ديوان الإفتاء [299]


الحلقة مفرغة

بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأبدأ في حلقة هذه الليلة إن شاء الله بالحديث عن باب من أبواب كتاب الطهارة، وهو ما يتعلق بآداب قضاء الحاجة.

وفي مقدمة يسيرة أقول: إن نعم الله علينا تترى، وهي لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم نعمة الطعام، الذي يسره الله عز وجل لنا لنغذي به أبداننا، وقد امتن الله سبحانه وتعالى علينا بهذه النعمة فقال: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:24-32].

وامتن علينا جل جلاله بنعمة الماء، فقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70].

فهذا الطعام يسره الله عز وجل لنا وهدانا إلى كيفية إصلاحه والاستفادة منه، ثم بعد ذلك هدانا إلى كيفية تناوله والاستمتاع به، وعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم في طعامنا وشرابنا أحكاماً وآداباً، ثم بعد ذلك لما استحال هذا الطعام وذاك الشراب إلى فضلة مؤذية خبيثة، يسر الله عز وجل خروجها والتخلص منها بأسلوب سهل، فتعود للإنسان راحته وعافيته؛ ولذلك إذا قضى الإنسان حاجته فإنه يقول: ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )، أو يقول: ( الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه )، وأفضل من ذلك أن يقول: ( غفرانك ).

وقضاء الحاجة للإنسان لا بد أن يتذكر في تلك الحال نعمة الله عليه، وأن هذه الفضلة لو بقيت في جسده لأضرت به، ولعانى منها معاناة عظيمة، وكذلك من أجل أن يتجدد شكره لله عز وجل على نعمه.

ولذلك قال أهل الحديث: إن نبينا صلى الله عليه وسلم حين كان يقضي حاجته كان يقول: ( غفرانك )، فيستغفر الله عز وجل من أنه لا يستطيع أن يكافئ نعمه بما يجب لها من شكر.

وقال بعضهم: بل كان يقول: ( غفرانك )، أي: يستغفر الله عز وجل من تركه الذكر في تلك الحال.

عدم الدخول إلى الحمام بشيء فيه ذكر الله

ولقضاء الحاجة آداب وأحكام، ومن ذلك: أن الإنسان إذا كان معه شيء محترم فيه ذكر لله عز وجل، كـمصحف، أو كتاب علم، ونحو ذلك، فالمطلوب منه أن ينحيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عنده خاتم نقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد الخلاء طرحه، ولذلك الإنسان يتخلص من الشيء الذي فيه ذكر لله عز وجل.

أما لو دخل به ناسياً، أو جاهلاً، أو خائفاً عليه من الضياع، فالله غفور رحيم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

الابتعاد عند قضاء الحاجة وأخذ ما يستنجي به

ومن آداب قضاء الحاجة: التباعد وإعداد المزيل، فالإنسان يتباعد بحيث لا يسمع له صوت، ولا تشم له رائحة، وكذلك قبل أن يقضي حاجته يعد المزيل الذي سيقطع به أثر الخارج، سواء كان هذا المزيل يابساً منقياً، أو كان ماءً طهوراً، فلا بد أن يجهز هذا المزيل.

خلع الثياب قبل الدنو من الأرض والإتيان بالذكر المشروع في ذلك

ومن الآداب كذلك: ألا يخلع ثيابه قبل أن يدنو من الأرض؛ لئلا يكشف عورته بغير حاجة.

ومن الآداب: أن يأتي بالذكر المسنون، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أراد قضاء حاجته قال: ( بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، وفي لفظ ( من الخبث والخبائث )، أما على رواية ضم الباء، الخبُث، فالخبُث: جمع خبيث وهم ذكور الشياطين، والخبائث: جمع خبيثة أي: إناثهم. وأما على رواية الإسكان: الخبْث، فالمراد جنس الخبث، شيطاناً كان أو غيره، وهذه أعم من الأولى.

وقال صلى الله عليه وسلم: ( ستر ما بين عورة أحدكم وأعين الجن أن يقول: بسم الله الذي لا إله إلا هو ).

