينما ثعلب كان يكره ذلك ويمتنع عنه لتفوقه عليه, وله كتاب "الكامل في الأدب".
لما توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيباني صاحب ديار بكر، قام بعده ابنه محمد بآمد وما يليها على سبيل التغلب، فسار المعتضد إلى آمد بالعساكر، ومعه ابنه أبو محمد علي المكتفي، وجعل طريقه على الموصل، فوصل آمد، وحصرها إلى ربيع الآخر من سنة 286، ونصب عليها المجانيق، فأرسل محمد بن أحمد بن عيسى يطلب الأمان لنفسه، ولمن معه، ولأهل البلد، فأمنهم المعتضد، فخرج إليه وسلم البلد، فخلع عليه المعتضد وأكرمه، وهدم سورها.
ثم بلغه أن محمد بن أحمد يريد الهرب، فقبض عليه وعلى أهله.
هو أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني الوزير المشهور بكافي الكفاة، وزر لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه.
هو أول من سمي بالصاحب؛ لأنه صحب مؤيد الدولة من الصبا، وسماه الصاحب، فغلب عليه، ثم سمي به كل من ولي الوزارة بعده، وقيل: لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له صاحب ابن العميد، ثم خفف فقيل: الصاحب.
أصله من الطالقان، وكان نادرة دهره وأعجوبة عصره في الفضائل والمكارم.
أخذ الأدب عن الوزير أبي الفضل بن العميد، وأبي الحسين أحمد بن فارس.
وقد كان من العلم والفضيلة والبراعة والكرم والإحسان إلى العلماء والفقراء على جانب عظيم، وكان صاحب دعابة وطرفة في ردوده وتعليقاته.
لما توفي مؤيد الدولة بويه بجرجان في سنة 373، ولي بعده أخوه فخر الدولة أبو الحسن، فأقره على الوزارة، وبالغ في تعظيمه.
قال الذهبي: "بقي في الوزارة ثمانية عشر عاما، وفتح خمسين قلعة، وسلمها إلى فخر الدولة، لم يجتمع عشرة منها لأبيه.
وكان الصاحب عالما بفنون كثيرة من العلم، لم يدانه في ذاك وزير، وكان أفضل وزراء دولة بني بويه الديلمة، وأغزرهم علما، وأوسعهم أدبا، وأوفرهم محاسن".
سمع الحديث من المشايخ الجياد العوالي الإسناد، وعقد له في وقت مجلس للإملاء فاحتفل الناس لحضوره، وحضره وجوه الأمراء، فلما خرج إليهم لبس زي الفقهاء وأشهد على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعاينه من أمور السلطان، وذكر للناس أنه كان يأكل من حين نشأ إلى يومه هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان، وهو تائب مما يمارسونه، واتخذ بناء في داره سماه بيت التوبة، ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته، وحين حدث استملى عليه جماعة لكثرة مجلسه، توفي بالري وله نحو ستين سنة، ونقل إلى أصبهان، وله كتاب المحيط في اللغة.
قال عنه الذهبي: "كان شيعيا جلدا كآل بويه، وما أظنه يسب، لكنه معتزلي، قيل: إنه نال من البخاري، وقال: هو حشوي لا يعول عليه" .
سير المنصور محمد بن أبي عامر عسكرا إلى بلاد الفرنج للغزو، فنالوا منهم وغنموا، وأوغلوا في ديارهم، وأسروا غرسية، وهو ملك للفرنج بن ملك من ملوكهم يقال له شانجة، وكان من أعظم ملوكهم وأمنعهم.
هو الإمام الحافظ المجود, شيخ الإسلام, علم الجهابذة, أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الدارقطني، الحافظ الكبير، المقرئ المحدث, كان عالما حافظا فقيها على مذهب الإمام الشافعي.
أخذ الفقه عن أبي سعيد الاصطخري الفقيه الشافعي.
كانت ولادته في ذي القعدة سنة 306.
والدارقطني بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة ثم قاف مضمومة نسبة إلى دار قطن محلة كبيرة ببغداد.
كان من بحور العلم, ومن أئمة الدنيا, انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله, مع التقدم في القراءات وطرقها, وقوة المشاركة في الفقه والاختلاف والمغازي وأيام الناس, وغير ذلك.
أستاذ الصناعة في علم الحديث والعلل، سمع الكثير، وجمع وصنف وألف وأجاد وأفاد، وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، وكان فريد عصره، ونسيج وحده، وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل، والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف، والاطلاع التام في الدراية، له كتابه المشهور: (السنن) من أحسن المصنفات في بابه، وله كتاب العلل بين فيه الصواب من الدخل، والمتصل من المرسل، والمنقطع والمعضل، وكتاب الأفراد، وله غير ذلك من المصنفات، وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر، والفهم الثاقب، والبحر الزاخر، وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: "لم ير الدارقطني مثل نفسه"، وقد اجتمع له مع معرفة الحديث العلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر، مع الإمامة والعدالة، وصحة اعتقاد.
قال أبو بكر البرقاني: كان الدارقطني يملي علي العلل من حفظه.
قلت- والكلام للذهبي-: إن كان كتاب "العلل" الموجود قد أملاه الدارقطني من حفظه كما دلت عليه هذه الحكاية, فهذا أمر عظيم يقضى به للدارقطني أنه أحفظ أهل الدنيا، وإن كان قد أملى بعضه من حفظه, فهذا ممكن، وقد جمع قبله كتاب " العلل " علي بن المديني حافظ زمانه".
