شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [13]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

فقد كنا نتدارس الأمر السادس المتعلق بترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهو يدور حول حب الله لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها ودفاعه عنها، وغيرته عليها، وقلت: سأذكر حادثتين تدللان وتقرران ذلك:

الحادثة الأولى مر الكلام عليها، ألا وهي تسببها في نزول آية التيمم بسبب عقدها المبارك رضي الله عنها وأرضاها.

والحادثة الثانية أيضاً بسبب عقدها أنزل الله جل وعلا آياتٍ تتلى في تبرئتها، وفيما حصل لها خيرٌ لها، ولمن له صلة وثيقة بهذه القصة وللمسلمين إلى يوم الدين، وهذا الأمر الثاني هو حادثة الإفك المريرة التي ألفقت واتهمت بها أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

وسنتدارس بقية حديث الإفك، ونختم به الكلام على ما يتعلق بمكانة أمنا عائشة رضي الله عنها في ترجمتها المباركة، ثم بعد ذلك ننهي هذا الموضوع ببيان دلالة الآيات على منزلة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وأنه هو أفضل هذه الأمة بعد نبيها على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.

موقف سعد بن معاذ من استعذار النبي

تقدم معنا في أول الحديث ما يتعلق بحادثة الإفك، وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام استشار بعد ذلك علياً رضي الله عنه وأسامة بن زيد وبريرة رضي الله عنهم أجمعين، وكل واحدٍ قال ما يعلمه من طهارة أمنا رضي الله عنها وأرضاها، وهي ذهبٌ خالص، ولا يعلمون عنها إلا ما يعلمه الصائغ من تبر الذهب الأحمر، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك وهو على المنبر: (من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي)؟ ومن الرواة من قال: (في أهل بيته، فو الله ما علمت على أهل بيتي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً)، ومعنى هذه الجملة المباركة من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام: (من يعذرني)؟ يعني: من يقوم بعذري ويوافقني ويرى أنني على الصواب إذا عاقبت من تكلم على أهلي فلا أعلم عليهم إلا خيراً، ولا أعلم أيضاً على من اتهم مع أمنا عائشة رضي الله عنها -وهو صفوان بن المعطل - إلا خيراً، أي: لا يوجد شيءٌ من الريبة حول أحد هذين، فإذا عاقبت من تكلم على أهلي، وخاض في عرضي، من يقوم بعذري، من يوافقني؟ فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل سيد قبيلة الأوس من الأنصار الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين، فقال ونعم ما قال: يا رسول! أنا والله أعذرك منه، وإنما قال هذا لأنه رئيس قبيلةٍ، وقبيلته توافقه على ذلك، ومن بركة هذا العبد الصالح أن قومه كلهم آمنوا بنبينا عليه الصلاة والسلام ودخلوا في الإسلام بعد أن دخل، فبعد أن أسلم على يدي العبد الصالح مصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين جاء إلى قومه وقال: أي رجلٍ أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا وإمامنا وقائدنا، ولا نقطع أمراً دونك، قال: فإن كلامكم علي حرام؛ رجالكم ونساؤكم، لا أكلم أحداً حتى تدخلوا في الإسلام، وتؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فما أمسى المساء إلا وقد آمن جميع الأوس الذين يرأسهم هذا العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.

قال سعد : أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه مباشرة، ولا داعي أن تأمرنا بضرب عنقه، نحن نوافقك على عقوبته، فإن كان من تكلم في الإفك من قبيلتنا ضربنا عنقه واسترحنا منه، وإن كان -انظر إلى أدبه ورقة عبارته ولطف كلامه- من إخواننا من الخزرج، أي: ممن ينتسب إليهم وهو معهم وعداده فيهم، و(من) هنا بيانية كما أنها في الأولى تبعيضية، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، إن كان من تلك القبيلة فلا نضرب الرقبة، ولا نقطع اللسان، بل ننتظر أمرك.

اعتراض سعد بن عبادة على سعد بن معاذ

فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه وعن سعد بن معاذ وعن الصحابة أجمعين، وكان سعد بن عبادة سيد الخزرج، ولذلك تقول أمنا عائشة : وهو سيد الخزرج، كما أن سعد بن معاذ سيد الأوس، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وحسان ممن خاض في الإفك، وهو من قبيلة الخزرج، وكان قبل ذلك -يعني سعد بن عبادة - رجلاً صالحاً، وتقصد أمنا عائشة رضي الله عنها، أي: كان كامل الصلاح، ما يتلبس بشيءٍ من خصال الجاهلية، لكن في هذه الحادثة زلّ واتصف بشائبة من شوائب الجاهلية، وليس من شرط الصالح ألا يخطئ كما سيأتينا، ولكن اشتملته الحمية، ومن الرواة الأربعة الذين رووا عن أمنا عائشة من قال: اجتهلته بالحمية، أي: حملته على الزهو، وهو افتعال من الجهل، حملته على الجهل، وأن يقول هو ما لا يرضاه لو كان في حلمه ورزانته وعقله وصوابه، فقال سعد بن عبادة لـسعد بن معاذ : كذبت، لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ؛ لأنه من الأوس، فقال لـسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، الصحابة الثلاثة كلهم من الأنصار الأخيار الأبرار.

