شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب الوضوء -2


الحلقة مفرغة

هذا اليوم يوم السبت الرابع تقريباً من شهر صفر هو بداية الخمس الثاني من هذه الدورة المباركة في هذا الصيف عام ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة.

أولاً: النية

قال المصنف رحمه الله: [ والواجب من ذلك: النية ].

أي: الواجب من هذه الأعمال التي سبق، فإن ما سبق يعتبر وصفاً للوضوء الشرعي أدخل فيه الواجب والمسنون، ثم انتقل بعد ذلك رحمه الله تعالى إلى تفصيل الواجب من المسنون فقال: [ والواجب من ذلك: النية ] للحديث السابق حديث عمر رضي الله عنه، فإن النية واجبة بإجماع أهل العلم بلا خلاف، وهي واجبة في العبادات كلها.

ثانياً: غسل الأعضاء مرة مرة عدا الكفين

المسألة الثانية قال: [ والغسل مرة مرة ما خلا الكفين ].

وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي رواه الجماعة إلا مسلماً : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة )، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه توضأ مرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً. فهذا دليل على أن الوضوء مرة مرة كافٍ.

ومن الدليل على ذلك أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط السابق: ( أسبغ الوضوء )، فإن الواجب هو الإسباغ، فإذا حصل الإسباغ بمرة كان كافياً، وما زاد عليه فليس بواجب، فالغسل مرة واحدة كافٍ.

قال: [ ما خلا الكفين ] أي: ليس بواجب ولا مرة واحدة.

ومقصوده بالكفين: غسلهما قبل المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه. فقد سبق ذكر الإجماع على أنه سنة لم يخالف في ذلك إلا الزيدية، وخلافهم غير معتد به.

إذاً: غسل الكفين في بداية الوضوء سنة، وسبق التفصيل.

أما غسل الأعضاء بعد ذلك كغسل الوجه واليدين والرجلين مرة مرة فهو واجب إجماعاً.

ثالثاً: مسح الرأس

قال: [ ومسح الرأس كله ] وهذه هي المسألة الثالثة.

وهذا هو المشهور عند الحنابلة أنه يجب مسح الرأس كله، وعليه غالب الأصحاب منهم، واستدلوا لذلك بأدلة منها:

أولاً: القرآن الكريم، فإن الله تعالى قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، وهذه الآية الأصل أنها دليل على وجوب مسح الرأس كله.

وأما الباء في قوله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6] فالراجح أنها للإلصاق، أي: أن في الكف شيئاً يلصقه بالرأس، فليس مسح الرأس باليد مجردة، وإنما مسح الرأس باليد مع ماذا؟ مع الماء، فهذا هو سر وجود الباء في الآية، ولهذا إذا قلت أنت أو كما جاء في بعض الأحاديث أيضاً: ( امسح رأس اليتيم )، هل يلزم أن يكون في اليد شيء تمسح به رأس اليتيم؟ لا، وإنما تمسحه بيدك مجردة من باب ملاطفته ورحمته.

أما إذا قلت: امسح في الرأس، فذلك دليل على أن اليد تكون مبللة بالماء، ومثله قوله تعالى أيضاً فيما يتعلق بالتيمم: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [النساء:43]، وهذا دليل على أن اليد فيها أثر الصعيد وهو الغبار، فيمسح به الوجه.

وأما من قال: إن الباء للتبعيض كما نقله بعض الفقهاء فإن ذلك ليس بجيد؛ لأنه غير معروف عند أهل اللغة، وقد أنكره كثير منهم وقالوا: إن الباء لا تعرف بالإلصاق.

أما ما جاء في بعض الشواهد وفي بعض الألفاظ: فلا يؤخذ التبعيض من الباء، وإنما يؤخذ من السياق جملة، فهذا هو الدليل الأول الآية، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه مسح رأسه كله، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، فمسح الرأس كله، فهذا هو المشهور كما أسلفت.

وهناك قول ثانٍ في المسألة عند الحنابلة وغيرهم: أنه يجزئ مسح معظم الرأس وغالبه؛ لأن من مسح معظم الرأس يطلق عليه أنه مسح برأسه.