وقد كانت وفاته في يوم الثلاثاء السابع من ذي القعدة، وله من العمر سبع وسبعون سنة ويومان، ودفن من الغد بمقبرة باب الدير قريبا من قبر معروف الكرخي- رحمهما الله.
جمع ألفونسو عساكره، وجموعه، وغزا بلاد جيان من الأندلس، فلقيه المرابطون وقاتلوه، واشتدت الحرب، فكانت الهزيمة أولا على المسلمين، ثم إن الله تعالى رد لهم الكرة على الفرنج، فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج إلا ألفونسو في نفر يسير، وكانت هذه الوقعة من أشهر الوقائع، بعد الزلاقة، وأكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.
لما كان السلطان ببغداد قدم إليه أخوه تاج الدولة تتش من دمشق، وقسيم الدولة أتسز من حلب، وبوزان من الرها، فلما أذن لهم السلطان في العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان أن يسيرا مع عساكرهما في خدمة أخيه تاج الدولة، حتى يستولي على ما للمستنصر الفاطمي حاكم مصر بساحل الشام، من البلاد، ويسير، وهم معه، إلى مصر ليملكها، فساروا أجمعون إلى الشام، ونزل على حمص، وبها ابن ملاعب صاحبها، وكان الضرر به وبأولاده عظيما على المسلمين، فحصروا البلد، وضيقوا على من به، فملكه تاج الدولة، وأخذ ابن ملاعب وولديه، وسار إلى قلعة عرقة فملكها عنوة، وسار إلى قلعة أفامية فملكها أيضا، وكان بها خادم للمستنصر، فنزل بالأمان فأمنه، ثم سار إلى طرابلس فنازلها، فرأى صاحبها جلال الملك ابن عمار جيشا لا يدفع إلا بحيلة، فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة، وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعا، وكان مع قسيم الدولة أتسز وزير له اسمه زرين كمر، فراسله ابن عمار فرأى عنده لينا، فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبه قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار، وتحفا بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد، والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والشد بيده، والتحذير من محاربته، فقال أتسز لتاج الدولة تتش: لا أقاتل من هذه المناشير بيده.
فأغلظ له تاج الدولة، وقال: هل أنت تابع لي؟ فقال أتسز أنا أتابعك إلا في معصية السلطان، ورحل من الغد عن موضعه، فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبانا، وعاد بوزان أيضا إلى بلاده، فانتقض هذا الأمر.
سار الحجاج من بغداد، فقدموا الكوفة، ورحلوا منها، فخرجت عليهم خفاجة، وقد طمعوا بموت السلطان وبعد العسكر، فأوقعوا بهم، وقتلوا أكثر الجند الذين معهم، وانهزم باقيهم، ونهبوا الحجاج، وقصدوا الكوفة فدخلوها، وأغاروا عليها، وقتلوا في أهلها، فرماهم الناس بالنشاب، فخرجوا بعد أن نهبوا، وأخذوا ثياب من لقوه من الرجال والنساء، وصل الخبر إلى بغداد، فسيرت العساكر منها، فلما سمع بنو خفاجة انهزموا، فأدركهم العسكر، فقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم، وضعفت خفاجة بعد هذه الوقعة.
هو الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، وزير السلطان ملكشاه السلجوقي، عاقل، سائس، خبير، سعيد، متدين، محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء.
أنشأ المدرسة النظامية الكبرى ببغداد، ثم أنشأ مدارس أخرى في عدد من البلدان, ورغب في العلم، وأدر على الطلبة الصلات، وأملى الحديث، وبعد صيته.
ولد سنة 408هـ بنوقان، إحدى مدينتي طوس، وكان من أولاد الدهاقين بناحية بيهق، وكان فقيرا مشغولا بسماع الحديث والفقه، وقرأ النحو، ختم القرآن وله إحدى عشرة سنة، وعمل بالكتابة والديوان، وخدم بغزنة، ثم بعد حين اتصل بداود بن ميكائيل السلجوقي فظهر له منه النصح والمحبة،، فأخذه بيده وسلمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال له: يا محمد، هذا حسن الطوسي اتخذه والدا ولا تخالفه.
فلما وصل الملك إلى ألب أرسلان استوزره، فدبر ملكه عشر سنين.
ولما مات ألب أرسلان، ازدحم أولاده على الملك، فقام بأمر ملكشاه حتى تم أمره وملك السلطنة.
كان نظام الملك عالي الهمة، وافر العقل، عارفا بتدبير الأمور، وخفف المظالم، ورفق بالرعايا، وبنى الوقوف، وهاجرت الكبار إلى جنابه، وازدادت رفعته.
قال الذهبي: "كان شافعيا أشعريا.
سار إلى غزنة، فصار كاتبا نجيبا، إليه المنتهى في الحساب، وبرع في الإنشاء، وكان ذكيا، لبيبا، يقظا، كامل السؤدد.
قيل: إنه ما جلس إلا على وضوء، وما توضأ إلا تنفل، ويصوم الاثنين والخميس، جدد عمارة خوارزم، ومشهد طوس، وعمل بيمارستانا، وبنى مدارس بمرو، وهراة، وبلخ، والبصرة، وأصبهان، وكان حليما رزينا جوادا، صاحب فتوة واحتمال ومعروف كثير إلى الغاية، ويبالغ في الخضوع للصالحين".
قال ابن عقيل: "بهر العقول سيرة النظام جودا وكرما وعدلا، وإحياء لمعالم الدين، كانت أيامه دولة أهل العلم، ثم ختم له بالقتل وهو مار إلى الحج، في رمضان، فمات ملكا في الدنيا، ملكا في الآخرة" في عاشر رمضان قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند، وكان هو والسلطان في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلما كان بهذا المكان، بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفته إلى خيمة حرمه، أتاه صبي ديلمي من الباطنية، في صورة مستميح، أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه، فسكن عسكره وأصحابه، وقيل: إن قتله كان بتدبير السلطان، فلم يمهل بعده إلا نحو شهر، وبقي كانت وزارته لبني سلجوق أربعا وثلاثين سنة- وقيل: أربعين سنة- توفي عن ست وسبعين سنة.
