Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكرا كثيرا، وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم إلى مساعدة قزل أرسلان بن الأتابك إيلدكز، ليكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم، وأقبل طغرل إليهم في عساكره، فالتقوا ثامن ربيع الأول بـ (داي مرج) عند همذان، واقتتلوا، فلم يثبت عسكر بغداد، بل انهزموا وتفرقوا، وثبت الوزير قائما، ومعه مصحف وسيف، فأتاه من عسكر طغرل من أسره، وأخذ ما معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين.
سار صلاح الدين عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس غربي حمص، وجاءته العساكر، فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن آقسنقر.
صاحب سنجار، ونصيبين، والخابور، وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها.
فاجتمعت عليه، وكثرت عنده.
فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي، فأقام يومين، وسار جريدة- الجريدة خيل لا رجالة فيها- وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالما، وقد غنم العسكر من الدواب على اختلاف أنواعها ما لا حد له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الآخر.
لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصور بن نبيل، يستدعيه إليها ليسلمها إليه، حملته الغيرة للدين على قصد السلطان، وتكفل له بفتح جبلة واللاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة، واحتموا في برجين حصينين، كل واحد منهما قلعة حصينة ومعقل منيع، فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد، ونهبوا ما وجدوه من ذخائرهم، وكان الداوية بأحد البرجين، فحصرهما صلاح الدين، فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه، فأمنهم، وخرب البرج وألقى حجارته في البحر، وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه، فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونهم التي لا ترام، وهو للإسبتارية، فاجتاز المسلمون وعبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى.
وتسلمها وقت وصوله، وكان قاضيها قد سبقه إليها ودخلها.
فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها، واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم، حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائن المسلمين من أهل جبلة.
وكان بيمند صاحبها قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائن المسلمين فأطلق المسلمون رهائن الفرنج، وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله، وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر، وقرر صلاح الدين أحوال جبلة، وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر، وسار عنها.
لما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة، سار عنها إلى اللاذقية، فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها، وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما، فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج، وزحفوا إليهما، ونقبوا السور ستين ذراعا، وعلقوه- حازوه- وعظم القتال، واشتد الأمر عند الوصول إلى السور، فلما أيقن الفرنج بالعطب، ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين؛ طلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين، ورفع المسلمون الأعلام على الحصنين، وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها، وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعها، فسلمها صلاح الدين إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، فعمرها، وحصن قلعتها.
في المحرم حاصر صلاح الدين الحصن، لكنه رآه منيعا فكان رحيله عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلا ونهارا بالحجارة والسهام، وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم من أول السنة، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، ثم لما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرا من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين، فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلا من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيدا، فلقي رجلا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم فأخذهم وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قوله، وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة لا تنقطع ليلا ولا نهارا، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور, واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية سوى القصير.
قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندما وأسفا حيث لم ينفعه ذلك".
في المحرم حاصر صلاح الدين الحصن، لكنه رآه منيعا فكان رحيله عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلا ونهارا بالحجارة والسهام، وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم من أول السنة، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، ثم لما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرا من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين، فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلا من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيدا، فلقي رجلا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم فأخذهم وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قوله، وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة لا تنقطع ليلا ولا نهارا، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور, واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية سوى القصير.
قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندما وأسفا حيث لم ينفعه ذلك".
لما فرغ صلاح الدين من أمر قلعة صهيون، سار في ثالث جمادى الآخرة، فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وحصرها، وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى اللاذقية وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية، فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام، ولا يوصل إليها بطريق من الطرق، إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب منجنيق عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق، فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون عليه أياما لا يرون فيه طمعا، وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم، وبلاء ينزل عليهم، فبينما صلاح الدين جالس، وعنده أصحابه إذ أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنعهم وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالتهم أنهم أرسلوا إلى البيمند، صاحب أنطاكية، وكان هذا الحصن له، يعرفونه أنهم محصورون، ويطلبون منه أن يدفع عنهم المسلمين، فإن فعل وإلا سلموها، وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد، ولا بلغ المسلمون منهم غرضا، فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج، وأمره بعمارته ورحل عنه.
