Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73


هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي الدمشقي، ولد في 23 رمضان 26 هـ في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه في قرية الماطرون، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية، طلقها معاوية فيما بعد.

عاش فترة من حياته في البادية بين أخواله، تولى الخلافة بعد وفاة والده في سنة 60 للهجرة، ولم يبق من معارضي توليته الخلافة غير الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير.

حدث في عهده ثلاثة حوادث في سنة 61هـ، وقعة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنه بعد تحريض شيعة العراق له بالخروج إليهم ثم تخليهم عنه.

والثاني سنة 63 هـ معارضة عبد الله بن الزبير في الحجاز، وما ترتب عليها من استباحة الحرم واحتراق الكعبة.

والثالث معارضة أهل المدينة سنة 63 هـ على يزيد وخلع بيعته مما أدى إلى حصار المدينة ثم استباحتها في وقعة الحرة.

توفي يزيد بن معاوية أثناء حصار الجيش لمكة، وكان هو في الشام وقد كان عهد لابنه معاوية بن يزيد بالخلافة من بعده, وبعد وفاة يزيد بن معاوية تباينت الآراء حول شخصيته.

والناس فيه طرفان ووسط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه كان ملكا من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا؛ ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبا ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة.

ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين.


لما رفض ابن الزبير البيعة ليزيد بن معاوية وكان بمكة المكرمة سير إليه يزيد بن معاوية جيشا بقيادة مسلم؛ ولكن مسلما توفي في الطريق إلى مكة فاستلم بعده الحصين بن نمير فحاصر مكة المكرمة، وكان ابن الزبير اتخذ المسجد حصنا له ووضع فيه الخيام لتحميه وجنده من ضربات المنجنيق، واستمر الحصار إلى أن احترقت الكعبة قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يوما، واختلف في من كان سببا في احتراق الكعبة.

كان أصحاب ابن الزبير يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بها الريح فاحترقت كسوة الكعبة، واحترق خشب البيت.

قال أحد أصحاب ابن الزبير يقال له عون: ما كان احتراق الكعبة إلا منا, وذلك أن رجلا منا كان هو وأصحابه يوقدون في خصاص لهم حول البيت, فأخذ نارا في رمحه فيه نفط, وكان يوم ريح, فطارت منها شرارة, فاحترقت الكعبة حتى صارت إلى الخشب, وقيل: إن رجلا من أهل الشام لما جن الليل وضع شمعة في طرف رمحه, ثم ضرب فرسه ثم طعن الفسطاط فالتهب نارا, والكعبة يومئذ مؤزرة بالطنافس, وعلى أعلاها الحبرة, فطارت الريح باللهب على الكعبة فاحترقت.

فلم يكن حرق الكعبة مقصودا من أحد الطرفين؛ بل إن احتراقها جاء نتيجة لحريق الخيام المحيطة بها مع اشتداد الريح, فهذا رجل من أهل الشام لما احترقت الكعبة نادى على ضفة زمزم بقوله: هلك الفريقان والذي نفس محمد بيده.


بعد أن توفي يزيد وكان قد عهد بالخلافة لابنه معاوية، وكان شابا مريضا، وكان ناسكا صالحا متعبدا لم تدم خلافته بالناس سوى اليسير، ولم يرد الخلافة وقد علم أنه ليس لها بأهل، واعتزل الناس وقال: إنه لم يجد للناس من يخلفه كما خلف أبو بكر للناس عمر بن الخطاب، ولا وجد في الناس ستة من أهل الشورى يكون الأمر بينهم كما وجد عمر بن الخطاب للناس أهل الشورى، فترك الأمر للناس يختارون من شاءوا، واعتزلهم حتى توفي.


لما مات يزيد بن معاوية أقلع جيشه عن مكة، وهم الذين كانوا يحاصرون ابن الزبير وهو عائذ بالبيت، فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام بعد أن عرض الحصين على ابن الزبير أن يبايعه بالخلافة شرط أن يأتي معهم للشام؛ لكن ابن الزبير رفض الذهاب إلى الشام, كان يزيد قد أوصى بالخلافة لابنه معاوية؛ لكنه لم يكن راغبا فيها فتركها وجعلها شورى للمسلمين.

استفحل أمر ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس في العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضا إلا بعض جهات منها، ففي دمشق بايع الضحاك بن قيس الفهرى لابن الزبير، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، ولم يكن رافضا بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي.

وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الأزرق، وعبد الله بن إباض، وجماعة من رؤوسهم, فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان -وكانوا ينتقصون عثمان- فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها.

صرح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم, فيروي ابن عبد البر، عن مالك أنه قال: إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك.