هو أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، الملقب بجلال الدولة.
لما توفي أبوه كان ملكشاه ولي الأمر من بعده بوصية والده وتحليف الأمراء والأجناد على طاعته، ووصى وزيره نظام الملك أبا علي الحسن على تفرقة البلاد بين أولاده، ويكون مرجعهم إلى ملكشاه، ففعل ذلك، وعبر بهم نهر جيحون راجعا إلى البلاد, فلما وصل وجد عمه قاروتبك صاحب كرمان قد خرج عليه، فعاجله وتصافا بالقرب من همذان، فهزمه، فتبعه بعض جند ملكشاه فأسروه وحملوه إلى ملكشاه، فبذل التوبة ورضي بالاعتقال وأن لا يقتل، فلم يجبه ملكشاه إلى ذلك، فأمر بقتله فخنق بوتر قوسه، واستقرت القواعد للسلطان وفتح البلاد واتسعت عليه المملكة، وملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام بعد الخلفاء المتقدمين، فكان في مملكته جميع بلاد ما وراء النهر وبلاد الهياطلة وباب الأبواب والروم وديار بكر والجزيرة والشام، وخطب له على جميع منابر الإسلام سوى بلاد المغرب، فإنه ملك من كاشغر وهي مدينة في أقصى بلاد الترك إلى بيت المقدس طولا، ومن القسطنطينية إلى بلاد الخزر وبحر الهند عرضا، وكأن قد قدر لمالكه ملك الدنيا.
وكان من أحسن الملوك سيرة حتى كان يلقب بالسلطان العادل، وكان منصورا في الحروب، ومغرما بالعمائر، حفر كثيرا من الأنهار، وعمر على كثير من البلدان الأسوار، وأنشأ في المفاوز رباطات وقناطر، وهو الذي عمر جامع السلطان ببغداد ابتدأ بعمارته في المحرم من سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وزاد في دار السلطنة بها، وصنع بطريق مكة مصانع، وغرم عليها أموالا كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد.
وكان لهجا بالصيد، حتى قيل: إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف، وكانت السبيل في أيامه ساكنة والمخاوف آمنة، تسير القوافل من ما وراء النهر إلى أقصى الشام وليس معها خفير، ويسافر الواحد والاثنان من غير خوف ولا رهب.
سار السلطان ملكشاه، بعد قتل نظام الملك، إلى بغداد، ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان، ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة ابن جهير، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك، وكان هو الذي سعى بنظام الملك، فلما فرغ من الخلع، ولم يبق غير لبسها والجلوس في الدست، اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضا، وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد، ولم يستوف إخراج الدم، فثقل مرضه، وكانت حمى محرقة، فتوفي ليلة الجمعة، النصف من شوال، ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة، ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية موته وكتمته، وأرسلت إلى الأمراء سرا فأرضتهم، واستحلفتهم لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وبموت السلطان ملكشاه انقضى العصر عصر القوة للسلطة السلجوقية وبدأ عهد الانقسامات السياسية والحروب بين ورثة العرش السلجوقي مما أدى إلى تشتيت صفوفهم وإضعاف سلطتهم.
بعد وفاة ملكشاه أخذت زوجته تركان خاتون الجلالية البيعة لولدها محمود وله أربع سنوات وعدة أشهر, ثم أرسلت إلى أصبهان في القبض على بركيارق ابن السلطان، وهو أكبر أولاده، خافته أن ينازع ولدها في السلطنة، فقبض عليه، فلما ظهر موت ملكشاه وثب المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان، فأخذوه وثاروا في البلد، وأخرجوا بركيارق من الحبس، وخطبوا له بأصبهان وملكوه، وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصبهان، فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق، فالتقى العسكران بالقرب من بروجرد، فانحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكر خاتون إلى بركيارق، فقوي بهم، وجرت الحرب بينهم أواخر ذي الحجة، واشتد القتال، فانهزم عسكر خاتون وعادوا إلى أصبهان، وسار بركيارق في إثرهم فحصرهم بأصبهان.
ثم استقر الأمر له بعد أن فشل عمه تتش في أخذ بغداد وعاد إلى الشام.
كان وصول نبأ سقوط مملكة بيت المقدس إلى أوروبا كنتيجة لمعركة حطين صاعقا لنصارى أوربا.
فإن البابا أوربان الثامن ما إن علم بما حدث حتى توفي من وقع الصدمة.
ودعا خليفته البابا غريغوريوس الثامن بمنشور باباوي إلى حملة صليبية جديدة، وأمرهم بالصيام كل أسبوع في يوم الجمعة على امتداد خمس سنوات، كما أمرهم بالامتناع كليا في هذه الحقبة من الزمن عن أكل اللحم مرتين في الأسبوع، والدعوة إلى المشاركة في حرب صليبية لاسترداد بيت المقدس, وقد قام بهذه الدعوة ببالغ الهمة الكاردينال إنريكو من ألبانو، وبعد شهرين حل البابا كليمنت الثالث مكان غريغوريوس، واستكمل المهمة، وقام الكاردينالات بالتطواف مشيا على الأقدام في عموم فرنسا وإنجلترا وألمانيا.