وهناك قول ثالث: أنه يجزئ مسح جزء منه؛ الناصية أو غيرها، واستدلوا لذلك بما روى المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة )، فقالوا: إن ذلك دليل على أنه يجزئ المسح على بعض الرأس، ولكن هذا فيه نظر، والذي حققه غير واحد من أهل العلم منهم الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على مسح جزء من الرأس فقط، وإنما هذا مسح على الناصية وأكمل على العمامة ولا إشكال حينئذ، أما أن يمسح جزءاً من الرأس ويترك ما بقي دون الانتقال إلى بديل، فهذا لم ينقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكن الأولى أن يقال في مسح الرأس: أنه لا يجزئ إلا مسح معظمه، أنه لابد من مسح معظمه، ولا يلزم أن يستوعب الرأس كله بالمسح -والله تعالى أعلم-؛ لأن هذا يقال: مسح برأسه إذا مسح غالب الرأس.

وكذلك أن المسح تسومح فيه، فإنه انتقل من الغسل إلى المسح للتسامح والتيسير، فالمناسب لذلك -كما أسلفنا- أن يتسامح أيضاً فلا يلزم أن يستوعب بالمسح كل شعرة، بل يمسح مجموع الرأس لا جميعه، ونظير ذلك أيضاً ما يقال بتقصير شعر الرأس عند التحلل من الإحرام، فإنه يقصر مجمله ومعظمه ولا يلزم أن يستوعبه كله بذلك، وهذا هو المتناسب مع رخصة المسح والتيسير فيها، وهو لا يعارض الأدلة بل يوافقها كما جاء في حديث المغيرة وغيره.

رابعاً: ترتيب الوضوء

قال: [ وترتيب الوضوء على ما ذكرنا ] وهذه هي المسألة الرابعة، وظاهر المذهب: أنه يجب ترتيب الأعضاء، فيبدأ بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم القدمين، هذا هو ظاهر المذهب.

وهناك رواية أخرى أيضاً نقلها أبو الخطاب أنه لا يجب -يعني: في المذهب- أنه لا يجب الترتيب، بل يجوز الوضوء من غير ترتيب منكساً، أو يقدم عضواً على آخر، وهذه ليست نصاً عن الإمام أحمد، وإنما هي أخذ من أنه أجاز أن يتمضمض بعدما ينتهي من غسل أعضائه.

والدليل على وجوب الترتيب: الآية الكريمة، فإن الله تعالى أدخل الممسوح بين المغسولين مما يدل على وجوب الترتيب، فإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] فبدأ بالمغسولين: وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، ثم أدخل الممسوح: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، ثم رجع للغسل قال: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] يعني: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.

وهذا يدل على وجوب الترتيب، وإلا لو لم يكن الترتيب واجباً لم يكن لذلك معنى، فإن الكلام اللغوي الفصيح الجزل يقتضي أن تساق المغسولات أولاً، ثم تذكر الممسوحات بعدها لو لم يكن ثمة معنى لإدخال الممسوح بين المغسولات، فهذا دليل على وجوب الترتيب.

الدليل الثاني الذي ذكره بعض الفقهاء استنباطاً أيضاً واستقراءً من النصوص القرآنية قالوا: إن المأمورات التي ذكرت في القرآن الكريم متعاطفة، وهي مرتبط بعضها ببعض أنها واجبة الترتيب كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فإن الركوع يكون قبل السجود، ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فهذه الأشياء المتعاطفة إذا كان متعلقاً بعضها ببعض ومرتبطاً بعضها ببعض، وكما في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] فإن البداءة تكون بالصفا أو بالمروة؟ تكون بالصفا لا بالمروة، بخلاف الأشياء غير المتعلق بعضها ببعض، فإن هذه لا تدخل فيما ذكرنا، كما في قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وكما في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] إلى غير ذلك من المواضع.

الدليل الثالث على وجوب الترتيب: قوله صلى الله عليه وسلم: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى الصفا ثم قال: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، والحديث رواه النسائي بلفظ الأمر: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، وهو في صحيح مسلم بلفظ الخبر: ( أبدأ بما بدأ الله به )، فعلى رواية الخبر فإنه قد لا يكون دليلاً صريحاً على الوجوب، لكن على رواية الأمر: ( ابدءوا ) فإن الأصل في الأمر أنه للوجوب إلا إذا وجد قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، فقالوا: إن رواية الأمر: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) دليل على وجوب الترتيب في الأشياء التي بدأ الله عز وجل بها في القرآن الكريم، ولكن الاستدلال بهذا اللفظ يعتمد على ثبوته، فإن الحديث واحد كما قال الإمام أبو الفتح القشيري، من هو أبو الفتح القشيري وهو ابن دقيق العيد، لكن هذا من الأسماء الخفية، وقد يعبر عنه بغير ذلك، وابن حجر رحمه الله ممن يفعل هذا ليس من باب التدليس؛ لأنه لا مجال للتدليس، لكن من باب التفنن وإثارة الذهن للتيقظ لمثل ذلك، فإن الإمام أبا الفتح القشيري ابن دقيق العيد يقول: إن الحديث واحد. يعني: في أصله. وقد اتفق جماعة من الأئمة الثقات كـمالك، وسفيان، ويحيى بن سعيد القطان على روايته بلفظ الخبر: ( نبدأ بما بدأ الله به ) وليس بلفظ الأمر.