ويقول ابن كثير عن ابن الزبير: ثم كان هو الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد من مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق، وانتظم له الأمر، والله أعلم.


لما احترقت الكعبة حين غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير أيام يزيد تركها ابن الزبير يشنع بذلك على أهل الشام، فلما مات يزيد واستقر الأمر لابن الزبير شرع في بنائها، فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض، وكانت قد مالت حيطانها من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عنده، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، وضرب عليها السور وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (لولا حدثان عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم، وأزيد فيها الحجر).

فحفر ابن الزبير فوجد أساسا أمثال الجمال، فحركوا منها صخرة فبرقت بارقة، فقال: أقروها على أساسها وبنائها، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.


لما بويع لابن الزبير بالخلافة، وقدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير، وقال له ولبني أمية: نراكم في اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شامكم، فتكون فتنة عمياء صماء.

وكان من رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة، فقدم ابن زياد من العراق وبلغه ما يريد مروان أن يفعل، فقال له: قد استحييت لك من ذلك، أنت كبير قريش وسيدها تمضي إلى أبي خبيب فتبايعه -يعني ابن الزبير- فقال: ما فات شيء بعد.

فقام معه بنو أمية ومواليهم وتجمع إليه أهل اليمن فسار إلى دمشق وهو يقول: ما فات شيء بعد، فقدم دمشق وجهز جيوشا ليثبتوا له البيعة فثبت حكمه بالشام, ثم أرسل جيشا آخر للعراق ليأخذ له البيعة.

ولكن لم تدم مدة حكمه طويلا، فقد توفي بعد تسعة أشهر.


لما بايع الناس مروان سار من الجابية إلى مرج راهط وبها الضحاك بن قيس ومعه ألف فارس، وكان قد استمد الضحاك النعمان بن بشير وهو على حمص فأمده حبيب بن ذي الكلاع، واستمد أيضا زفر بن الحارث وهو على قنسرين فأمده بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعوا عنده، واجتمع على مروان كلب وغسان, والسكاسك والسكون، وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة، واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الضحاك، قتله دحية بن عبد الله، وقتل معه ثمانون رجلا من أشراف أهل الشام، وقتل أهل الشام مقتلة عظيمة، وقتلت قيس مقتلة لم يقتل مثلها في موطن قط، وكان فيمن قتل هانىء بن قبيصة النميري سيد قومه، كان مع الضحاك، قتله وازع بن ذؤالة الكلبي، ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم، فانتهى أهل حمص إليها وعليها النعمان بن بشير، فلما بلغه الخبر خرج هربا ليلا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية وثقله وأولاده، فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وكان الذي طلبه عمرو بن الجلي الكلاعي، فقتله ورد أهله والرأس معه، وجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها معها، ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا وعليها عياض الحرشي، وكان يزيد ولاه إياها، وهرب ناتل بن قيس الجذامي عن فلسطين فلحق بابن الزبير بمكة، واستعمل مروان بعده على فلسطين روم بن زنباع، واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها.


لما استقر الشام لمروان بن الحكم سار إلى مصر, فقدمها وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه حتى دخل مصر، فقيل لابن جحدم ذلك، فرجع وبايع الناس مروان ورجع إلى دمشق.


غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الصائفة من درب الحدث، بلاد الروم، فأتاه ميخائيل البطريق، وطاردا طازاذ الأرمني البطريق في تسعين ألفا، فخافه عبد الكبير، ومنع الناس من القتال، ورجع بهم، فأراد المهدي قتله، فشفع فيه فحبسه.


سار عبد الرحمن الداخل إلى سرقسطة، بعد أن كان قد سير إليها ثعلبة بن عبيد في عسكر كثيف، وكان سليمان بن يقظان، والحسين بن يحيى قد اجتمعا على خلع طاعة عبد الرحمن، وهما بها، فقاتلهما ثعلبة قتالا شديدا، وفي بعض الأيام عاد إلى مخيمه، فاغتنم سليمان غرته، فخرج إليه، وقبض عليه وأخذه، وتفرق عسكره، واستدعى سليمان بن يقظان قارله ملك الإفرنج، ووعده بتسليم البلد وثعلبة إليه، فلما وصل إليه لم يصبح بيده غير ثعلبة، فأخذه وعاد إلى بلاده، وهو يظن أنه يأخذ به عظيم الفداء، فأهمله عبد الرحمن مدة، فلما كان هذه السنة سار عبد الرحمن إلى سرقسطة، وفرق أولاده في الجهات ليدفعوا كل مخالف، ثم يجتمعوا بسرقسطة، فسبقهم عبد الرحمن إليها، وكان الحسين بن يحيى قد قتل سليمان بن يقظان، وانفرد بسرقسطة، فوافاه عبد الرحمن على أثر ذلك، فضيق على أهلها تضييقا شديدا.