فجهز نصارى أوروبا ثلاث حملات ألمانية وإنكليزية وفرنسية، كل ذلك لمحاولة استرداد بيت المقدس، وصلت الحملتان الإنكليزية والفرنسية بحرا سنة 586 إلى عكا، وساهمت في الحصار البحري، وكان فيهم ريتشارد المعروف بقلب الأسد، أما الحملة الألمانية فكان ملكهم فريدريك الأول بربروسا، أول من تحرك من ملوك أوربا لنصرة بيت المقدس وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه.
تحركت القوات الألمانية قبل غيرها وهم من أكثر الحملات عددا، وأشدهم بأسا، فكان طريقهم على القسطنطينية، فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا يمكنه من العبور في بلاده، فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنه منع عنهم الميرة، ولم يمكن أحدا من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم، فضاقت بهم الأزواد والأقوات، وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق.
فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج، فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه، وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديدا، والثلج متراكما، فأهلكهم البرد والجوع والتركمان، فقل عددهم، فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فعاد إلى قونية، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له: ما قصدنا بلادك ولا أردناها، وإنما قصدنا بيت المقدس، وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره، فأذن في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشبعوا، وتزودوا، وساروا، وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمدهم بالأقوات والعلوفات، وحكمهم في بلاده، وأظهر الطاعة لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل ملكهم إليه ليغتسل، فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل، وكفى الله شره، وكان معه ولد له، فصار ملكا بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه، فأحب بعضهم العود إلى بلاده، فتخلف عنه، وبعضهم مال إلى تمليك أخ له، فعاد أيضا، وسار فيمن صحت نيته له، فعرضهم، وكانوا نيفا وأربعين ألفا، ووقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور، فتبرم بهم صاحبها، وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون، وخرج أهل حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقا كثيرا، ومات أكثر من أخذ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أياما، فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، ولما وصولوا رأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد.
خرج السلطان صلاح الدين الأيوبي من دمشق في ثالث ربيع الأول, ونازل لشقيف أرنون, وكان منزعجا لقرب انقضاء الهدنة مع بيمند صاحب أنطاكية، ولاجتماع الفرنج بصور، واتصال الأمداد بهم، فكانت للمسلمين مع الفرنج في بلادهم الساحلية عدة وقائع، قتل فيها من الفريقين عدة، وكثر القتل في المسلمين، واشتدت نكاية الفرنج فيهم، فرحل السلطان إلى عكا، وقد سبقه الفرنج ونزلوا عليها.
ونزل السلطان بمرج عكا وصار محاصرا للفرنج، والفرنج محاصرين للبلد.
وتلاحقت به العساكر الإسلامية، والأمداد تصل إلى الفرنج من البحر.
فلم يقدر السلطان على الوصول إلى البلد، ولا استطاع أهل عكا أن يصلوا إلى السلطان.
وشرع السلطان في قتال الفرنج من أول شعبان، إلى أن تمكن من عكا، ودخلها في ثانيه، فما زالت الحرب قائمة إلى رابع رمضان.
فتحول إلى الخروبة، وأغلق من في عكا من المسلمين أبوابها، وحفر الفرنج خندقا على معسكرهم حول عكا من البحر إلى البحر، وأداروا حولهم سورا مستورا بالستائر، ورتبوا عليه الرجال، فامتنع وصول المسلمين إلى عكا.
وقدم العادل بعسكر مصر في نصف شوال، ثم قدم أسطول من مصر إلى عكا في خمسين قطعة، وعليه الحاجب لؤلؤ في منتصف ذي القعدة، فبدد شمل مراكب الفرنج، وظفر المسلمون بطستين- سفينتين كبيرتين- للفرنج.
فاستظهر المسلمون الذين بعكا، وقوي جأشهم بالأسطول، وكانوا نحو العشرة آلاف.
وبعث السلطان إلى الأطراف يحث الناس على الجهاد، وأرسل إلى أخيه سيف الإسلام طغتكين باليمن، يطلب منه الإعانة بالمال، وإلى مظفر الدين قر أرسلان صاحب العجم، وكتب إلى الخليفة.
ووصلت الأمداد إلى الفرنج، وورد الخبر من حلب بخروج ملك الألمان من القسطنطينية في عدة عظيمة تتجاوز الألف ألف، يريدون البلاد الإسلامية، فاشتد الأمر على السلطان ومن معه من المسلمين.
سار صلاح الدين إلى شقيف أرنون، وهو من أمنع الحصون، ليحصره، فنزل بمرج عيون، فنزل صاحب الشقيف، وهو أرناط صاحب صيدا، وكان أرناط هذا من أعظم الناس دهاء ومكرا، فدخل إليه واجتمع به، وأظهر له الطاعة والمودة، وقال إنه سيسلم له الحصن، فظن صلاح الدين صدقه، فأجابه إلى ما سأل، فاستقر الأمر بينهما أن يسلم الشقيف في جمادى الآخرة، وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد، وكان أرناط في مدة الهدنة يشتري الأقوات من سوق العسكر والسلاح وغير ذلك مما يحصن به شقيف، فلما قارب انقضاء الهدنة تقدم صلاح الدين من معسكره إلى القرب من شقيف أرنون، وأحضر عنده أرناط وقد بقي من الأجل ثلاثة أيام، فقال له في معنى تسليم الشقيف، فاعتذر بأولاده وأهله، وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه، وطلب التأخير مدة أخرى، فحينئذ علم السلطان مكره وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمره بتسليم الشقيف، فطلب قسيسا- ذكره- لحمله رسالة إلى من بالشقيف ليسلموه، فأحضروه عنده، فساره بما لم يعلموا، فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف، فأظهر أهله العصيان، فسير صلاح الدين أرناط إلى دمشق وسجنه، وتقدم إلى الشقيف فحصره وضيق عليه، وجعل عليه من يحفظه ويمنع عنه الذخيرة والرجال.