قال الحافظ ابن حجر : وهم أحفظ من الباقين ممن رووا الحديث، ولهذا يكون المصير إلى روايتهم ويكون الاستدلال برواية الأمر فيه ما فيه.

وعلى كل حال: فإن الأصل هو وجوب الترتيب، ولعله مما ينبغي أن يساق في الدليل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه توضأ مرتباً، كما ذكر ذلك الذين نقلوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كـعثمان وعائشة وعمرو بن شعيب وعلي وغيرهم، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخل بالترتيب إلا في مواضع لا إشكال فيها، مثل: تقديم غسل الوجه على المضمضة والاستنشاق، وهذا لا إشكال فيه، لا يجب تقديم المضمضة والاستنشاق، بل يجوز غسل الوجه قبل المضمضة والاستنشاق؛ لأنهما من الوجه، والعضو الواحد يجوز غسله كيفما اتفق؛ يبدأ من أوله أو من آخره، كل ذلك واسع، فهذا لا إشكال فيه.

وكذلك جاء أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض بعدما انتهى من الوضوء لأنه نسي المضمضة، وهذا أيضاً لا إشكال فيه؛ لأنه قد يقال: إنه لو نسي موضعاً يسيراً من العضو ثم ذكره بعد ذلك قبل أن ينتهي من الوضوء أنه يدلك ذلك الموضع أو يغسله، قد يقال بذلك، أما أن يقال: إن هذا دليل على عدم وجوب الترتيب مطلقاً ففي ذلك نظر.

مسألة: رفع الحدث بالغسل لا يشترط فيه الترتيب في غسل أعضاء الوضوء

فيما يتعلق بترتيب الوضوء أيضاً أحب أن أشير إلى ما يتعلق بالغسل، فإن من المعلوم أن الوضوء داخل في الغسل. يعني: لو كان عليه وضوء واجب وغسل واجب فاغتسل بنية رفع الجنابة، هل يحتاج بعد ذلك إلى وضوء خاص لرفع الحدث الأصغر؟ لا يحتاج إلى ذلك، لماذا.. لماذا لا يحتاج؟ لأن الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر، فإذا ارتفع الأكبر ارتفع ما دونه، وحينئذ هل يلزم الترتيب في أعضاء الوضوء؟ لا يلزم الترتيب في أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث الأصغر دخل في الأكبر كما ذكرنا، والغسل لا يجب فيه ترتيب بل يغسل بدنه بأي صورة كان؛ لأن البدن كله يصبح كالعضو الواحد في حال الغسل، ولا يشترط له ترتيب ولا موالاة أيضاً مثلما هي الحال بالنسبة للوضوء، فيدخل الوضوء حينئذٍ في الغسل حتى إنهم قالوا -وهذا من الطريف- قالوا: لو أنه اغتسل في بدنه كله إلا أعضاء الوضوء، بمعنى: أن هناك إنساناً عليه حدث أكبر فغسل كل أعضائه إلا الوجه واليدين والرأس والرجلين، هل يلزمه الترتيب في هذه الأعضاء إذا أراد غسلها أم لا يلزمه الترتيب؟ قالوا: لا يلزم، لأن الذي سوف يفعله الآن هل هو وضوء أو غسل؟ غسل، والوضوء داخل فيه، فقالوا: حتى لو غسل بدنه كله إلا أعضاء الوضوء فإنه لا يلزمه أن يرتب بينها، بل يجزئه أن يغسلها غير مرتبة، لأن الأمر حينئذ غسل وليس وضوءاً.

خامساً: الموالاة في الوضوء

قال: [ ولا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله ] وهذه هي المسألة الخامسة.

وهذا ما يعرف عند الفقهاء بالموالاة، والمصنف يذهب إلى أن الموالاة واجبة؛ لأنه ذكرها في الواجبات، وهذا هو ظاهر المذهب، والمنصوص في رواية الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهناك رواية أخرى أن ذلك لا يجب بل هو مستحب.