شذرات من فضائل ومواقف سعد بن عبادة وذكر وفاته

أما سعد بن عبادة فهو سيد الخزرج، وهو نقيبٌ من النقباء الذين حضروا بيعة العقبة، وصار مسئولاً عن قبيلته رضي الله عنهم أجمعين، وله في الإسلام مقامٌ محمود يثيبه عليه ربنا المعبود.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث في المستدرك مع أنه في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم أبي سفيان ، أي: للمعركة يوم بدر، وأنهم جاءوا للقتال بعد أن أفلتت العير شاور الناس حين بلغه قدوم أبي سفيان ، فقال: ماذا تقولون؟ فقام أبو بكر رضي الله عنه فتكلم وأحسن، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اجلس، وقام عمر فتكلم وأحسن، فقال: اجلس، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يأخذ رأي المهاجرين، فالمهاجرون أمرهم مفروغ منه، أرواحهم في أكفهم، في فداء النبي عليه الصلاة والسلام، وما خرجوا من بلادهم إلا من أجل هذا الأمر، أما الأنصار فقد كانت البيعة بينهم وبين نبينا المختار عليه الصلاة والسلام أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم ونساءهم وأولادهم إذا جاء إليهم إلى المدينة، فما دام في المدينة فإنهم ينصرونه، أما إذا خرج فهذا ما لم يتم الاتفاق عليه، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يتحقق من موقف الأنصار إذا خرجوا من المدينة، والموقعة في بدر، وبينه وبين المدينة مائة وخمسون كيلو متراً، فهل ستنصرون نبيكم عليه الصلاة والسلام أو تقولون: النصرة واجبة، لكن ليس بيننا وبينه اتفاق، فإذا رجعت إلى المدينة نصرناك، وأما خارج المدينة فأنت وأصحابك تدبرون أنفسكم، فقال: أشيروا علي، فقام سعد بن عبادة ، وسيأتينا أن سعد بن معاذ أيضاً قام، لكن هنا كما في صحيح مسلم قام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، يعني: المراكب التي يركبها من خيول وإبل، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها وأن نحركها للسير كحال الراكب عندما يريد أن يحرك خيله للسير يضرب برجله على كبدها لتنطلق، لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغِماد بكسر الغين وضمها لضربناها، وبرك الغِماد، أمر الغُماد: مكانٌ وراء مكة، يبعد مسيرة خمسة ليال في ناحية البحر وجهة البحر، يقال له: برك الغِماد الغُماد، وقيل: هو أقاصي هجر، فأنت إذا أمرتنا أن نسير بخيلنا إلى ذلك المكان سرنا، وإذا أردت أن نخيضها البحر أخضناها، ففرح النبي عليه الصلاة والسلام بكلام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج.

وقد أخذته الحمية حمية الجاهلية في هذا الموطن، وليس من شأن الصديق والصالح ألا يخطئ، أخطأ قطعاً وجزماً، كما أخطأ في بيعة أبي بكر رضي الله عنه فلم يبايع، لما اجتمع الأنصار رضي الله عنهم أجمعين وأرادوا أن يبايعوه في سقيفة بني ساعدة، ثم جاء بعد ذلك عمر وأبو بكر وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين، وتمت البيعة لـأبي بكر بناءً على الأدلة الشرعية التي ذكرت، أيضاً أخذته ما يأخذ الإنسان أحياناً من اعتباراتٍ أرضية، فامتنع عن البيعة، ومات رضي الله عنه وأرضاه في خلافة عمر على المعتمد في سنة خمسة عشرة للهجرة في بلاد حوران من بلاد الشام، وقيل: إنه ذهب مبتعداً بسبب ما حصل من الأوضاع، وكونه لم يبايع، يعني: لا بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، ولا بعد موت أبي بكر ، فترك المدينة المنورة وذهب إلى ذلك المكان ومات، وسبب موته أنه بال في جحرٍ كما في طبقات ابن سعد ، فاخضر جلده ومات من ساعته، وقال: إنني أشعر كأنه نمل يسري في جسدي. ولذلك نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نبول في الجحور، وأمرنا إذا ذهبنا للحشوش وقضاء الحاجات أن نقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، وتقدم معنا هذا في الباب الرابع من أبواب الطهارة ما يقوله إذا دخل الخلاء، وعند روايات الحديث ذكرت حديث زيد بن أرقم وهو في المسند والسنن الأربع إلا سنن الترمذي ، ورواه ابن حبان أيضاً وابن خزيمة والحاكم في المستدرك، ورواه البغوي في شرح السنة، وهكذا الإمام النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، وأبو داود الطيالسي وهو صحيح، ولفظ الحديث من رواية زيد بن أرقم عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، من ذكران الشياطين وإناثهم)، ولما قتل سعد بن عبادة ومات من أثر بوله في الجحر، ما علم أهل المدينة بموته إلا بإنشاد الجن، فكانوا يسمعون الجن تنشد في المدينة دون أن يروا من ينشد ولم يروا شخصه، وكانت الجن تقول:

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده

هذا بعد أن قتل في بلاد حوراء من بلاد الشام، سنة خمس عشرة للهجرة رحمه الله ورضي الله عنه، وله مقامات مشهورة، تقدم معنا في ترجمة أمنا عائشة وزواج نبينا عليه الصلاة والسلام بها، لو ما عملت وليمةً ولا طعاماً عليها حتى جاءت قصعة وصحفة جفنة سعد بن عبادة ، وكان يرسل كل ليلةٍ إلى نبينا عليه الصلاة والسلام بقصعة طعام تدور معه حيثما دار، رضي الله عنه وأرضاه، وكما قلت: ليس من شرط الصالح ألا يخطئ، يغفر له الله زلـله، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، لكن هذا الزلل إذا قيس بما له من حسن العمل فهو كقطرة في بحرٍ لجي.

شذرات من فضائل سعد بن معاذ

أما سعد بن معاذ فهو وإن كان أصغر منه سناً فهو أجل منه قدراً، ومواقفه في الإسلام مشهورة مبرورة، وثبت له من الفضائل ما لم يثبت لكثيرٍ من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

توفي وعمره دون الأربعين، كان عمره عندما استشهد رضي الله عنه من أثر الضربة التي أصابته في موقعة الخندق، كان عمره سبعاً وثلاثين سنة، وهو سيد قومه في هذا السن، لكن عنده عقلٌ يسع الدنيا بما فيها، يقول أئمتنا: مقاماته في الإسلام مشهودة كبيرة، ولو لم يكن له إلا يوم بدر لكفى به فخراً، دع ما سواه، وهذا كلام الإمام ابن الأثير في أسد الغابة، والقصة التي سيذكرها مرويةٌ أيضاً في كتب السير، كسيرة ابن هشام ومغازي ابن إسحاق وغيره، وما حصل له أيضاً يوم بدر فقد أشار بما أشار به سعد بن عبادة ، والمعتمد أن سعد بن عبادة حضر موقعة بدر كما قرر ذلك الإمام البخاري وابن منده ، وإن كان بعضهم قال: إنه ما شهدها، والحديث الذي تقدم معنا في صحيح مسلم وغيره يقرر ذلك والعلم عند الله، وأما سعد بن معاذ فحضرها بلا خلاف.

وبعد أن قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فقام المقداد بن عمرو وهو من المهاجرين فتكلم وأحسن، وقام أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين وهم من المهاجرين فتكلموا وأحسنوا، قال: (أشيروا عليّ أيها الناس، فقام سعد بن معاذ ، فقال: يا رسول الله! كأنك تريدنا)، تريد الأنصار أن يتكلموا، ما يحق لنا أن نتكلم بحضور المهاجرين، يعني هم سبقونا إلى الإسلام فكلامهم كلامٌ عنا ونحن تبع لهم، كأنك تريدنا؟ قال: أجل، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه: (يا رسول الله! قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنك رسول الله، وأن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض لما أمرك الله، فلو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصدقٌ عند اللقاء، صبرٌ عند الحرب، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فتهلل وجه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أبشروا! إن الله وعدني إحدى الحسنيين: العير أو النصر)، وقد جمع الله له الغنائم والنصر في موقعة بدر على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.

هذا العبد الصالح له مقامات في الإسلام مشهورةٌ عظيمة، وقد كوفئ عليها، وعندما مات اهتز عرش الرحمن لموته فرحاً وطرباً بقدومه؛ لأنه سيعرج بروحه إلى الملأ الأعلى، إلى رب العالمين وأرحم الراحمين، وحديث اهتزاز العرش لموت سعد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله وغيره رضي الله عنهم أجمعين، قال الإمام الذهبي في كتاب العلو صفحة واحد وسبعين بعد أن ذكر طرقه من رواية جابر وغيره: هذا خبرٌ متواتر، أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.

وثبت في الصحيحين وسنن الترمذي وغيرهما من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (لما أهدي للنبي عليه الصلاة والسلام جبةٌ من حرير لينة الملمس ناعمةٌ حسنة، فبدأ الصحابة يتعجبون من لينها ومن جمالها ومن حسنها ويمسكونها، فقال عليه الصلاة والسلام: مناديل سعد في الجنة خيرٌ من هذا وألين وأحسن).

وثبت في سنن النسائي وغيره بإسنادٍ صحيح من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فتحت أبواب السماء لـسعد عند موته، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة)، ولذلك ما حمل الصحابة جنازةً أخف من جنازة سعد ، وكان رضي الله عنه وأرضاه بديناً سميناً في حياته، فلما حمل كأنهم كانوا يحملون نعشاً لا جسد فيه؛ لأن الملائكة الكرام كانت تحمله رضي الله عنه وأرضاه.