لما كان صلاح الدين بمرج عيون، وعلى الشقيف، جاءته كتب من أصحابه الذين جعلهم يزكا- مقدمة جيشه- في مقابل الفرنج على صور، يخبرونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور الجسر الذي لصور، وعزموا على حصار صيدا، فسار صلاح الدين جريدة في شجعان أصحابه، سوى من جعله على الشقيف، فوصل إليهم وقد فات الأمر، وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصدهم، فلقيهم اليزك على مضيق هناك، وقاتلوهم ومنعوهم، وجرى لهم معهم حرب شديدة وأسروا من الفرنج جماعة، وقتلوا جماعة، وقتل من المسلمين أيضا جماعة، ولما وصل صلاح الدين إلى اليزك وقد فاتته تلك الوقعة أقام عندهم في خيمة صغيرة، ينتظر عودة الفرنج لينتقم منهم، ويأخذ بثأر من قتلوه من المسلمين، ثم حصلت بينهم عدة وقعات.
لما كثر جمع الفرنج بصور؛ بسبب أن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة أو قلعة أعطى أهلها الأمان، وسيرهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم، فاجتمع بها منهم عالم كثير، ثم إن الرهبان والقسوس وخلقا كثيرا من مشهوريهم وفرسانهم لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج بيت المقدس من أيديهم، وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس، ودخل بهم بلاد الفرنج يطوفها بهم جميعا، ويستنجدون أهلها، ويستجيرون بهم، ويحثونهم على الأخذ بثأر بيت المقدس، وصوروا المسيح، عليه السلام، وجعلوه مع صورة عربي يضربه، وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح، عليه السلام، وقالوا لهم: هذا المسيح يضربه محمد نبي المسلمين، وقد جرحه وقتله، فعظم ذلك على الفرنج، فحشروا وحشدوا حتى النساء، ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه، أو يعطيهم مالا على قدر حالهم، فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء، فهذا كان سبب خروجهم، فلما اجتمعوا بصور تموج بعضهم في بعض، ومعهم الأموال العظيمة، والبحر يمدهم بالأقوات والذخائر، والعدد والرجال من بلادهم، فضاقت عليهم صور، باطنها وظاهرها، فأرادوا قصد صيدا، فعادوا واتفقوا على قصد عكا ومحاصرتها ومصابرتها، فساروا إليها وكان رحيلهم ثامن رجب، ونزولهم على عكا في منتصفه، ولما كانوا سائرين كانت يزك- مقدمة الجيش- المسلمين يتخطفونهم، ويأخذون المنفرد منهم، ولما رحلوا جاء الخبر إلى صلاح الدين برحيلهم، فسار حتى قاربهم، وساروا على طريق كفر كنا، فسبقهم الفرنج، وكان صلاح الدين قد جعل في مقابل الفرنج جماعة من الأمراء يسايرونهم ويناوشونهم القتال ويتخطفونهم، ولم يقدم الفرنج عليهم مع قلتهم، ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنج قد نزلوا عليها من البحر إلى البحر من الجانب الآخر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، وسير الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكر، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار وغيرها من بلد الجزيرة، وأتاه تقي الدين ابن أخيه، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين، وهو صاحب حران والرها، وكانت الأمداد تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنج في البحر، وكان بين الفريقين مدة مقامهم على عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليوم المشهور، ومنها ما هو دون ذلك، ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم، ولا إلى عكا، حتى انسلخ رجب، ثم قاتلهم مستهل شعبان، فحمل عليهم تقي الدين وأخلوا نصف البلد، وملك تقي الدين مكانهم، والتصق بالبلد، وصار ما أخلوه بيده، ودخل المسلمون البلد، وخرجوا منه، واتصلت الطرق، وزال الحصر عمن فيه، وأدخل صلاح الدين إليه من أراد من الرجال وما أراد من الذخائر والأموال والسلاح وغير ذلك، ثم إن جماعة من العرب بلغهم أن الفرنج تخرج من الناحية الأخرى إلى الاحتطاب وغيره من أشغالهم، فكمنوا لهم في معاطف النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمع من الفرنج على عادتهم حملت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخرهم، وغنموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوس إلى صلاح الدين، أما الوقعة الكبرى على عكا ففي العشرين من شعبان، كل يوم يغادون القتال مع الفرنج ويروحونه، والفرنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يفارقونه، وكان كثير من عسكر صلاح الدين غائبا عنه، وكان هذا مما أطمع الفرنج في الظهور إلى قتال المسلمين، فخرج الفرنج من معسكرهم كأنهم الجراد المنتشر، يدبون على وجه الأرض، قد ملؤوها طولا وعرضا، وطلبوا ميمنة المسلمين وعليها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنج نحوه قاصدين حذر هو وأصحابه، فتقدموا إليه، فلما قربوا منه تأخر عنهم، فلما رأى صلاح الدين الحال، وهو في القلب، أمد تقي الدين برجال من عنده ليتقوى بهم، وكان عسكر ديار بكر وبعض الشرقيين في جناح القلب، فلما رأى الفرنج قلة الرجال في القلب، وأن كثيرا منهم قد سار نحو الميمنة مددا لهم، عطفوا على القلب، فحملوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكر بين أيديهم منهزمين، وثبت بعضهم، ولم يبق بين أيديهم في القلب من يردهم، فقصدوا التل الذي عليه خيمة صلاح الدين، فقتلوا من مروا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعة، وانحدروا إلى الجانب الآخر من التل، فوضعوا السيف فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج لم يلقوا خيمة صلاح الدين، ولو لقوها لعلم الناس وصولهم إليها، وانهزم العساكر بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون، ثم إن الفرنج نظروا وراءهم، فرأوا أمدادهم قد انقطعت عنهم، فرجعوا خوفا أن ينقطعوا عن أصحابهم، وكان سبب انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلتهم، فاحتاج بعضهم أن يقف مقابلها، وحملت ميسرة المسلمين على الفرنج، فاشتغل المدد بقتال من بها عن الاتصال بأصحابهم، وعادوا إلى طرف خنادقهم، فحملت الميسرة على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجعون، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر، وكان صلاح الدين لما انهزم القلب قد تبعهم يناديهم، ويأمرهم بالكرة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعة صالحة، فحمل بهم على الفرنج من وراء ظهورهم وهم مشغولون بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوف الله من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، بل قتل أكثرهم، وأخذ الباقون أسرى، وأما المنهزمون من المسلمين، فمنهم من رجع من طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، أما رحيل صلاح الدين عن الفرنج وتمكنهم من حصر عكا، فلما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرض من نتن ريحهم، وفسد الهواء والجو، وحدث للأمزجة فساد، وانحرف مزاج صلاح الدين، وحدث له قولنج مبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراء، وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع، ووافقهم الأطباء على ذلك، فأجابهم إليه فرحلوا إلى الخروبة رابع شهر رمضان، وأمر من بعكا من المسلمين بحفظها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمهم بسبب رحيله.