والدليل على وجوب الموالاة عدة أدلة: بعضهم أخذ ذلك من الآية، لكن هذا فيه شيء من التكلف، وإنما ثبت ذلك بالسنة في أحاديث، منها: حديث خالد بن معدان رحمه الله تعالى عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة ) قالوا: لو كان يكفيه أن يغسل اللمعة فقط لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أمره بإعادة الوضوء دل على وجوب الموالاة بين أعضاء الوضوء؛ لأن القدم هي آخر ما يغسل، والحديث رواه أحمد وأبو داود وإسناده جيد كما قال ذلك الإمام أحمد، سئل: إسناد هذا الحديث جيد؟ قال: إسناده جيد، وحسنه غير واحد وله شواهد.

ومن ذلك أيضاً: حديث عمر رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ترك موضع ظفر من قدمه لم يغسله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فأحسن وضوءك )، فهذا دليل على وجوب الموالاة في الوضوء.

والموالاة عبر عنها المصنف بأنه [ لا يؤخر غسل حتى ينشف الذي قبله ]، وذلك لأنه لم يرد في الموالاة حد شرعي، فيرجع في ذلك إلى العادة، فما فحش في العادة اعتبر إخلالاً بالموالاة، وما لم يفحش لم يعد إخلالاً.

وينبغي أن نشير إلى أن في المسألة قولاً ثالثاً ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله، ونسبه إلى أنه قول في المذهب واختاره، وهو أن الموالاة تجب إلا لعذر، أي: أنه يجوز الإخلال بالموالاة إذا كان ذلك لعذر كإنقاذ مسلم من هلكة مثلاً، أو لأمر يتعلق بالوضوء، وهذا نقل عن أحمد رحمه الله أنه قال: إن كان ذلك لأمر الوضوء فلا بأس، يعني: مثلما لو احتاج إلى الماء أو كان الماء شحيحاً أو كان زحاماً شديداً في الحصول على الماء أو ما أشبه ذلك.

وأيضاً ينبغي أن يقال: مثله الموسوس الذي يغسل العضو ثم يبدأ يتردد ويظن أن العضو نشف، ثم يقول: أنه أخل بالموالاة ويبدأ من جديد وما أشبه ذلك، فهذا يقال له: لا يلزمك الموالاة، بل تغسل العضو، ثم تغسل الذي بعده بأي صورة كان ذلك.

هذه هي الأشياء التي ذكر المصنف رحمه الله أنها تدخل في الواجبات.

قال المصنف رحمه الله: [ والواجب من ذلك: النية ].

أي: الواجب من هذه الأعمال التي سبق، فإن ما سبق يعتبر وصفاً للوضوء الشرعي أدخل فيه الواجب والمسنون، ثم انتقل بعد ذلك رحمه الله تعالى إلى تفصيل الواجب من المسنون فقال: [ والواجب من ذلك: النية ] للحديث السابق حديث عمر رضي الله عنه، فإن النية واجبة بإجماع أهل العلم بلا خلاف، وهي واجبة في العبادات كلها.

المسألة الثانية قال: [ والغسل مرة مرة ما خلا الكفين ].

وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي رواه الجماعة إلا مسلماً : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة )، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه توضأ مرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً. فهذا دليل على أن الوضوء مرة مرة كافٍ.

ومن الدليل على ذلك أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط السابق: ( أسبغ الوضوء )، فإن الواجب هو الإسباغ، فإذا حصل الإسباغ بمرة كان كافياً، وما زاد عليه فليس بواجب، فالغسل مرة واحدة كافٍ.

قال: [ ما خلا الكفين ] أي: ليس بواجب ولا مرة واحدة.

ومقصوده بالكفين: غسلهما قبل المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه. فقد سبق ذكر الإجماع على أنه سنة لم يخالف في ذلك إلا الزيدية، وخلافهم غير معتد به.

إذاً: غسل الكفين في بداية الوضوء سنة، وسبق التفصيل.

أما غسل الأعضاء بعد ذلك كغسل الوجه واليدين والرجلين مرة مرة فهو واجب إجماعاً.

قال: [ ومسح الرأس كله ] وهذه هي المسألة الثالثة.