سعد بن معاذ له مواقف مشهورة، وهو أعلى من سعد بن عبادة ، وكلٌ منهما صحابيٌ مبارك، وقد أعز الله الإسلام بهما، ولما حصلت موقعة العقبة، ثم أسلم بعد ذلك سعد بن معاذ ، أنشد الجن في مكة وسمع المشركون هذا:

فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ بمكة لا يخشى خلاف المخالف

أي: إذا أسلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فالنبي عليه الصلاة والسلام في مأمن وحصن حصين لا يخشى من خلاف المخالف، ومن عداوة المعادي، فصار معه الأوس والخزرج رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم أنصار الإسلام وكتيبة الإيمان، لكن مواقف سعد بن معاذ أقوى من مواقف سعد بن عبادة رضي الله عنهم أجمعين، سعد بن معاذ لما قال النبي عليه الصلاة والسلام ما قال، قال كلمة حق: أنا أعذرك، إن كان المتكلم على أهلك من الأوس ضربنا رقبته واسترحنا، وإن كان من إخواننا الخزرج مرنا فيه بما شئت، نحن طوع بنانك، وأفعالنا متوقفة على حركة لسانك عليه صلوات الله وسلامه.

سعد بن عبادة أخذته حمية الجاهلية وزل فيترضى عنه ويستغفر له، ولا نتكلم بأكثر من هذا، فقام وقال: كذبت لعمر الله ما تقتله، ولا تقدر على ذلك.

تقدم معنا في أول الحديث ما يتعلق بحادثة الإفك، وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام استشار بعد ذلك علياً رضي الله عنه وأسامة بن زيد وبريرة رضي الله عنهم أجمعين، وكل واحدٍ قال ما يعلمه من طهارة أمنا رضي الله عنها وأرضاها، وهي ذهبٌ خالص، ولا يعلمون عنها إلا ما يعلمه الصائغ من تبر الذهب الأحمر، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك وهو على المنبر: (من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي)؟ ومن الرواة من قال: (في أهل بيته، فو الله ما علمت على أهل بيتي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً)، ومعنى هذه الجملة المباركة من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام: (من يعذرني)؟ يعني: من يقوم بعذري ويوافقني ويرى أنني على الصواب إذا عاقبت من تكلم على أهلي فلا أعلم عليهم إلا خيراً، ولا أعلم أيضاً على من اتهم مع أمنا عائشة رضي الله عنها -وهو صفوان بن المعطل - إلا خيراً، أي: لا يوجد شيءٌ من الريبة حول أحد هذين، فإذا عاقبت من تكلم على أهلي، وخاض في عرضي، من يقوم بعذري، من يوافقني؟ فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل سيد قبيلة الأوس من الأنصار الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين، فقال ونعم ما قال: يا رسول! أنا والله أعذرك منه، وإنما قال هذا لأنه رئيس قبيلةٍ، وقبيلته توافقه على ذلك، ومن بركة هذا العبد الصالح أن قومه كلهم آمنوا بنبينا عليه الصلاة والسلام ودخلوا في الإسلام بعد أن دخل، فبعد أن أسلم على يدي العبد الصالح مصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين جاء إلى قومه وقال: أي رجلٍ أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا وإمامنا وقائدنا، ولا نقطع أمراً دونك، قال: فإن كلامكم علي حرام؛ رجالكم ونساؤكم، لا أكلم أحداً حتى تدخلوا في الإسلام، وتؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فما أمسى المساء إلا وقد آمن جميع الأوس الذين يرأسهم هذا العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.

قال سعد : أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه مباشرة، ولا داعي أن تأمرنا بضرب عنقه، نحن نوافقك على عقوبته، فإن كان من تكلم في الإفك من قبيلتنا ضربنا عنقه واسترحنا منه، وإن كان -انظر إلى أدبه ورقة عبارته ولطف كلامه- من إخواننا من الخزرج، أي: ممن ينتسب إليهم وهو معهم وعداده فيهم، و(من) هنا بيانية كما أنها في الأولى تبعيضية، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، إن كان من تلك القبيلة فلا نضرب الرقبة، ولا نقطع اللسان، بل ننتظر أمرك.

فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه وعن سعد بن معاذ وعن الصحابة أجمعين، وكان سعد بن عبادة سيد الخزرج، ولذلك تقول أمنا عائشة : وهو سيد الخزرج، كما أن سعد بن معاذ سيد الأوس، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وحسان ممن خاض في الإفك، وهو من قبيلة الخزرج، وكان قبل ذلك -يعني سعد بن عبادة - رجلاً صالحاً، وتقصد أمنا عائشة رضي الله عنها، أي: كان كامل الصلاح، ما يتلبس بشيءٍ من خصال الجاهلية، لكن في هذه الحادثة زلّ واتصف بشائبة من شوائب الجاهلية، وليس من شرط الصالح ألا يخطئ كما سيأتينا، ولكن اشتملته الحمية، ومن الرواة الأربعة الذين رووا عن أمنا عائشة من قال: اجتهلته بالحمية، أي: حملته على الزهو، وهو افتعال من الجهل، حملته على الجهل، وأن يقول هو ما لا يرضاه لو كان في حلمه ورزانته وعقله وصوابه، فقال سعد بن عبادة لـسعد بن معاذ : كذبت، لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ؛ لأنه من الأوس، فقال لـسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، الصحابة الثلاثة كلهم من الأنصار الأخيار الأبرار.