وأتاه أولاده من النواحي، ومعهم كل من كان خالفهم، وأخبروه عن طاعة غيرهم، فرغب الحسين بن يحيى في الصلح، وأذعن للطاعة، فأجابه عبد الرحمن، وصالحه، وأخذ ابنه سعيدا رهينة، ورجع عنه


غزا عبدالرحمن الداخل بلاد الفرنج، فدوخها، وبلغ قلهرة، وفتح مدينة فكيرة، وهدم قلاع تلك الناحية، وسار إلى بلاد البشكنس، ونزل على حصن مثمين الأقرع، فافتتحه، ثم تقدم إلى ملدوثون بن أطلال، وحصر قلعته، وقصد الناس جبلها، وقاتلهم فيها، فملكها عنوة وخربها ثم رجع إلى قرطبة.


ثارت فتنة بين بربر بلنسية وبربر شنت برية من الأندلس، وجرت بينهم حروب كثيرة قتل فيها خلق كثير من الطائفتين، وكانت وقائعهم مشهورة.


ظهر ببلاد الصين إنسان لا يعرف، فجمع جمعا كثيرا من أهل الفساد والعامة، فأهمل الملك أمره؛ استصغارا لشأنه، فقوي وظهر حاله وكثف جمعه؛ وقصده أهل الشر من كل ناحية، فأغار على البلاد وأخربها ونزل على مدينة خانقوا وحصرها، وهي حصينة، ولها نهر عظيم، وبها عالم كثير من المسلمين، والنصارى، واليهود، والمجوس، وغيرهم من أهل الصين، فلما حصر البلد اجتمعت عساكر الملك وقصدته، فهزمها وافتتح المدينة عنوة، وبذل السيف، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة، ثم سار إلى المدينة التي فيها الملك، وأراد حصارها فالتقاه ملك الصين، ودامت الحرب بينهم نحو سنة، ثم انهزم الملك، وتبعه الخارجي إلى أن تحصن منه في مدينة من أطراف بلاده، واستولى الخارجي على أكثر البلاد والخزائن، وعلم أنه لا بقاء له في الملك؛ إذ ليس هو من أهله، فأخرب البلاد، ونهب الأموال، وسفك الدماء، فكاتب ملك الصين ملوك الهند يستمدهم، فأمدوه بالعساكر، فسار إلى الخارجي، فالتقوا واقتتلوا نحو سنة أيضا، وصبر الفريقان، ثم إن الخارجي عدم، فقيل: إنه قتل، وقيل: بل غرق، وظفر الملك بأصحابه وعاد إلى مملكته، ولقب ملوك الصين يعفور، ومعناه ابن السماء؛ تعظيما لشأنه؛ وتفرق الملك عليه، وتغلبت كل طائفة على طرف من البلاد، وصار الصين على ما كان عليه ملوك الطوائف يظهرون له الطاعة، وقنع منهم بذلك، وبقي على ذلك مدة طويلة.


توفي أماجور والي دمشق، فتولى ابنه مكانه، فتجهز ابن طولون ليسير إلى الشام فيملكه، فكتب إلى ابن أماجور له أن الخليفة قد أقطعه الشام والثغور، فأجابه بالسمع والطاعة، وسار أحمد، واستخلف بمصر ابنه العباس، فلقيه ابن أماجور بالرملة، فأقره عليها وسار إلى دمشق فملكها وأقر أماجور على أقطاعهم، وسار إلى حمص فملكها وكذلك حماة، وحلب.

وراسل سيما الطويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعته ليقره على ولايته، فامتنع، فعاوده فلم يطعه، فسار إليه أحمد بن طولون، فحصره بأنطاكية، وكان سيئ السيرة مع أهل البلد، فكاتبوا أحمد بن طولون، ودلوه على عورة البلد، فنصب عليه المجانيق وقاتله، فملك البلد عنوة، والحصن الذي له، وركب سيما وقاتل قتالا شديدا حتى قتل ولم يعلم به أحد، فاجتاز به بعض قواده، فرآه قتيلا فحمل رأسه إلى أحمد، فساءه قتله.