ثم وصلت عساكر مصر والأسطول المصري في البحر في منتصف شوال، ومقدمها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قويت نفوس الناس به وبمن معه، واشتدت ظهورهم، وأحضر معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئا كثيرا، ومعهم من الرجالة الجم الغفير، وجمع صلاح الدين من البلاد الشامية راجلا كثيرا، وهو على عزم الزحف إليهم بالفارس والراجل، ووصل بعده الأسطول المصري، ومقدمه الأمير لؤلؤ، فوصل بغتة، فوقع على سفينة كبيرة للفرنج، فغنمها، وأخذ منها أموالا كثيرة وميرة عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسكنت نفوس من بها بوصول الأسطول وقوي جنانهم.
هو السلطان المنصور أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني مؤسس دولة بني مرين ببلاد المغرب بين فكيك وملوية.
ولد بالمغرب سنة 609 وقد تولى قيادة بني مرين سنة 653 بعد وفاة أخيه أبي بكر بن عبد الحق, وتلقب يعقوب بالمنصور.
وكان شجاعا صواما قواما مجاهدا مقربا لأهل الصلاح والخير والعلم.
خرج على أبي دبوس آخر حكام الموحدين وقتله، واستولى على مملكة المغرب، فقضى على دولة آل عبد المؤمن الموحدين, وملك سبتة سنة 672 واستقرت قدمه في الملك، وكانت له جهود كبيرة في نصرة المسلمين في الأندلس، فاستعاد إشبيلية، وملك بعده ولده يوسف أبو يعقوب, والمنصور هذا يختلف عن المنصور أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن الموحدي المتوفى سنة 595
كانت وقعة بين الأمير بلبان الطباخي أحد مماليك الملك المنصور، ونائبه بحصن الأكراد وبين أهل حصن المرقب، بسبب أخذهم قافلة تجارة قتل فيها عدة من مماليك بلبان، وجرح هو في كتفه، فاستأذن بلبان السلطان في الإغارة على بلد المرقب، لما اعتمده أهله من الفساد عند وصول التتر إلى حلب، فأذن له السلطان في ذلك، فجمع بلبان الطباخي عساكر الحصون، وسار إلى المرقب، ولم يزل عليه حتى أخذه بعد حروب شديدة في يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، واستقر الطباخي نائبا به.
هو القاضي الإمام العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر الشيرازي البيضاوي، قاضيها وعالمها وعالم أذربيجان وتلك النواحي، ولد في البيضا من فارس، تولى قضاء شيراز ثم رحل إلى تبريز، اشتهر بعلمه فقد كان بارعا في الأصول والفقه والكلام والنحو، ومن مصنفاته: منهاج الوصول إلى علم الأصول، وهو مشهور، وقد شرحه غير واحد، وشرح التنبيه في أربع مجلدات، والغاية القصوى في دراية الفتوى، وشرح المنتخب، والكافية في المنطق، وطوالع الأنوار وشرح المحصول أيضا، والتفسير المشهور بتفسير البيضاوي، واسمه أنوار التنزيل وأسرار التأويل، وله غير ذلك من التصانيف، مات بتبريز سنة 685، وقد أوصى إلى القطب الشيرازي أن يدفن بجانبه بتبريز.
سار الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة بعسكر كثيف إلى الكرك، فتلقاه عسكر دمشق صحبة الأمير بدر الدين الصوابي، فتوجه معه إليها، وضايقها وقطع الميرة عنها حتى بعث الملك المسعود بن الظاهر بيبرس أخاه خضر يطلب الأمان، فبعث إليه السلطان قلاوون الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار من قلعة الجبل بالأمان، فنزل الملك المسعود وأخوه بدر الدين سلامش إلى الأمير طرنطاي في خامس صفر، واستقر الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب الشوبك في نيابة الكرك، ووردت البشارة بأخذ الكرك إلى قلعة الجبل في ثامن صفر، وقدم الأمير طرنطاي بأولاد الظاهر إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأول، وأكرم السلطان الملك المسعود وسلامش، وأمر كلا منهما إمرة مائة فارس، وصارا يركبان في الموكب والميادين، ورتبا يركبان مع الملك الصالح علي، وفي سابع رجب توجه السلطان إلى الكرك، فوصلها وعرض حواصلها ورجالها وشحن بها ألفي غرارة قمح، وقرر بها بحرية ورتب أمورها، ونظف البركة، وجعل في نيابة الكرك الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، ونقل عز الدين أيبك إلى نيابة غزة، ثم نقله إلى نيابة صفد.