أما سعد بن عبادة فهو سيد الخزرج، وهو نقيبٌ من النقباء الذين حضروا بيعة العقبة، وصار مسئولاً عن قبيلته رضي الله عنهم أجمعين، وله في الإسلام مقامٌ محمود يثيبه عليه ربنا المعبود.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث في المستدرك مع أنه في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم أبي سفيان ، أي: للمعركة يوم بدر، وأنهم جاءوا للقتال بعد أن أفلتت العير شاور الناس حين بلغه قدوم أبي سفيان ، فقال: ماذا تقولون؟ فقام أبو بكر رضي الله عنه فتكلم وأحسن، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اجلس، وقام عمر فتكلم وأحسن، فقال: اجلس، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يأخذ رأي المهاجرين، فالمهاجرون أمرهم مفروغ منه، أرواحهم في أكفهم، في فداء النبي عليه الصلاة والسلام، وما خرجوا من بلادهم إلا من أجل هذا الأمر، أما الأنصار فقد كانت البيعة بينهم وبين نبينا المختار عليه الصلاة والسلام أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم ونساءهم وأولادهم إذا جاء إليهم إلى المدينة، فما دام في المدينة فإنهم ينصرونه، أما إذا خرج فهذا ما لم يتم الاتفاق عليه، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يتحقق من موقف الأنصار إذا خرجوا من المدينة، والموقعة في بدر، وبينه وبين المدينة مائة وخمسون كيلو متراً، فهل ستنصرون نبيكم عليه الصلاة والسلام أو تقولون: النصرة واجبة، لكن ليس بيننا وبينه اتفاق، فإذا رجعت إلى المدينة نصرناك، وأما خارج المدينة فأنت وأصحابك تدبرون أنفسكم، فقال: أشيروا علي، فقام سعد بن عبادة ، وسيأتينا أن سعد بن معاذ أيضاً قام، لكن هنا كما في صحيح مسلم قام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، يعني: المراكب التي يركبها من خيول وإبل، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها وأن نحركها للسير كحال الراكب عندما يريد أن يحرك خيله للسير يضرب برجله على كبدها لتنطلق، لو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغِماد بكسر الغين وضمها لضربناها، وبرك الغِماد، أمر الغُماد: مكانٌ وراء مكة، يبعد مسيرة خمسة ليال في ناحية البحر وجهة البحر، يقال له: برك الغِماد الغُماد، وقيل: هو أقاصي هجر، فأنت إذا أمرتنا أن نسير بخيلنا إلى ذلك المكان سرنا، وإذا أردت أن نخيضها البحر أخضناها، ففرح النبي عليه الصلاة والسلام بكلام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج.

وقد أخذته الحمية حمية الجاهلية في هذا الموطن، وليس من شأن الصديق والصالح ألا يخطئ، أخطأ قطعاً وجزماً، كما أخطأ في بيعة أبي بكر رضي الله عنه فلم يبايع، لما اجتمع الأنصار رضي الله عنهم أجمعين وأرادوا أن يبايعوه في سقيفة بني ساعدة، ثم جاء بعد ذلك عمر وأبو بكر وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين، وتمت البيعة لـأبي بكر بناءً على الأدلة الشرعية التي ذكرت، أيضاً أخذته ما يأخذ الإنسان أحياناً من اعتباراتٍ أرضية، فامتنع عن البيعة، ومات رضي الله عنه وأرضاه في خلافة عمر على المعتمد في سنة خمسة عشرة للهجرة في بلاد حوران من بلاد الشام، وقيل: إنه ذهب مبتعداً بسبب ما حصل من الأوضاع، وكونه لم يبايع، يعني: لا بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، ولا بعد موت أبي بكر ، فترك المدينة المنورة وذهب إلى ذلك المكان ومات، وسبب موته أنه بال في جحرٍ كما في طبقات ابن سعد ، فاخضر جلده ومات من ساعته، وقال: إنني أشعر كأنه نمل يسري في جسدي. ولذلك نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نبول في الجحور، وأمرنا إذا ذهبنا للحشوش وقضاء الحاجات أن نقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، وتقدم معنا هذا في الباب الرابع من أبواب الطهارة ما يقوله إذا دخل الخلاء، وعند روايات الحديث ذكرت حديث زيد بن أرقم وهو في المسند والسنن الأربع إلا سنن الترمذي ، ورواه ابن حبان أيضاً وابن خزيمة والحاكم في المستدرك، ورواه البغوي في شرح السنة، وهكذا الإمام النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، وأبو داود الطيالسي وهو صحيح، ولفظ الحديث من رواية زيد بن أرقم عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، من ذكران الشياطين وإناثهم)، ولما قتل سعد بن عبادة ومات من أثر بوله في الجحر، ما علم أهل المدينة بموته إلا بإنشاد الجن، فكانوا يسمعون الجن تنشد في المدينة دون أن يروا من ينشد ولم يروا شخصه، وكانت الجن تقول:

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده

هذا بعد أن قتل في بلاد حوراء من بلاد الشام، سنة خمس عشرة للهجرة رحمه الله ورضي الله عنه، وله مقامات مشهورة، تقدم معنا في ترجمة أمنا عائشة وزواج نبينا عليه الصلاة والسلام بها، لو ما عملت وليمةً ولا طعاماً عليها حتى جاءت قصعة وصحفة جفنة سعد بن عبادة ، وكان يرسل كل ليلةٍ إلى نبينا عليه الصلاة والسلام بقصعة طعام تدور معه حيثما دار، رضي الله عنه وأرضاه، وكما قلت: ليس من شرط الصالح ألا يخطئ، يغفر له الله زلـله، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، لكن هذا الزلل إذا قيس بما له من حسن العمل فهو كقطرة في بحرٍ لجي.