الدخول إلى الحمام بالرجل اليسرى

من الآداب التي تعلمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان يدخل إلى الخلاء برجله اليسرى، ويخرج بيمناه، بناءً على القاعدة أن التشريف يكون لليمين، أي: كل ما كان فيه تشريف فإننا نستعمل فيه أيماننا؛ ولذلك اليمنى نصافح بها إخواننا، ونعطي بها ونأخذ، ونأكل بها ونشرب، ونحمل بها كتاب الله وكتب العلم، أما الشمال فإنها تستعمل في الامتخاط، وفي الاستنثار، وتستعمل في الاستنجاء، وتحمل بها النعال، وما إلى ذلك.

واليمين ندخل بها المسجد، والشمال نخرج بها من المسجد، وإذا أراد الواحد منا أن يدخل إلى المرتفق أي: إلى بيت الخلاء أو الحمام، فإنه يدخل بيسراه، ويخرج بيمناه، وهذه كلها آداب تحول تلك العادات التي يشترك فيها الإنسان العاقل مع الحيوان البهيم إلى عبادات، فقضاء الحاجة يفعله المسلم والكافر، والبر والفاجر، والإنسان والحيوان، لكن المسلم إذا تقيد بهذه الآداب، فإنه يحولها إلى عبادة، كما لو أنه تقيد بالآداب الشرعية في الطعام والشراب، فإن طعامه وشرابه يتحول إلى عبادة.

كراهة الكلام داخل الحمام

أيضاً من الآداب التي تعلمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يتكلم أحدنا حال قضاء حاجته، يعني: الإنسان إذا كان في الحمام، فإنه لا يتكلم، ( فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخرج الرجلان إلى الغائط، كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك )، أي: يمقت على ذلك الفعل؛ ولذلك الإنسان العاقل ما يتكلم في أثناء قضاء الحاجة، وللأسف قد تجد بعض الناس ربما يغني وهو في الحمام، ولا شك أن هذا أمر منكر ينبغي أن يتناهى الناس عنه، اللهم إلا ما دعت إليه الضرورة، كما لو طلب مزيلاً، مثلاً: ما وجد ماءً، أو غلب على ظنه أن في الحمام ماءً، ثم تبين أنه لا ماء، فلو طلب ماءً أو يابساً منقياً، فمثل هذا مما تدعو إليه الضرورة.

البول جالساً

ومن الآداب التي تعلمناها من نبينا صلى الله عليه وسلم: أن يبول أحدنا جالساً، هذا هو الأصل في فعله صلى الله عليه وسلم، وقد قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ( من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا جالساً )، وثبت من حديث حذيفة رضي الله عنه: ( أنه صلى الله عليه وسلم مر على سباطة قوم فاستنكف أن يجلس فبال قائماً )، قال بعضهم: كان من وجع في مئبضه، أي: في باطن ركبته عليه الصلاة والسلام.

وقال بعضهم: لأن المكان ما كان دمثا، أي: ما كان مناسباً لجلوسه صلوات ربي وسلامه عليه.

ولذلك قال علماؤنا: الأصل أن يبول الإنسان جالساً، لكن لو أراد أن يبول قائماً أو اضطر إلى ذلك، فلا مانع بشرطين:

الشرط الأول: أن يأمن الناظر، وأنه لا أحد يراه.

والشرط الثاني: أن يأمن التلوث، بمعنى أن البول لن يرتد عليه رشاشه.

التنزه من فضلات النجاسة

ومن الآداب التي تعلمناها من نبينا صلى الله عليه وسلم: ألا يتعجل أحدنا القيام قبل أن يستفرغ ما في بطنه، وإنما يصبر إلى أن يتأكد من أن الشيء الذي فيه قد خرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه )، ومر صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: ( إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة بين الناس )، وفي لفظ: ( لا يستنزه من بوله ).

قال أهل العلم: يتحقق ذلك في عدة صور:

الصورة الأول: لا يستتر، بمعنى: أنه يكشف عورته أمام الناس، كصنيع السفهاء.