ورحل عن أنطاكية إلى طرسوس، فدخلها وعزم على المقام بها وملازمة الغزاة، فغلا السعر بها وضاقت عنه وعن عساكره، فركب أهلها إليه بالمخيم وقالوا له: قد ضيقت بلدنا وأغليت أسعارنا؛ فإما أقمت في عدد يسير، وإما ارتحلت عنا، وأغلظوا له القول، وشغبوا عليه، فقال أحمد لأصحابه: لتنهزموا من الطرسوسيين، وترحلوا عن البلد، ليظهر للناس وخاصة العدو أن ابن طولون على بعد صيته وكثرة عساكره لم يقدر على أهل طرسوس؛ وانهزم عنهم ليكون أهيبهم في قلب العدو، وعاد إلى الشام.

فأتاه خبر ولده العباس- وهو الذي استخلفه بمصر- أنه قد عصي عليه، وأخذ الأموال وسار إلى برقة مشاقا لأبيه، فلم يكترث لذلك، ولم ينزعج له، وثبت وقضى أشغاله، وحفظ أطراف بلاده، وترك بحران عسكرا وبالرقة عسكرا مع غلامه لؤلؤ، وكان حران لمحمد بن أتامش، وكان شجاعا فأخرجه عنها وهزمه هزيمة قبيحة، فلما بلغ خبره أخاه موسى بن أتامش، وكان شجاعا بطلا فجمع عسكرا كثيرا وسار نحو حران، وبها عسكر ابن طولون، ومقدمهم أحمد ابن جيعويه، فلما وصله خبر مسير موسى أقلقه ذلك وأزعجه، ففطن له رجل من الأعراب، يقال له أبو الأغر، فقال له: أيها الأمير، أراك مفكرا منذ أتاك خبر ابن أتامش، وما هذا محله؛ فإنه طياش قلق، ولو شاء الأمير أن آتيه به أسيرا لفعلت، فغاظه قوله، وقال: قد شئت أن تأتي به أسيرا؛ قال: فاضمم إلي عشرين رجلا أختارهم، قال: افعل، فاختار عشرين رجلا وسار بهم إلى عسكر موسى، فلما قاربهم كمن بعضهم، وجعل بينه وبينهم علامة إذا سمعوها ظهروا.

ثم دخل العسكر في الباقين في زي الأعراب، وقارب مضارب موسى، وقصد خيلا مربوطة فأطلقها وصاح هو وأصحابه فيها فنفرت، وصاح هو ومن معه من الأعراب، وأصحاب موسى غارون، وقد تفرق بعضهم في حوائجهم، وانزعج العسكر، وركبوا وركب موسى، فانهزم أبو الأغر من بين يديه، فتبعه حتى أخرجه من العسكر، وجاز به الكمين، فنادى أبو الأغر بالعلامة التي بينهم، فثاروا من النواحي، وعطف أبو الأغر على موسى فأسروه، فأخذوه وساروا حتى وصلوا إلى ابن جيعويه، فعجب الناس من ذلك، فسيره ابن جيعويه إلى ابن طولون، فاعتقله وعاد إلى مصر.


في هذه السنة ملك المسلمون سرقوسة- وهي من أعظم مدن صقلية- وكان سبب ملكها أن جعفر بن محمد أمير صقلية غزاها فأفسد زرعها وزرع قطانية، وطبرمين، ورمطة، وغيرها من بلاد صقلية التي بيد الروم، ونازل سرقوسة، وحصرها برا وبحرا وملك بعض أرباضها، ووصلت مراكب الروم نجدة لها، فسير إليها أسطولا فأصابوها وتمكنوا حينئذ من حصرها فأقام العسكر محاصرا لها تسعة أشهر، وفتحت، وقتل من أهلها عدة ألوف، وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصب بمدينة أخرى، ولم ينج من رجالها إلا الشاذ الفذ، وأقاموا فيها بعد فتحها بشهرين، ثم هدموها ثم وصل بعد هدمها من القسطنطينية أسطول، فالتقوا بالمسلمين، فظفر بهم المسلمون، وأخذوا منهم أربع قطع، فقتلوا من فيها، ثم انصرف المسلمون إلى بلدهم آخر ذي القعدة.


هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني المصري، ولد بالفسطاط في مصر في سنة 175ه.

صاحب الشافعي، تفقه عليه بمصر، ويعد من أئمة الحديث والفقه، كان من المقدمين من أصحاب الشافعي وأعرفهم بمذهبه، حتى قال الشافعي: "المزني ناصر مذهبي"، ألف كتبا تعتبر مدار المذهب الشافعي، منها الجامع الصغير، ومختصر المختصر، والمنثور، والمسائل المعتبرة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق، وغير ذلك، وكان إذا فرغ من مسألة وأودعها مختصره قام إلى المحراب وصلى ركعتين شكرا لله تعالى, وقد امتلأت البلاد بـ (مختصره) في الفقه، وشرحه عدة من الكبار، وبلغ من انتشاره أن البكر كان يكون في جهازها نسخة من مختصر المزني، كانت له عبادة وفضل، وهو ثقة في الحديث، لا يختلف فيه, حاذق من أهل الفقه، كان زاهدا مجتهدا، له مناظرات، وكان قوي الحجة، توفي بمصر.