لما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وصفت له، وهي تقابل حصن أفامية، وتناصفها في أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء النهر العاصي وعيون تتفجر من جبل برزية وغيره، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين؛ يقطعون الطريق، ويبالغون في الأذى، فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعا يقاتلها منه، فلم يجد إلا من جهة، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقا بطولها، فلما رأى صلاح الدين أنهم لن ينتفعوا بالمنجنيق لارتفاع القلعة، عزم على الزحف ومكاثرة أهلها بجموعه، فقسم عسكره ثلاثة أقسام: يزحف قسم، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني، فإذا تعبوا وضجروا عادوا وزحف القسم الثالث، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة، فلما كان الغد- وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة- تقدم أحد الأقسام، وخرج الفرنج من حصنهم، فقاتلهم على فصيلهم، ورماهم المسلمون بالسهام، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل، فلما قاربوا الفرنج عجزوا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى، وتسلط الفرنج عليهم؛ لعلو مكانهم، بالنشاب والحجارة، فلما تعب هذا القسم انحدروا، وصعد القسم الثاني، وكانوا جلوسا ينتظرونهم، فقاتلوهم إلى قريب الظهر، ثم تعبوا ورجعوا، فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم يردهم، وصاح في القسم الثالث، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به، وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضا معهم، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج، وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم، فظهر عجزهم عن القتال، وضعفهم عن حمل السلاح؛ لشدة الحر والقتال، فخالطهم المسلمون، فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، فملكوا الحصن عنوة وقهرا، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها، وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح، فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر، فملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا من فيها، وأخذوا صاحبها وأهلها، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت، وأما صاحب برزية، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده، فأطلقهم صلاح الدين.
لما كان صلاح الدين مشغولا بفتح القلاع والحصون التي بيد الفرنج، سير ولده الظاهر غازي، صاحب حلب، فحصر سرمينية، وضيق على أهلها، واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه، وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا كسوة ونفقة، وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.
بعد أن فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد، فأتى جسر الحديد، وهو على النهر العاصي، بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك، فنزل عليها ثامن رجب، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد، فلما نزل عليها نصب المجانيق، وتابع الرمي بالحجارة، فهدمت من سورها شيئا يسيرا، فلم يبال من فيه بذلك، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها، وكشفوا الرجال عن سورها، وتقدم النقابون فنقبوا منها برجا وعلقوه- حازوه- فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك، ثم باكروا الزحف من الغد، وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه، فصبروا، وأظهروا الجلد، وهم ينظرون وصول جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم، وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم، فلما علموا عجزه عن نصرتهم، وخافوا هجوم المسلمين عليها، وأخذهم بالسيف، وقتلهم وأسرهم، ونهب أموالهم، طلبوا الأمان، فأمنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال ولا سلاح، ولا أثاث بيت، ولا دابة، ولا شيء مما بها، ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية، وكان فتحه تاسع عشر رجب.
لما فرغ صلاح الدين من أمر قلعة درب ساك سار إلى قلعة بغراس، فحصرها، وجعل أكثر عسكره يزكا- اليزك كلمة فارسية تعني مقدمة الجيش- مقابل أنطاكية، يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها إن غفلوا؛ لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المجانيق، فلم يؤثر فيها شيئا لعلوها وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض، وأمر بحمل الماء إليها، فخفف الأمر عليهم، فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة، وخرج منه إنسان يطلب الأمان ليحضر، فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه بما فيه على قاعدة قلعة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا، فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية، فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها، وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه، فخرب، وكانت مضرته عظيمة على المسلمين؛ فإن ابن ليون صاحب الأرمن خرج إليه من ولايته وهو مجاوره، فجدد عمارته وأتقنه، وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد، فتأذى بهم السواد الذي بحلب.
لما فتح صلاح الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها، فخاف البيمند صاحبها من ذلك، وأشفق منه، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة، وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين، فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم، فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك؛ ليعود الناس ويستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك، واصطلحوا ثمانية أشهر، وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستحلفه، ويطلق من عنده من الأسرى، وكان صاحب أنطاكية في هذا الوقت أعظم الفرنج شأنا، وأكثرهم ملكا، وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان، فدخلها وسار منها إلى دمشق، وفرق العساكر الشرقية، ثم رحل من حلب إلى دمشق، ودخل دمشق أول شهر رمضان.
