العدل أساس قيام الأمم


الحلقة مفرغة

الحمد لله يمنُّ بالفضل ويقضي بالحق، ويحكم بالعدل، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وهو الغفور الرحيم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله، المبعوث للأحمر والأسود، هدى بإذن ربه إلى أقوم طريق، وأعظم سبيل؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فيا أيها الناس! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه رحمكم الله، وأحسنوا فهو سبحانه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.

أيها المسلمون: احترام العدل تقليدٌ تتوارثه الأمم المحترمة وتقيم له الضمانات، وتبني له السياجات من أجل أن يرتقي ويستقر، وإن الحضارات الإنسانية لا تبلغ أوج عزها، ولا ترقى إلى عز مجدها إلا حين يعلو العدل تاجها ويتلألأ به مشرقها، تبسطه على القريب والغريب، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والحاضر والباد.

العدل تواطأت على حبه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، والفطر السوية، وتمسح بادعاء القيام به ملوك الأمم وقادتها وعظماؤها وسادتها.

حسن العدل وحبه مستقر في الفطر، وكل نفس تنشرح لمظاهر العدل ما دامت بمعزلٍ عن هوى يشوبها في قضية خاصة تخصها.

لقد دلت الأدلة الشرعية وسنن الله في الأولين والآخرين: أن العدل دعامة بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، وباسط ظلال الأمن، ورافع ألوية العز والمجد، ولا يكون شيءٌ من ذلك بدون العدل.

والقسط والعدل هو غاية الرسالات السماوية كلها: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].

إن أية أمة تعطلت من هذه الخصلة الجليلة لن تجد فيها إلا آفات جارحة، ورزايا قاتلة، وبلايا مهلكة، وفقراً معوزاً، وذلاً معجزاً، ثم لا تلبث بعد ذلك أن تبتلعها بلاليع العدم، وتلتهمها أمهات الظلم.

بالعدل قامت السموات والأرض، وبالظلم يهتز عرش الرحمن، العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب، إذا قام في البلاد عمر، وإذا ارتفع عن الديار دمر، إن الدول ستدوم مع الكفر ما دامت عادلة، ولا يقوم مع الظلم حق ولا يدوم به حكم.

أيها الإخوة: العدل في حقيقته تمكين صاحب الحق ليأخذ حقه، في أجواء العدل يكون الناس في الحق سواء، لا تمايز بينهم ولا تفاضل، في العدل يشتد عذر الضعيف ويقوى رجاؤه، وبالعدل يهون أمر القوي وينقطع طمعه: لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].

أيها الإخوة في الله: وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل والخير والوسط، نصبها ربها قوامة على الأمم في الدنيا، شاهدة عليهم في الأخرى، خير أمة أخرجت للناس، يهدون للحق وبه يعدلون، يتواصون بالحق وبالصبر، ويتماسكون في ميادين الخير والبر، ويتسابقون إلى موجبات الرحمة والأجر، أمة أمرها ربها بإقامة العدل في كتابه أمراً محكماً وحتماً لازماً: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135].

الشريعة الإسلامية والعدل

لا أعدل ولا أصدق ولا أقوى من عدل شريعة الله، فهي مبنية على المصالح الخالصة، أو المصالح الراجحة، بعيدةٌ عن أهواء الأمم وعوائد الضلال، لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بتقاليد الفساد، إنها لمصالح النوع البشري كله، ليست لقبيلة أو بلدٍ أو جهة: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15].

إن الإسلام صدق كله، وعدل كله، خبره صدق، وحكمه عدل: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

عدل الإسلام -أيها الإخوة- يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، والمرءوسين والرؤساء.

عدل الإسلام ينتظم كل ميادين الحياة ومرافقها ودروبها وشئونها في الدولة والقضاء، والراعي والرعية، والأولاد والأهلين.

عدل في حق الله، وعدل في حقوق العباد، في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال.

عدل في العطاء والمنع والأكل والشرب، يحق الحق ويمنع البغي في الأرض وفي البشر: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته } وفي الحديث الآخر: {ما من أحدٍ يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار } أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.

لا أعدل ولا أصدق ولا أقوى من عدل شريعة الله، فهي مبنية على المصالح الخالصة، أو المصالح الراجحة، بعيدةٌ عن أهواء الأمم وعوائد الضلال، لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بتقاليد الفساد، إنها لمصالح النوع البشري كله، ليست لقبيلة أو بلدٍ أو جهة: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15].