هو أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، أحد الحفاظ المشهورين.

كان مولده في الري بإيران سنة مائتين، وقيل سنة تسعين ومائة, من كبار الحفاظ وسادات أهل التقوى.

قيل: إنه كان يحفظ ستمائة ألف حديث، وكان فقيها ورعا زاهدا عابدا متواضعا خاشعا، أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه، قال أحمد بن حنبل: "ما عبر جسر بغداد أحفظ من أبي زرعة", قال أبو حاتم: "لم يخلف بعده مثله، فقها وعلما وصيانة وصدقا.

وهذا مما لا يرتاب فيه, ولا أعلم في المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله", وقال إسحاق بن راهويه: "كل حديث لا يحفظه أبو زرعة، فليس له أصل".


نزل أفتكين التركي غلام معز الدولة- الذي كان قد خرج عن طاعته بسبب الفتنة التي جرت بين الترك والديلم وما بعدها، والتف عليه عساكر وجيوش من الديلم والترك والأعراب- نزل في هذه السنة على دمشق، وكان عليها من جهة الفاطميين الطواشي ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي، فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء أهلها وشيوخها، فذكروا له ما هم فيه من الظلم والغشم ومخالفة الاعتقاد بسبب الفاطميين، وسألوه أن يأخذها ليستنقذها منهم، فعند ذلك صمم على أخذها ولم يزل حتى أخذها وأخرج منها ريان الخادم، وكسر أهل الشر بها، ورفع أهل الخير، ووضع في أهلها العدل وقمع أهل اللعب واللهو، وكف أيدي الأعراب الذين كانوا قد عاثوا في الأرض فسادا، وأخذوا عامة المرج والغوطة، ونهبوا أهلها، ولما استقامت الأمور على يديه وصلح أمر أهل الشام، كتب إليه المعز الفاطمي يشكر سعيه ويطلبه إليه ليخلع عليه ويجعله نائبا من جهته، فلم يجبه إلى ذلك، بل قطع خطبته من الشام، وخطب للطائع العباسي، ثم قصد صيدا وبها خلق من المغاربة عليهم ابن الشيخ، وفيهم ظالم بن موهب العقيلي الذي كان نائبا على دمشق للمعز الفاطمي، فأساء بهم السيرة، فحاصرهم ولم يزل حتى أخذ البلد منهم، ثم قصد طبرية ففعل بأهلها مثل ذلك.


اجتمعت صنهاجة ومن والاها بالمغرب على طاعة يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري قبل أن يقدمه المنصور، وكان أبوه مناد الصنهاجي كبيرا في قومه، كثير المال والولد، حسن الضيافة لمن يمر به، وتقدم ابنه زيري في أيامه، وقاد كثيرا من صنهاجة، وأغار بهم وسبى، فحسدته زناتة وجمعت له لتسير إليه وتحاربه.

فسار إليهم مجدا فكبسهم ليلا- وهم غارون - بأرض مغيلة، فقتل منهم كثيرا، وغنم ما معهم فكثر أتباعه، فضاقت بهم أرضهم، فقالوا له: لو اتخذت لنا بلدا غير هذا.

فسار بهم إلى موضع مدينة أشير، فرأى ما فيه من العيون، فاستحسنه وبنى فيه مدينة أشير وسكنها هو وأصحابه.

وكانت زناتة تفسد في البلاد، فإذا طلبوا احتموا بالجبال والبراري.

فلما بنيت أشير صارت صنهاجة بين البلاد وبين زناتة والبربر، فسر بذلك القائم.


خرج في جبل غمارة بإفريقية رجل يعرف بالعباس ادعى النبوة واتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأعمارهم، وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة, فلما سمع يوسف بلكين بن زيري الصنهاجي به وباتباع أهل غمارة له، سار إليهم وغزاهم وظفر بهم، وأخذ العباس- الذي كان يدعي النبوة- أسيرا، وأحضر الفقهاء فقتله لأربعين يوما من ظهور دعوته.


أبو القاسم الفضل ابن المقتدر جعفر بن المعتضد أحمد بن الموفق الخليفة العباسي.

ولد سنة 301 وبويع بالخلافة بعد خلع المستكفي نفسه سنة 334، وأمه اسمها مشغلة أم ولد.

كان مقهورا مع نائب العراق ابن بويه معز الدولة الذي قرر له في اليوم مائة دينار فقط.