وهذا هو المشهور عند الحنابلة أنه يجب مسح الرأس كله، وعليه غالب الأصحاب منهم، واستدلوا لذلك بأدلة منها:

أولاً: القرآن الكريم، فإن الله تعالى قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، وهذه الآية الأصل أنها دليل على وجوب مسح الرأس كله.

وأما الباء في قوله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6] فالراجح أنها للإلصاق، أي: أن في الكف شيئاً يلصقه بالرأس، فليس مسح الرأس باليد مجردة، وإنما مسح الرأس باليد مع ماذا؟ مع الماء، فهذا هو سر وجود الباء في الآية، ولهذا إذا قلت أنت أو كما جاء في بعض الأحاديث أيضاً: ( امسح رأس اليتيم )، هل يلزم أن يكون في اليد شيء تمسح به رأس اليتيم؟ لا، وإنما تمسحه بيدك مجردة من باب ملاطفته ورحمته.

أما إذا قلت: امسح في الرأس، فذلك دليل على أن اليد تكون مبللة بالماء، ومثله قوله تعالى أيضاً فيما يتعلق بالتيمم: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [النساء:43]، وهذا دليل على أن اليد فيها أثر الصعيد وهو الغبار، فيمسح به الوجه.

وأما من قال: إن الباء للتبعيض كما نقله بعض الفقهاء فإن ذلك ليس بجيد؛ لأنه غير معروف عند أهل اللغة، وقد أنكره كثير منهم وقالوا: إن الباء لا تعرف بالإلصاق.

أما ما جاء في بعض الشواهد وفي بعض الألفاظ: فلا يؤخذ التبعيض من الباء، وإنما يؤخذ من السياق جملة، فهذا هو الدليل الأول الآية، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه مسح رأسه كله، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، فمسح الرأس كله، فهذا هو المشهور كما أسلفت.

وهناك قول ثانٍ في المسألة عند الحنابلة وغيرهم: أنه يجزئ مسح معظم الرأس وغالبه؛ لأن من مسح معظم الرأس يطلق عليه أنه مسح برأسه.

وهناك قول ثالث: أنه يجزئ مسح جزء منه؛ الناصية أو غيرها، واستدلوا لذلك بما روى المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة )، فقالوا: إن ذلك دليل على أنه يجزئ المسح على بعض الرأس، ولكن هذا فيه نظر، والذي حققه غير واحد من أهل العلم منهم الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على مسح جزء من الرأس فقط، وإنما هذا مسح على الناصية وأكمل على العمامة ولا إشكال حينئذ، أما أن يمسح جزءاً من الرأس ويترك ما بقي دون الانتقال إلى بديل، فهذا لم ينقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكن الأولى أن يقال في مسح الرأس: أنه لا يجزئ إلا مسح معظمه، أنه لابد من مسح معظمه، ولا يلزم أن يستوعب الرأس كله بالمسح -والله تعالى أعلم-؛ لأن هذا يقال: مسح برأسه إذا مسح غالب الرأس.

وكذلك أن المسح تسومح فيه، فإنه انتقل من الغسل إلى المسح للتسامح والتيسير، فالمناسب لذلك -كما أسلفنا- أن يتسامح أيضاً فلا يلزم أن يستوعب بالمسح كل شعرة، بل يمسح مجموع الرأس لا جميعه، ونظير ذلك أيضاً ما يقال بتقصير شعر الرأس عند التحلل من الإحرام، فإنه يقصر مجمله ومعظمه ولا يلزم أن يستوعبه كله بذلك، وهذا هو المتناسب مع رخصة المسح والتيسير فيها، وهو لا يعارض الأدلة بل يوافقها كما جاء في حديث المغيرة وغيره.

قال: [ وترتيب الوضوء على ما ذكرنا ] وهذه هي المسألة الرابعة، وظاهر المذهب: أنه يجب ترتيب الأعضاء، فيبدأ بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم القدمين، هذا هو ظاهر المذهب.

وهناك رواية أخرى أيضاً نقلها أبو الخطاب أنه لا يجب -يعني: في المذهب- أنه لا يجب الترتيب، بل يجوز الوضوء من غير ترتيب منكساً، أو يقدم عضواً على آخر، وهذه ليست نصاً عن الإمام أحمد، وإنما هي أخذ من أنه أجاز أن يتمضمض بعدما ينتهي من غسل أعضائه.

والدليل على وجوب الترتيب: الآية الكريمة، فإن الله تعالى أدخل الممسوح بين المغسولين مما يدل على وجوب الترتيب، فإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] فبدأ بالمغسولين: وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، ثم أدخل الممسوح: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، ثم رجع للغسل قال: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] يعني: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.