أما سعد بن معاذ فهو وإن كان أصغر منه سناً فهو أجل منه قدراً، ومواقفه في الإسلام مشهورة مبرورة، وثبت له من الفضائل ما لم يثبت لكثيرٍ من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

توفي وعمره دون الأربعين، كان عمره عندما استشهد رضي الله عنه من أثر الضربة التي أصابته في موقعة الخندق، كان عمره سبعاً وثلاثين سنة، وهو سيد قومه في هذا السن، لكن عنده عقلٌ يسع الدنيا بما فيها، يقول أئمتنا: مقاماته في الإسلام مشهودة كبيرة، ولو لم يكن له إلا يوم بدر لكفى به فخراً، دع ما سواه، وهذا كلام الإمام ابن الأثير في أسد الغابة، والقصة التي سيذكرها مرويةٌ أيضاً في كتب السير، كسيرة ابن هشام ومغازي ابن إسحاق وغيره، وما حصل له أيضاً يوم بدر فقد أشار بما أشار به سعد بن عبادة ، والمعتمد أن سعد بن عبادة حضر موقعة بدر كما قرر ذلك الإمام البخاري وابن منده ، وإن كان بعضهم قال: إنه ما شهدها، والحديث الذي تقدم معنا في صحيح مسلم وغيره يقرر ذلك والعلم عند الله، وأما سعد بن معاذ فحضرها بلا خلاف.

وبعد أن قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فقام المقداد بن عمرو وهو من المهاجرين فتكلم وأحسن، وقام أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين وهم من المهاجرين فتكلموا وأحسنوا، قال: (أشيروا عليّ أيها الناس، فقام سعد بن معاذ ، فقال: يا رسول الله! كأنك تريدنا)، تريد الأنصار أن يتكلموا، ما يحق لنا أن نتكلم بحضور المهاجرين، يعني هم سبقونا إلى الإسلام فكلامهم كلامٌ عنا ونحن تبع لهم، كأنك تريدنا؟ قال: أجل، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه: (يا رسول الله! قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنك رسول الله، وأن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض لما أمرك الله، فلو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصدقٌ عند اللقاء، صبرٌ عند الحرب، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. فتهلل وجه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أبشروا! إن الله وعدني إحدى الحسنيين: العير أو النصر)، وقد جمع الله له الغنائم والنصر في موقعة بدر على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.

هذا العبد الصالح له مقامات في الإسلام مشهورةٌ عظيمة، وقد كوفئ عليها، وعندما مات اهتز عرش الرحمن لموته فرحاً وطرباً بقدومه؛ لأنه سيعرج بروحه إلى الملأ الأعلى، إلى رب العالمين وأرحم الراحمين، وحديث اهتزاز العرش لموت سعد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله وغيره رضي الله عنهم أجمعين، قال الإمام الذهبي في كتاب العلو صفحة واحد وسبعين بعد أن ذكر طرقه من رواية جابر وغيره: هذا خبرٌ متواتر، أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.

وثبت في الصحيحين وسنن الترمذي وغيرهما من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (لما أهدي للنبي عليه الصلاة والسلام جبةٌ من حرير لينة الملمس ناعمةٌ حسنة، فبدأ الصحابة يتعجبون من لينها ومن جمالها ومن حسنها ويمسكونها، فقال عليه الصلاة والسلام: مناديل سعد في الجنة خيرٌ من هذا وألين وأحسن).

وثبت في سنن النسائي وغيره بإسنادٍ صحيح من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فتحت أبواب السماء لـسعد عند موته، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة)، ولذلك ما حمل الصحابة جنازةً أخف من جنازة سعد ، وكان رضي الله عنه وأرضاه بديناً سميناً في حياته، فلما حمل كأنهم كانوا يحملون نعشاً لا جسد فيه؛ لأن الملائكة الكرام كانت تحمله رضي الله عنه وأرضاه.

سعد بن معاذ له مواقف مشهورة، وهو أعلى من سعد بن عبادة ، وكلٌ منهما صحابيٌ مبارك، وقد أعز الله الإسلام بهما، ولما حصلت موقعة العقبة، ثم أسلم بعد ذلك سعد بن معاذ ، أنشد الجن في مكة وسمع المشركون هذا:

فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ بمكة لا يخشى خلاف المخالف

أي: إذا أسلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فالنبي عليه الصلاة والسلام في مأمن وحصن حصين لا يخشى من خلاف المخالف، ومن عداوة المعادي، فصار معه الأوس والخزرج رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم أنصار الإسلام وكتيبة الإيمان، لكن مواقف سعد بن معاذ أقوى من مواقف سعد بن عبادة رضي الله عنهم أجمعين، سعد بن معاذ لما قال النبي عليه الصلاة والسلام ما قال، قال كلمة حق: أنا أعذرك، إن كان المتكلم على أهلك من الأوس ضربنا رقبته واسترحنا، وإن كان من إخواننا الخزرج مرنا فيه بما شئت، نحن طوع بنانك، وأفعالنا متوقفة على حركة لسانك عليه صلوات الله وسلامه.