إن الإسلام صدق كله، وعدل كله، خبره صدق، وحكمه عدل: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

عدل الإسلام -أيها الإخوة- يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، والمرءوسين والرؤساء.

عدل الإسلام ينتظم كل ميادين الحياة ومرافقها ودروبها وشئونها في الدولة والقضاء، والراعي والرعية، والأولاد والأهلين.

عدل في حق الله، وعدل في حقوق العباد، في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال.

عدل في العطاء والمنع والأكل والشرب، يحق الحق ويمنع البغي في الأرض وفي البشر: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته } وفي الحديث الآخر: {ما من أحدٍ يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار } أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.

من العدل توحيد الله وعبادته

إن أولى ما يجب الوفاء به من العدل حق الله سبحانه في توحيده وعبادته، وإخلاص الدين له كما أمر وشرع خضوعاً وتذللاً، ورضاً بحكمه وقدره، وإيماناً بأسمائه وصفاته، وأظلم الظلم الشرك بالله، وأعظم الذنب أن تجعل لله نداً وهو خلقك.

العدل في حقوق العباد

ثم العدل في حقوق العباد تؤدى كاملة موفورة؛ مالية أو بدنية، قولية أو عملية.

يؤدي كل والٍ ما عليه مما تحت ولايته من ولاية الإمامة الكبرى، ثم نواب الإمام في القضاء والأعمال في كل ناحية أو منطقة.

في الحديث الصحيح: {إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا } رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وإن ولاة المسلمين حقٌ عليهم أن يقيموا العدل في الناس، فلقد جاء في مأثور الحكم السياسات: لا دولة إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.

حكم كله عدل ورحمة، في خفض الجناح ولين الجانب، وقوة الحق عدل ومساواة، تكون فيه المسئوليات والولايات والأعمال والمهمات تكليفاً قبل أن تكون تشريفاً، وتبعات لا شهوات، ومغارم لا مغانم، وجهاداً لا إسناداً، وتضحية لا تحلية، وميداناً لا ديواناً، وأعمالاً لا أقوالاً، وإيثاراً لا استئثاراً، إنصافاً للمظلوم ونصرة للمهضوم، وقهراً للغشوم، ورداً للظلوم، ودفعاً للمظالم عن كواهل المقروحة أكبادهم، ورداً لاعتبار من أذلهم البغي اللئيم.

لا تأخذ الأئمة في الحق لومة لائم، ولا تعويص واهن.

وإن حداً يقام في الأرض خير من أن تمطر سبعين أو أربعين صباحاً.

وفي مثل هذا صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال }.

والإمام العادل سابع سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

نزاهة القضاء من أهم أركان العدالة

أما نزاهة القضاء ونقاء ضمائر القضاة، فحسبك به من عدل وقسط أن صاحب الحق في جو القضاء العادل يشعر بالثقة والأمان في أروقة المحاكم وفي دواوين القضاء، فهو مطمئن إلى عدالة القضية ونزاهة الحكم وشرف ضمائر الحكام، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولأن يخطئ الحاكم في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة.

وهذا ما تعرفه دنيا الحضارات ودين أهل الإسلام.

القاضي العادل يوافي الناس بلحنه ولفظه، في وجهه ومجهوده، لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييئس ضعيف من عدله، لا يمضي مع هوى، ولا يتأثر بود، ولا ينفعل مع الروح، لا تتبدل التعاملات عنده مجاراة لصهرٍ أو نسب، ولا لقوة أو ضعف، يزن بالقسطاس، وبالعدل يقضي، يدني الضعيف حتى يشتد قلبه وينطلق لسانه، ويتعاهد الغريب حتى يأخذ حقه، وما ضاع حق غريب إلا من ترويعه وعدم نصرته.

جاء في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: {إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى الله عنه ولبسه الشيطان } وفي رواية الحاكم : {فإذا جار تبرأ الله منه }.

العدل مع غير المسلمين

أيها الإخوة: عدل في كل ميدان، وقسط يكفل الحق لكل الناس، ولو كان من غير المسلمين، ولو كان من الأعداء والمناوئين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

هذا هو العدل العالمي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، عدلٌ يتم فيه ضبط النفس والتحكم في المشاعر.

إنها القمة العلياء والمرتقى الصعب الذي لا يطلبه إلا من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، وبدينه دستوراً وحكماً.

إنه عدل محمد صلى الله عليه وسلم، مكيال واحد وميزان واحد.