في شهر جمادى الأولى اتفق بناحية برما من الغربية أن طائفة من مسلمة النصارى، صنعوا عرسا جمعوا فيه عدة من أرباب الملاهي، فلما صعد المؤذن ليسبح الله تعالى في الليل على العادة، سبوه وأهانوه، ثم صعدوا إليه وأنزلوه، بعدما ضربوه، فثار خطيب الجامع بهم؛ ليخلصه منهم، فأوسعوه سبا ولعنا وهموا بقتله وقتل من معه، فقدم إلى القاهرة في طائفة، وشكوا أمرهم إلى الأمير سودن النائب، فبعث بهم إلى الأمير جركس الخليلي؛ من أجل أن ناحية برما من جملة إقطاعه، فلم يقبل أقوالهم، وسجن عدة منهم، فمضى من بقي منهم إلى أعيان الناس، كالبلقيني وأمثاله، وتوجه الحافظ المعتمد ناصر الدين محمد فيق إلى الخليلي، وأغلظ عليه حتى أفرج عمن سجنه، فغضب كثير من أهل برما واستغاثوا بالسلطان، فأنكر على الخليلي ما وقع منه، وبعث الأمير أبدكار الحاجب للكشف عما جرى في برما، فتبين له قبح سيرة المسألة فحملهم معه إلى السلطان، فأمر بهم وبغرمائهم أن يتحاكموا إلى قاضي القضاة المالكية، فادعى عليهم بقوادح، وأقيمت البينات بها فسجنهم، واتفق أن الخليلي وقعت في شونة قصب له نار أحرقتها كلها، وفيها جملة من المال، وحدث به ورم في رجله، اشتد ألمه فلم يزل به حتى مات؛ وذلك عقوبة له لمساعدة أهل الزندقة!
في أول شهر رجب من هذه السنة طلع الأمير صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز نائب الشام إلى السلطان ونقل له عن الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد أنه اتفق مع الأمير قرط بن عمر التركماني المعزول عن الكشوفية ومع إبراهيم بن قطلوقتمر العلائي أمير جاندار ومع جماعة من الأكراد والتركمان، وهم نحو من ثمانمائة فارس، أنهم يثبون على السلطان إذا نزل من القلعة إلى الميدان في يوم السبت للعب بالكرة يقتلونه ويمكنون الخليفة من الأمر والاستبداد بالملك، فحلف السلطان ابن تنكز على صحة ما نقل، فحلف له، وطلب أن يحاققهم على ذلك، فبعث السلطان إلى الخليفة وإلى قرط وإلى إبراهيم بن قطلقتمر، فأحضرهم وطلب سودون النائب وحدثه بما سمع، فأخذ سودون ينكر ذلك ويستبعد وقوعه منهم، فأمر السلطان بالثلاثة فحضروا بين يديه وذكر لهم ما نقل عنهم فأنكروا إلا قرط، فإنه خاف من تهديد السلطان، فقال: الخليفة طلبني وقال: هؤلاء ظلمة وقد استولوا على هذا الملك بغير رضائي، وإني لم أقلد برقوقا السلطنة إلا غصبا، وقد أخذ أموال الناس بالباطل، وطلب مني أن أقوم معه وأنصر الحق، فأجبته إلى ذلك ووعدته بالمساعدة، وأن أجمع له ثمانمائة واحد من الأكراد والتركمان وأقوم بأمره، فقال السلطان للخليفة: ما قولك في هذا؟ فقال: ليس لما قاله صحة، فسأل إبراهيم بن قطلقتمر عن ذلك، فقال: ما كنت حاضرا هذا الاتفاق، لكن الخليفة طلبني إلى بيته بجزيرة الفيل وأعلمني بهذا الكلام وقال لي: إن هذا مصلحة، ورغبني في موافقته والقيام لله تعالى ونصرة الحق، فأنكر الخليفة ما قاله إبراهيم أيضا، وصار إبراهيم يذكر له أمارات والخليفة يحلف أن هذا الكلام ليس له صحة، فاشتد حنق الملك الظاهر وسل السيف ليضرب عنق الخليفة، فقام سودون النائب وحال بينه وبين الخليفة، وما زال به حتى سكن بعض غضبه، فأمر الملك الظاهر بقرط وإبراهيم يسفرا، واستدعى القضاة ليفتوه بقتل الخليفة، فلم يفتوه بقتله، وقاموا عنه، فأخذ برقوق الخليفة وسجنه بموضع في قلعة الجبل وهو مقيد، وسمر قرط وإبراهيم وشهرا في القاهرة ومصر، ثم أوقفا تحت القلعة بعد العصر، فنزل الأمير أيدكار الحاجب وسار بهما ليوسطا خارج باب المحروق من القاهرة، فابتدأ بقرط فوسط، وقبل أن يوسط إبراهيم جاءت عدة من المماليك بأن الأمراء شفعوا في إبراهيم، ففكت مساميره وسجن بخزانة شمائل، وطلب السلطان زكريا وعمر ابني إبراهيم عم المتوكل، فوقع اختياره على عمر بن الخليفة المستعصم بالله أبي إسحاق إبراهيم بن المستمسك بالله أبي عبد الله محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي إسحاق ابن علي القبي، فولاه الخلافة، وخلع عليه، فتلقب بالواثق بالله، ثم في يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة أفرج السلطان عن الخليفة المتوكل على الله، ونقل من سجنه بالبرج إلى دار بالقلعة وأحضر إليه عياله.