سعد بن عبادة أخذته حمية الجاهلية وزل فيترضى عنه ويستغفر له، ولا نتكلم بأكثر من هذا، فقام وقال: كذبت لعمر الله ما تقتله، ولا تقدر على ذلك.

إخوتي الكرام! ما جرى من سعد بن معاذ رضي الله عنه استشكله كثيرٌ من أئمتنا، ووجه الاستشكال: أنه استشهد بعد موقعة الخندق، وموقعة الخندق كانت في العام الرابع للهجرة، وغزوة بني المصطلق المريسيع في العام الخامس، وقيل: في السادس، والذي رجحه ابن إسحاق أنها في العام الخامس من الهجرة كما تقدم معنا سابقاً.

إذاً موقعة الخندق كانت قبل، وسعد بن معاذ توفي بعد موقعة الخندق عندما حكم في بني قريظة بحكم الله من فوق سبع سموات، وانفجر بعد ذلك جرحه الذي أصيب به في أكحله، وهو عرق في وسط الساعد، ولما حسم انتفخت يده فانبعث الدم، فكان في ذلك وفاته رضي الله عنه وأرضاه بعد أن أشفى غليله من أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، وهم بنو قريظة، وحكم فيهم بما يرضي الله ويرضي رسوله عليه صلوات الله وسلامه.

فـسعد بن معاذ إذا كان مات بعد موقعة الخندق فكيف شهد هذه الموقعة وقال ما قال؟! استشكل هذا كثيرٌ من أئمتنا وقالوا: ذكر سعد بن معاذ غلط في الرواية، إنما هو أسيد بن حضير الذي ورد أنه دافع عن سعد بن معاذ ، لكن هو في الحقيقة دافع عن نفسه، قال في أول الأمر: ثم رد على سعد بن عبادة ، وهذا الجواب لا يسلم له، وتغليط الرواة من غير دليلٍ واضح بيِّن غير مقبول.

فإن قيل: هذا دليلٌ واضح، قيل: ذهب أئمتنا في توجيه ما ذكرته من إشكال إلى جوابين معتمدين، فقالوا: المعتمد أن موقعة الخندق كانت في العام الخامس ولم تكن في العام الرابع، وأن غزوة بني المصطلق المريسيع كانت في العام الخامس أيضاً، ثم اختلفوا على قولين ووجهوا هذا الإشكال على حسب هذين القولين، فقيل: إن غزوة بني المصطلق المريسيع كانت قبل موقعة الخندق، فإذا كان كذلك فلا إشكال؛ لأنهما في عامٍ واحد، فـسعد بن معاذ كان حياً، وقال ما قال، ثم شهد موقعة الخندق، لكن يعكر على هذا ما ثبت في الصحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما شهد غزوة بني المصطلق غزوة المريسيع، وثبت عنه أنه قال: أول مشاهده موقعة الخندق، مما يدل على أن غزوة المريسيع بعد الخندق، قال أئمتنا: هذا الإشكال لا يرد أيضاً أبداً؛ لأن أول مشاهد ابن عمر التي أجيز فيها الخندق، ولا يمنع أن يشهد غزوةً أخرى لم يجز فيها، كأن يتطوع في الذهاب كما حصل من أنس رضي الله عنه فهو بدري ولم يسم من أهل بدر؛ لأن عمره دون سن الرجال، وأنس لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة كان عمره عشر سنين، وموقعة بدر في العام الثاني للهجرة، فعمره حينها اثنتا عشرة سنة، ما أجيز، لكن ذهب للخدمة فقط، فصار حاله كحال النساء لا يحضرن للقتال إنما يحضرن من أجل خدمة الجيش الذي يقاتل، ولذلك لم يذكر ضمن من حضر بدراً، ولعل ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين حضر المريسيع دون إجازةٍ من النبي عليه الصلاة والسلام، فما حضر ليقاتل، إنما ذهب ليصحب الجيش وليساعد أباه ويخدمه، والعلم عند الله جل وعلا، المقصود أنه لا إشكال في حضوره وإخباره بعد ذلك أن أول مشاهده الخندق؛ لأن تلك أجيز فيها رسمياً، وأما هذه فذهب فيها متطوعاً دون أن يبلغ، هذا الجواب الأول، وهذا الذي مال إليه جمٌ غفيرٌ من أئمتنا.