هو الأمير الكبير، العلامة فارس الشام، مجد الدين، سلالة الملوك والسلاطين مؤيد الدولة، أبو المظفر أسامة بن الأمير مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الشيزري.
ولد بشيزر سنة 488.
أحد الشعراء المشهورين.
قيل: كان يحفظ من شعر الجاهلية عشرة آلاف بيت.
قال الذهبي: "سافر إلى مصر, وكان من أمرائها الشيعة، ثم فارقها وجرت له أمور، وحضر حروبا ألفها في مجلد فيه عبر".
قال يحيى بن أبي طيئ الشيعي في (كتابه تاريخ الشيعة): "كان ابن منقذ إماميا، حسن العقيدة، إلا أنه كان يداري عن منصبه، ويتاقي".
كان ابن منقذ عمره تاريخا مستقلا وحده، وكانت داره بدمشق، وكانت معقلا للفضلاء ومنزلا للعلماء، وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولديه علم غزير، وعنده جود وفضل كثير، وكان من أولاد ملوك حصن شيزر، وهذا الحصن قريب من حماة، وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس، ثم انتقل إلى مصر فأقام بها مدة أيام الفاطميين، في وزارة العادل ابن السلار، واتصل ابن منقذ بعباس الصنهاجي، فحسن له قتل زوج أمه ابن السلار، فقتله، ثم ولاه الظافر الوزارة فاستبد بالأمر, ولما علم الأمراء والأجناد أن قتل ابن السلار من فعل ابن منقذ، عزموا على قتله، فخلا بعباس، وقال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول؟ قال: وما ذلك؟ قال: الناس يزعمون أن الظافر يفعل بابنك نصر، وكان نصر خصيصا بالظافر، وكان ملازما له ليله ونهاره، وكان من أجمل الناس صورة، وكان الظافر يتهم به، فانزعج لذلك عباس وعظم عليه، وقال: كيف الحيلة؟ قال: تقتله فيذهب عنك العار، فذكر الحال لولده نصر، فاتفقا على قتل الظافر فقتله نصر, ثم عاد ابن منقذ إلى الشام، فقدم على الملك صلاح الدين في سنة 570, وله نظم في الذروة, منه ديوان شعر كبير، وأشعار في مدح السلطان صلاح الدين، وله كتاب لباب الآداب، والبديع، وأخبار النساء، وغيرها، وكان صلاح الدين يفضل ديوانه على سائر الدواوين، وكان في شبيبته شهما شجاعا، قتل أسدا وحده مواجهة.
توفي في هذه السنة ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان، عن عمر ست وتسعين سنة، ودفن شرقي جبل قاسيون.
هو الشاعر الكبير رئيس الشعراء، أبو الفتح محمد بن عبيد الله نشتكين بن عبد الله.
الكاتب المعروف بسبط ابن التعاويذي، الشاعر المشهور، كان والده عبيد الله من غلمان بني المظفر، وكان اسمه نشتكين فسماه ابنه أبو الفتح عبيد الله, وهو سبط أبي محمد المبارك بن علي بن نصر السراج الجوهري الزاهد المعروف بابن التعاويذي- نسبة إلى كتابته التعاويذ وهي الحروز- وإنما نسب إلى جده؛ لأنه كفله صغيرا، ونشأ في حجره فنسب إليه.
كانت ولادة أبي الفتح في العاشر من رجب يوم الجمعة سنة 519, وهو أحد فحول شعراء العربية، وشاعر العراق في عصره.
ومن أهل بغداد، وقد ولد وتوفي فيها.
ولي بها الكتابة في ديوان المقاطعات.
اشتهر بالمديح وبرع فيه.
قال ابن خلكان: "كان أبو الفتح شاعر وقته، لم يكن فيه مثله، جمع شعره بين جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة، وفيما أعتقد لم يكن قبله بمائتين سنة من يضاهيه، ولا يؤاخذني من يقف على هذا الفصل؛ فإن ذلك يختلف بميل الطباع، ولله القائل: وللناس فيما يعشقون مذاهب" عمي أبو الفتح في آخر عمره سنة 579، وله في عماه أشعار كثيرة يرثي بها زمان شبابه، وكان قد جمع ديوان شعره بنفسه، ورتبه على أربعة فصول قبل العمى، وعمل له خطبة طريفة.
توفي في ثاني شوال سنة أربع، وقيل ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن في باب أبرز ببغداد عاش خمسا وستين سنة.