سار الأمير يلبغا الناصري نائب حلب من حلب بالعسكر للقاء الفرنج، وقد وردت شوانيهم في البحر لقصد إياس، ونزوله بالعمق لقربه من البحر، فورد عليه كتاب نائب اللاذقية بوصول الفرنج إلى بيروت، وأنهم نزلوا إلى البر، وملكوا بعض أبراجها، فأدركهم العسكر الشامي في طائفة من رجالة الأكراد، وقاتلوهم، فأيد الله المسلمين، حتى قتلوا من الفرنج نحو خمسمائة رجل، وانهزم باقيهم إلى مراكبهم، وساروا وعادت العساكر إلى الشام.
كتب بتجريد عسكر دمشق وطرابلس وحماة وحلب، ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية؛ لمقاتلتهم على تعديهم طريقهم، وقطعهم الطرقات، ونهبهم حجاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهبت العساكر لذلك ووافت حلب، فتقدمها الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حلب في ثاني ذي القعدة يريد العمق، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم ويحذرهم التخلف عن الحضور إلى الطاعة، ويخوفهم بأس العساكر، وإنهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنين على أنفسهم وأموالهم، ومن تخلف كان غنيمة للعساكر، وسار حتى نزل تحت عقبة بغراس، فعرض العساكر، وترك الثقل وتوجه مخفا، وجاوز عقبة بغراس، وترك بها نائبي عينتاب وبغراس بخيالتهما ورجالهما؛ حفظا للدربند إلى أن تصل العساكر الشامية، ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد الخامس عشر وسار مجدا، فوصل المصيصة عصر نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسر بعد أن هدم التركمان بعضه، وقطعوا منه جانبا لا يمنع الاجتياز، وتوقدت بينهم نار الحرب، وعدت العساكر نهر جاهان إلى جانب بلاد سيس، واقتفوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان، فأدركوا بعض البيوت فانتهبوها، فتعلق الرجال بشعف الجبال، ثم حضرت قصاد التركمان على اختلاف طوائفهم يسألون الأمان، فأجاب الأمير يلبغا الناصري سؤالهم، وكتب لهم أمانا، ولما أحس الصارم بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفر إلى الجبال التي لا تسلك، ووصلت الأطلاب والثقل إلى المصيصة في السابع عشر، فقدم من الغد الثامن عشر قاصد الأمير طشبغا العزي نائب سيس بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثره ومعه طائفة من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوته فانتهبوها، وأمسكوا أولاده وحريمه ونجا بنفسه، ولحق بالتركمان البياضية مستجيرا بهم، فأجمعت الآراء على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكه، فقدم الخبر من نائب سيس في آخر النهار بأنه استمر في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسكه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسرت العساكر بذلك سرورا زائدا، ورحلت في التاسع عشر تريد سيس، وأحاطت بطائفة من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرا من خيل ومتاع وأثاث، ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفرقت جموع التركمان بالجبال، ومرت العساكر إلى جهة سيس، وأحضر ابن رمضان وأخوه قرا محمد ومن أمسك معهما، فوسطوا، وعاد العسكر يريد المصيصة، وركب الأمير يلبغا الناصري بعسكر حلب وسلبهم جبلا يسمى صاروجا شام، وهو مكان ضيق حرج وعر به جبال شوامخ وأودية عظام، مغلقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكاد الراجل يسلكه، فكيف بالفارس وفرسه الموفرين حملا باللبوس؟! وإذا هم بطائفة من التركمان اليراكية، فجرى بينهم القتال الشديد، فقتل بين الفريقين جماعة، وفقد الأمير يلبغا الناصري وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية، ثم تراجع الناس وقد فقد منهم طائفة، ووصل الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجؤوا إلى مدينة إياس، ثم قدم يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومه، وأقاموا عليها أياما ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير، فكانت بينهم وقعة لم يمر لهم مثلها، قتل فيها خلق كثير، وانجلت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصري بلاء عظيما، وارتحل العسكر يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضربت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقة منهم إلى باب الملك، فوقفوا على دربندة ومنعوا عنهم الميرة، فعزت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيول، وكثر الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلا أن الله تداركهم بخفي لطفه؛ فقدم عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري حاجب الحجاب بحلب في عدة من الأمراء، وقد استخدم من أهل حلب ألف راجل من شبان بانقوسا، ودفعوا لكل واحد منهم مائة درهم، وخرج العلماء والصلحاء وغالب الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر، ونودي بالنفير العام، فتبعهم كثير من الرجالة والخيالة والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب، فقام بمؤنتهم الحاجب ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فملكوه وقتلوا طائفة ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيتهم، ففرح العسكر بذلك فرحا كبيرا، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب، فكانت سفرة شديدة المشقة؛ بلوا فيها من كثرة تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالي هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع- ما لا يمكن وصفه.
لم تدم أيام الأحنف محمد العاشر الملك بغرناطة كثيرا؛ فقد ثار عليه الأمير سعد بن علي بن أبي الحجاج يوسف الثاني، فانتزع منه الملك وتلقب بالمستعين وعرف بابن الأحمر، لكنه لم يلبث كثيرا حتى عاد محمد العاشر الأحنف بعد أن لجأ إلى ملك قشتالة فزوده بقوة استرد بها الملك بالقوة وخلع المستعين.