ولقد انتظر بكم الزمان -أيها الإخوة- وطالت بكم الحياة حتى رأيتم أمماً آتاها الله بسطة في القوة والسيطرة، فما أقامت عدلاً، ولا حفظت حقاً، ويل لهم وما يخالفون! إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون، وإذا كالوا لغيرهم أو وزنوا فهم يخسرون، ولكن هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم يأبى إلا الحق: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15].

إن الأمة لا تصل إلى هذا القدر من السمو ونصب ميزان العدل، إلا حين تكون قائمة بالقسط لله، خالصة مخلصة، قد تلبست بلباس التقوى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].

والفئة الباغية إذا فاءت إلى أمر الله ودخلت في الطاعة، فإن حقها في العدل محفوظ: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

العدل في الأقوال

والعدل -أيها الإخوة- كما يكون في الأعمال والأموال فهو مطلوب في الأقوال والألفاظ: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].

ولعل العدل في الأقوال أدق وأشق، وصاحب اللسان العدل يعلم أن الله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

تأملوا هذا الإنصاف النبوي في القول، حينما أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكمه على كلمة قالها شاعر حال كفره، حين قال عليه الصلاة والسلام: {أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل }.

ثم هاهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يسمع البيت كاملاً، فيترتب النهج المحمدي نفسه بالتقويم والعدل، فيحق الحق ويقول القسط، فقال في شقه الأول: [[صدقت، ولما قال الشطر الثاني: وكل نعيم لا محالة زائل. قال: كذبت، نعيم الجنة ليس بزائل ]].

أيها الإخوة:لم يكن كذب الشاعر في الشطر الثاني بمانع عثمان رضي الله عنه من أن يقر له بالقسط والحق في شطره الأول.

وهذا علي رضي الله عنه يقاتل من خرج عليه، فلما سئل عنهم أمشركون هم؟ قال: [[هم من الشرك فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟! قال: هم إخواننا بغوا علينا؛ فقاتلناهم ببغيهم ]].

ومن لهذا العدل من القول غير أبي الحسن رضي الله عنه وعن ذريته الطيبين الطاهرين؟! وهل بعد هذا الإنصاف من إنصاف؟!

والنووي رحمه الله يقول: وينبغي ذكر الفضل لأهل الفضل ولا يمنع منه شنآن أو عدل، والعبد إذا وجد العدل وحب القسط، علم الحق، ورحم الخلق، واتبع الرسول، واجتنب مسالك الزيغ والبدع، هكذا يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

إن أولى ما يجب الوفاء به من العدل حق الله سبحانه في توحيده وعبادته، وإخلاص الدين له كما أمر وشرع خضوعاً وتذللاً، ورضاً بحكمه وقدره، وإيماناً بأسمائه وصفاته، وأظلم الظلم الشرك بالله، وأعظم الذنب أن تجعل لله نداً وهو خلقك.

ثم العدل في حقوق العباد تؤدى كاملة موفورة؛ مالية أو بدنية، قولية أو عملية.

يؤدي كل والٍ ما عليه مما تحت ولايته من ولاية الإمامة الكبرى، ثم نواب الإمام في القضاء والأعمال في كل ناحية أو منطقة.

في الحديث الصحيح: {إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا } رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وإن ولاة المسلمين حقٌ عليهم أن يقيموا العدل في الناس، فلقد جاء في مأثور الحكم السياسات: لا دولة إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.

حكم كله عدل ورحمة، في خفض الجناح ولين الجانب، وقوة الحق عدل ومساواة، تكون فيه المسئوليات والولايات والأعمال والمهمات تكليفاً قبل أن تكون تشريفاً، وتبعات لا شهوات، ومغارم لا مغانم، وجهاداً لا إسناداً، وتضحية لا تحلية، وميداناً لا ديواناً، وأعمالاً لا أقوالاً، وإيثاراً لا استئثاراً، إنصافاً للمظلوم ونصرة للمهضوم، وقهراً للغشوم، ورداً للظلوم، ودفعاً للمظالم عن كواهل المقروحة أكبادهم، ورداً لاعتبار من أذلهم البغي اللئيم.

لا تأخذ الأئمة في الحق لومة لائم، ولا تعويص واهن.

وإن حداً يقام في الأرض خير من أن تمطر سبعين أو أربعين صباحاً.

وفي مثل هذا صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال }.

والإمام العادل سابع سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.




استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3693 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3088 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3069 استماع
الطلاق وآثاره 3010 استماع
لعلكم تتقون 2998 استماع
الماء سر الحياة 2953 استماع
من أسس العمل الصالح 2930 استماع
الزموا سفينة النجاة 2881 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2869 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2847 استماع