ولما اشتد الغلاء المفرط ببغداد، اشتري المطيع لله لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم, وفي سنة 360 فلج المطيع، وبطل نصفه، وتملك في أيامه بنو عبيد مصر والشام، وأذنوا بدمشق " بحي على خير العمل "، وغلت البلاد بالرفض شرقا وغربا، وخفيت السنة قليلا، واستباحت الروم نصيبين وغيرها، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولما تحكم الفالج في المطيع دعاه سبكتكين الحاجب التركي إلى عزل نفسه، وتسليم الخلافة إلى ابنه الطائع لله، ففعل ذلك في ثالث عشر من ذي القعدة سنة 363, ولما استفحل بلاء اللصوص ببغداد، وركبوا الخيل، وأخذوا الخفارة، وتلقبوا بالقواد.

خرج المطيع وولده الخليفة الطائع لله إلى واسط فمات المطيع هناك في المحرم سنة 364 بعد ثلاثة أشهر من عزله.

وعمره 63 سنة، فكانت خلافته ثلاثين سنة سوى أشهر.

وفي أيامه سنة 316 تلقب عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس بأمير المؤمنين.

وقال: أنا أحق بهذا اللقب من خليفة تحت يد بني بويه.

قال الذهبي: " وصدق الناصر؛ فإنه كان بطلا شجاعا سائسا مهيبا، له غزوات مشهودة، وكان خليقا للخلافة"


قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الإنكار على المفسدين، والذين يبيعون الخمور، وفي إبطال المؤاجرات وهن البغايا، وكتبوا إلى السلطان في ذلك، فجاءت كتبه في الإنكار.


حدوث حدثت زلزلة عظيمة ببغداد ارتجت لها الأرض ست مرات، وفيها كان موت ذريع في الحيوانات، بحيث أن بعض الرعاة بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هن قد متن كلهن، وجاء سيل عظيم وبرد كبار أتلف شيئا كثيرا من الزروع والثمار بخراسان.


سير السلطان ألب أرسلان وزيره نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس، وكان بها حصن من أمنع الحصون والمعاقل، وفيه صاحبه فضلون الكردي، وهو لا يعطي الطاعة، فنازله وحصره، ودعاه إلى طاعة السلطان فامتنع، فقاتله فلم يبلغ بقتاله غرضا لعلو الحصن وارتفاعه، فلم يطل مقامهم عليه حتى نادى أهل القلعة بطلب الأمان ليسلموا الحصن إليه، فعجب الناس من ذلك، وكان السبب فيه أن جميع الآبار التي بالقلعة غارت مياهها في ليلة واحدة فقادتهم ضرورة العطش إلى التسليم، فلما طلبوا الأمان أمنهم نظام الملك، وتسلم الحصن، والتجأ فضلون إلى قلة القلعة، وهي أعلى موضع فيها، وفيه بناء مرتفع، فاحتمى فيها، فسير نظام الملك طائفة من العسكر إلى الموضع الذي فيه أهل فضلون وأقاربه ليحملوهم إليه وينهبوا مالهم، فسمع فضلون الخبر، ففارق موضعه مستخفيا فيمن عنده من الجند، وسار ليمنع عن أهله، فاستقبلته طلائع نظام الملك، فخافهم فتفرق من معه، واختفى في نبات الأرض، فوقع فيه بعض العسكر، فأخذه أسيرا، وحمله إلى نظام الملك، فأخذه وسار به إلى السلطان فأمنه وأطلقه.


وقع نزاع بين فرقتين، فرقة العبيد وعرب الصعيد، وفرقة الجند من الترك والمغاربة، ورأسهم ناصر الدولة ابن حمدان التغلبي، فالتقوا بكوم الريش، فهزمهم ابن حمدان، وقتل وغرق نحوا من أربعين ألفا.

ونفدت خزائن المستنصر على الترك، ثم اختلفوا، ودامت الحرب أياما، وطمع الترك في المستنصر، وطالبوه حتى بيعت فرش القصر، وأمتعته بأبخس ثمن، وغلبت العبيد على الصعيد، وقطعوا الطرق، وكان نقد الأتراك في الشهر أربع مائة ألف دينار، واشتدت وطأة ناصر الدولة، وصار هو الكل، فحسده الأمراء، وحاربوه، فهزموه، ثم جمع وأقبل فانتصر، واضمحل أمر المستنصر بالمرة، وخمل ذكره.

وبعث ابن حمدان يطالبه بالعطاء، فرآه رسوله على حصير، وما حوله سوى ثلاثة غلمان.