والجواب الثاني مقبولٌ أيضاً، فقالوا: إما موقعة الخندق جرت قبل غزوة المريسيع بني المصطلق، ثم تلتها غزوة المريسيع، وسعد بن معاذ حضر غزوة الخندق، وأصيب كما قلنا بضربةٍ بسهمٍ في أكحله، ووضع في المسجد ليداوى فامتد علاجه، وذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى غزوة المريسيع بني المصطلق وعاد ولا زال سعد بن معاذ في المسجد يعالج ويطبب، ونصبت له خيمة وقبة وهو فيها، فلما عاد النبي عليه الصلاة والسلام وجرى من المنافقين ما جرى نحو الإفك رقى النبي عليه الصلاة والسلام المنبر واستشار الناس، وسعد بن معاذ كان حاضراً، وإن لم يشهد غزوة المريسيع، لكن شهد مشورة النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في أمر الإفك فقال ما قال رضي الله عنه وأرضاه.

هذان الجوابان هما اللذان حققهما أئمة الإسلام: كشيخ الإسلام الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في المجلد الثاني عشر صفحة عشرٍ ومائة، وهكذا الإمام ابن حجر في فتح الباري في الجزء الثامن صفحة واحد وسبعين وأربعمائة فما بعدها، ولذلك فـسعد بن معاذ تثبت له هذه المنقبة، ولا داعي لأن نقول: هذا وهمٌ من الرواة بتسميته، وأنه أسيد بن حضير ، فـسعد بن معاذ أعطى رأيه، فرد عليه سعد بن عبادة ، فدافع عن سعد بن معاذ وعن الحق أسيد بن حضير كما سيأتينا.

اعتراض أسيد بن حضير على سعد بن عبادة وذكر شيء من فضائله

قام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لـسعد بن عبادة : كذبت، لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين.

أسيد بن حضير -وهو من الصحابة الكرام الأبرار، وله مواقف مشهودة في الإسلام أيضاً- قد ثبت في سنن الترمذي بسندٍ حسن، ومستدرك الحاكم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والحديث صححه الحاكم وقال: على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نعم الرجل أسيد بن حضير ).

وثبت في صحيح البخاري وغيره: نزول الملائكة عند قراءة أسيد بن حضير ، ويقال: كان أجود الصحابة صوتاً بقراءة القرآن، وهو أيضاً من النقباء كـسعد بن عبادة ، لكن توفي في خلافة عمر بعد سعد بن عبادة ، وبعد سعد بن معاذ سنة عشرين للهجرة، وقد حمل عمر بن الخطاب بنفسه جنازته، وصلى عليه في البقيع رضي الله عنهم أجمعين.

وقول أسيد بن حضير لـسعد بن عبادة : إنك منافق يحتمل أمرين كما قرر أئمتنا:

الأمر الأول: أن هذا من باب الزجر والترك، ليزجره بما يخلع قلبه، ولا يراد منه حقيقته، كما تقول للعاصي: إذا زنيت خرجت من الإيمان، ولا يكفر بالزنا، إنما تريد بذلك أن تزجره بلفظٍ ينزجر به، فإذا قلت له: إذا زنيت خرجت من الإيمان وكفرت بالرحمن، يقول: أعوذ بالله، كيف أزني؟! إذاً لا أزني، ولو قطعتم رقبتي ما دام أن الزنا يخرج من الإيمان، وهذا إحدى تأويلات خمسة قيلت في إطلاق لفظ الكفر ونفي الإيمان عن فاعل المعصية، من جملته أن هذا من باب الزجر والتغليظ.

والثاني: قيل: إن النفاق هنا لا يريد منه نفاق المعصية، وأنه منافقٌ في الإيمان، إنما يريد أن يقول: أنت تظهر مودة الأوس وأنت من الخزرج، وأظهرت لنا أن العداوات التي كانت بيننا قبل الإسلام زالت بالإسلام، ثم الآن بدأت تخفيها، فكأنك أظهرت خلاف ما قلته لنا، وهذا هو حال النفاق، أظهرت ما في مكنونك، وأنك تتحين مناسبة من أجل أن تعارض الأوس، وهذا هو شأن المنافق الذي يقول: أحبك وفي قلبه ليس كذلك، فإذا وجد فرصةً أظهر ما فيه، ولا يقصد أنه ليس من المؤمنين، إنما يريد أنت نحونا في هذه الخصلة لست بصادقٍ.

اختلاف الأوس والخزرج لاختلاف السعدين

فلما قال أسيد بن حضير لـسعد بن عبادة ما قال، والمنافقون حاضرون وهم الذين أحدثوا في السفر فتنة: يا للمهاجرين يا للأنصار! ثم لما وصل الجيش أشاعوا إشاعةً باطلةً منكرة، فاستغل المنافقون هذا، وكادت أن تنشب بعد ذلك معركة وفتنة بين الأوس والخزرج بواسطة إشاعة المنافقين، قالت أمنا عائشة : فتثاور الحيان، يعني: تخاصما، وكل واحدٍ يريد أن يثور على الآخر، حتى هموا أن يقتتلوا وهم في المسجد مع النبي عليه الصلاة والسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم كما خفضهم في الغزوة وفي الطريق وقال: (دعوها إنها منتنة، دعوها إنها خبيثة)، لم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3974 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3903 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3782 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3479 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3411 استماع