وهذا يدل على وجوب الترتيب، وإلا لو لم يكن الترتيب واجباً لم يكن لذلك معنى، فإن الكلام اللغوي الفصيح الجزل يقتضي أن تساق المغسولات أولاً، ثم تذكر الممسوحات بعدها لو لم يكن ثمة معنى لإدخال الممسوح بين المغسولات، فهذا دليل على وجوب الترتيب.

الدليل الثاني الذي ذكره بعض الفقهاء استنباطاً أيضاً واستقراءً من النصوص القرآنية قالوا: إن المأمورات التي ذكرت في القرآن الكريم متعاطفة، وهي مرتبط بعضها ببعض أنها واجبة الترتيب كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فإن الركوع يكون قبل السجود، ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فهذه الأشياء المتعاطفة إذا كان متعلقاً بعضها ببعض ومرتبطاً بعضها ببعض، وكما في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] فإن البداءة تكون بالصفا أو بالمروة؟ تكون بالصفا لا بالمروة، بخلاف الأشياء غير المتعلق بعضها ببعض، فإن هذه لا تدخل فيما ذكرنا، كما في قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وكما في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] إلى غير ذلك من المواضع.

الدليل الثالث على وجوب الترتيب: قوله صلى الله عليه وسلم: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى الصفا ثم قال: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، والحديث رواه النسائي بلفظ الأمر: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، وهو في صحيح مسلم بلفظ الخبر: ( أبدأ بما بدأ الله به )، فعلى رواية الخبر فإنه قد لا يكون دليلاً صريحاً على الوجوب، لكن على رواية الأمر: ( ابدءوا ) فإن الأصل في الأمر أنه للوجوب إلا إذا وجد قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، فقالوا: إن رواية الأمر: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) دليل على وجوب الترتيب في الأشياء التي بدأ الله عز وجل بها في القرآن الكريم، ولكن الاستدلال بهذا اللفظ يعتمد على ثبوته، فإن الحديث واحد كما قال الإمام أبو الفتح القشيري، من هو أبو الفتح القشيري وهو ابن دقيق العيد، لكن هذا من الأسماء الخفية، وقد يعبر عنه بغير ذلك، وابن حجر رحمه الله ممن يفعل هذا ليس من باب التدليس؛ لأنه لا مجال للتدليس، لكن من باب التفنن وإثارة الذهن للتيقظ لمثل ذلك، فإن الإمام أبا الفتح القشيري ابن دقيق العيد يقول: إن الحديث واحد. يعني: في أصله. وقد اتفق جماعة من الأئمة الثقات كـمالك، وسفيان، ويحيى بن سعيد القطان على روايته بلفظ الخبر: ( نبدأ بما بدأ الله به ) وليس بلفظ الأمر.

قال الحافظ ابن حجر : وهم أحفظ من الباقين ممن رووا الحديث، ولهذا يكون المصير إلى روايتهم ويكون الاستدلال برواية الأمر فيه ما فيه.

وعلى كل حال: فإن الأصل هو وجوب الترتيب، ولعله مما ينبغي أن يساق في الدليل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه توضأ مرتباً، كما ذكر ذلك الذين نقلوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كـعثمان وعائشة وعمرو بن شعيب وعلي وغيرهم، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخل بالترتيب إلا في مواضع لا إشكال فيها، مثل: تقديم غسل الوجه على المضمضة والاستنشاق، وهذا لا إشكال فيه، لا يجب تقديم المضمضة والاستنشاق، بل يجوز غسل الوجه قبل المضمضة والاستنشاق؛ لأنهما من الوجه، والعضو الواحد يجوز غسله كيفما اتفق؛ يبدأ من أوله أو من آخره، كل ذلك واسع، فهذا لا إشكال فيه.

وكذلك جاء أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض بعدما انتهى من الوضوء لأنه نسي المضمضة، وهذا أيضاً لا إشكال فيه؛ لأنه قد يقال: إنه لو نسي موضعاً يسيراً من العضو ثم ذكره بعد ذلك قبل أن ينتهي من الوضوء أنه يدلك ذلك الموضع أو يغسله، قد يقال بذلك، أما أن يقال: إن هذا دليل على عدم وجوب الترتيب مطلقاً ففي ذلك نظر.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3969 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3917 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3845 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3838 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3659 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3616 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3605 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3541 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3503 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3422 استماع