فقال: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا الحال؟ فبكى الرسول، ورق له ناصر الدولة، وقرر له كل يوم مائة دينار, وتفرق عن المستنصر أولاده، وأهله من الجوع، وتقرفوا وتفرقوا في البلاد، ودام الجهد عامين، ثم انحط السعر في سنة خمس وستين.

قال الذهبي: "كان ناصر الدولة، يظهر التسنن، ويعيب المستنصر لخبث رفضه وعقيدته" قال ابن الأثير: بالغ ابن حمدان في إهانة المستنصر، وفرق عنه عامة أصحابه، وكان غرضه أن يخطب لأمير المؤمنين القائم، ويزيل دولة الباطنية، وما زال حتى قتله الأمراء، وقتلوا أخويه فخر العرب، وتاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانية بمصر بالكلية"


ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملك شاه، وهي من أمنع القلاع وأحصنها، مطلة على الفرات من الجانب الشرقي.

وأما سبب ملكها فإن صاحبها نزل منها يتصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة 563، فاعتقله وأحسن إليه، ورغبه في المال والإقطاع ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسير إليها نور الدين عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بعسكر آخر، فحصرها أيضا فلم ير له فيها مطمعا، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العوض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقبل قوله وسلمها، فأخذ عوضا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار معجلة، وهذا إقطاع عظيم جدا، إلا أنه لا حصن فيه، وهذا آخر أمر بني مالك بالقلعة.


في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فملكها ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكما جائرا، وركبوهم بالأذى العظيم، فعملوا أيضا على تجهيز الجيوش لتملك مصر كلها، وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمع عساكره، وأمرهم بالقدوم عليه، وجد الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، وملكوها قهرا مستهل صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعدوهم النصرة، فقوي جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد، فانتقلوا، وبقوا على الطرق، ونهبت المدينة وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفا أن يملكها الفرنج، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما، وأرسل حاكم مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له، وأن هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض، ويمهل البعض فاستقرت القاعدة على ذلك، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضا خارجا عن الثلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحا جديدا لمصر، وحفظا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالعاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.


هو ملك الديار المصرية ووزيرها أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار بن عشائر السعدي، الهوازني.

يرجع نسبه إلى أبي ذؤيب عبد الله والد حليمة السعدية مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان الملك الصالح طلائع بن رزيك الرافضي وزير العاضد قد ولاه إمرة الصعيد، ثم ندم على توليته حيث لا ينفع الندم.

ثم إن شاور تمكن في الصعيد، وكان شجاعا فارسا شهما، وكان الصالح لما احتضر قد وصى ولده رزيك ألا يتعرض لشاور ولا يهيجه بمساءة ولا يغير عليه حاله، فإنه لا يأمن عصيانه والخروج عليه، وكان كما أشار، ثم إن شاور بعد وفاة الملك الصالح حشد وجمع، وأقبل من الصعيد على واحات، واخترق البرية إلى أن خرج من عند تروجة بقرب الإسكندرية، وتوجه إلى القاهرة ودخلها، فقتل العادل رزيك بن الملك الصالح، ووزر للعاضد.

لما تملك شاور البلاد لم شعث القصر، وأدر الأرزاق الكثيرة على أهل القصر، وكان قد نقصهم الملك الصالح أشياء كثيرة، ثم تجبر شاور وظلم فخرج عليه الأمير ضرغام وأمراء، وتهيؤوا لحربه، ففر إلى دمشق مستنجدا بالسلطان نور الدين محمود، فاجتمع به، وأكرمه، ووعده بالنصرة.

وقال شاور له: أنا أملكك مصر، فجهز معه شيركوه بعد عهود وأيمان، فالتقى شيركوه وعسكر ضرغام، فانكسر المصريون، وحوصر ضرغام بالقاهرة، وتفلل جمعه، فهرب، فأدرك وقتل عند جامع ابن طولون، وطيف برأسه، ودخل شاور، فعاتبه العاضد على ما فعل من جلب أصحاب نور الدين محمود إلى مصر، فضمن له أن يصرفهم، فخلع عليه، فكتب إلى الروم يستنفرهم ويمنيهم، فأسقط في يد شيركوه، وحاصر القاهرة، فدهمته الروم، فسبق إلى بلبيس، فنزلها، فحاصره العدو بها شهرين، وجرت له معهم وقعات، ثم فتروا، وترحلوا، وبقي خلق من الروم يتقوى بهم شاور، وقرر لهم مالا، ثم فارقوه.

وبالغ شاور في العسف والمصادرة، وتمنى المصريون أن يلي أمرهم شيركوه، فسار إليهم ثانيا من الشام، فاستصرخ شاور بملك الفرنج عموري، للعود إلى مصر، ولكنهم تأخروا فخاف شاور فعمل حيلة يغدر فيها بأسد الدين وأمرائه ويقبض عليهم، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن لم تنته عن هذا الأمر لأعرفن أسد الدين.

فقال له أبوه شاور: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن كلنا.

فقال له ابنه الكامل: لأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج.

وكان شاور قد شرط لأسد الدين شيركوه ثلث أموال البلاد، فأرسل أسد الدين يطلب منه المال، فجعل شاور يتعلل ويماطل وينتظر وصول الفرنج، فابتدره أسد الدين وقتله، واختلفوا في قتله على أقوال؛ أحدها: أن الأمراء اتفقوا على قتله لما علموا مكاتبته للفرنج، وأن أسد الدين تمارض، وكان شاور يخرج إليه في كل يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادة وزراء مصر، فجاء شاور ليعود أسد الدين فقبض عليه وقتله، والثاني: أن صلاح الدين وجرديك اتفقا على قتله وأخبرا أسد الدين فنهاهما، وقال: لا تفعلا، فنحن في بلاده ومعه عسكر عظيم، فأمسكا عن ذلك إلى أن اتفق أن أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعي وأقام عنده، فجاء شاور على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح الدين وجرديك وقالا: هو في الزيارة انزل، فامتنع؛ فجذباه فوقع إلى الأرض فقتلاه، والثالث: أنهما لما جذباه لم يمكنهما قتله بغير أمر أسد الدين فسحبه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة ليجيشوا عليهم، علم أسد الدين فعاد مسرعا، وجاء رسول من العاضد برقعة يطلب من أسد الدين رأس شاور، وتتابعت الرسل.

وكان أسد الدين قد بعث إلى شاور مع الفقيه عيسى يقول: لك في رقبتي أيمان، وأنا خائف عليك من الذي عندي فلا تجيء.

فلم يلتفت وجاء على العادة فقتل.

ولما تكاثرت الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجز رأسه، وبعث أسد الدين برأسه إلى العاضد فسر به.

ثم طلب العاضد ولد شاور الملك الكامل وقتله في الدهليز وقتل أخاه، واستوزر أسد الدين شيركوه، وذلك في شهر ربيع الأول.


لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين بن أخيه أيوب بن شاذي قد سار معه على كره منه للمسير، وأما كيفية ولايته، فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها، وقد جمع أصحابه ليغال عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضره عنده، وخلع عليه، وولاه الوزارة بعد عمه، وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سنا من يوسف بن أيوب (صلاح الدين)، والرأي أن يولى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه، فلما خلع عليه لقب الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم، ولا خدموه، وكان الفقيه عيسى الهكاري مع صلاح الدين، فميل الأمراء الذين كانوا قد طمعوا بالوزارة إلى الانقياد إليه، فأجابوا سوى عين الدولة الياروقي؛ فإنه امتنع، وثبت قدم صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين محمود، واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأخذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حبا وطاعة.


هو الملك المنصور أبو الحارث أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان عم صلاح الدين, وأصله من الأكراد الروادية، وهذا النسل هم أشرف الأكراد.

كان شاور وزير العاضد العبيدي, فقدم إلى الشام يستنجد بنور الدين سنة 559 على خصمه ضرغام.

فسير معه جماعة من عسكره، وجعل مقدمهم أسد الدين شيركوه، وقدموا مصر، وغدر بهم شاور ولم يف بما وعدهم به، فعادوا إلى دمشق، ثم عاد شيركوه إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة 562، وكان توجهه إليها رغبة في ملكها, فجرت عدة وقائع مع شاور.

توجه خلالها صلاح الدين إلى الإسكندرية وحكمها، ثم جرى صلح بين شيركوه وبين المصريين، وسيروا له صلاح الدين، وعاد إلى الشام، ولما وصل الفرنج إلى بلبيس وملكوها وقتلوا أهلها سنة 564، سيروا إلى أسد الدين وطلبوه ومنوه ودخلوا في مرضاته لأن ينجدهم، فمضى إليهم وطرد الفرنج عنهم.

وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول، وعزم شاور على قتله وقتل الأمراء الكبار الذين معه، فبادروه وقتلوه, فتولى أسد الدين الوزارة يوم الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة 564، ولما ثبتت قدمه بمصر، وظن أنه لم يبق له منازع، أتاه أجله فجأة، فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، بالقاهرة، ودفن بها، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مدة بوصية منه، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، وتولى مكانه صلاح الدين, ولم يخلف ولدا سوى ناصر الدين محمد بن شيركوه الملقب بالملك القاهر.