الصورة الثانية: أنه كان لا يتقي رشاش بوله.

الصورة الثالثة: أنه كان يتعجل القيام قبل أن يستفرغ ما في المخرج، فإذا لبس ثيابه فإن ما بقي في المخرج يرجع على بدنه وثيابه.

الصورة الرابعة: أنه كان لا يحسن الاستبراء من بوله، والاستنجاء من الغائط، فكان يلوث بدنه وثيابه، فهذا كله سبب لعذاب القبر.

الاستنجاء بالماء وغيره

ومن الآداب التي تعلمناها من رسولنا صلى الله عليه وسلم: أنه لا بد من قطع أثر الخارج، وأفضل شيء لذلك الماء؛ لأن الماء يذهب عين النجاسة ويذهب أثرها، وهو أطيب الطيب، ولولا الماء ما استطاع الناس أن يعيشوا، وما استطاعوا أن يخالط بعضهم بعضاً، فإن الله عز وجل جعل الماء شراباً، وجعله طهوراً نطهر به أبداننا، ونتخلص به من هذا النجاسات؛ ولذلك لو أن الإنسان جمع بين اليابس المنقي والماء فهو أفضل، ولو اقتصر على الماء فهذا عظيم جيدٌ، ولو اقتصر على اليابس المنقي، كما هو حال بعض الناس ممن ابتلي بالإقامة في ديار الغرب، فهناك حماماتهم ما فيها ماء، فيستغنون عنها بالأوراق -التواليت كما يسمونها- التي يضعونها في حماماتهم نقول: هذه أيضاً مجزئة إن شاء الله، وكل ما يذهب أثر النجاسة من يابس منق غير محترم، ولا عظم، ولا روث، فهو مجزئ إن شاء الله، وقولهم: غير محترم، أي: بورق فيه كلام باللغة العربية مثلاً، ولا تستنج بالعظم لأنه طعام إخواننا من الجن، ولا تستنج بالروث لأنه طعام دوابهم، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

حرمة الاستنجاء باليمين وكراهة المكث الطويل في الحمام

ومن الآداب التي تعلمناها: ألا نستنجي بأيماننا؛ لأن اليمين جعلت لكل مكرم، بل الإنسان يستعمل يسراه، وقد ( نهانا صلى الله عليه وسلم أن يمسك أحدنا ذكره بيمينه )، وأن نستنجي بالميامن، والمطلوب أن الإنسان يستنجي بالشمال، ويبدأ بقبله قبل دبره، ويبل يده بالماء قبل ملاقاة النجاسة؛ لئلا يشتد تعلقها بيده.

ومن الآداب التي علمنا إياها نبينا صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان إذا فرغ لا يطيل المكث، فإن ذلك المكان ليس بالمحل المستطاب، وإذا لبس ثيابه وخرج، يخرج بيمناه، ويدعو فيقول: ( غفرانك ).

هذه بعض آداب قضاء الحاجة التي تعلمناها من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأذكر بقول ربنا جل جلاله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، وبقول ربنا جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

موطن دعاء قضاء الحاجة

بقي أن أقول بأن الدعاء: ( بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، إذا كان المكان معداً لقضاء الحاجة، مثل الحمامات التي نستعملها الآن، فالإنسان يقول الدعاء حال الدخول، يعني: إذا أراد الدخول، أما إذا كان المكان غير معد لذلك، كما لو كان في الخلاء، يعني: يكون في طريق سفر في البر، فيحتاج لقضاء حاجته، فإذا نزل في الخلاء فإنه يقول الدعاء قبل أن يجلس على الأرض، يعني: إذا دخل حماماً فيقول الدعاء قبل الدخول، أما إذا لم يكن مكاناً معداً فإنه يقول الدعاء قبل أن يجلس على الأرض.

النهي عن البول في الشق والظل وقارعة الطريق

وقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم أن يبول أحدنا في الشق؛ لأنه قد يكون من مساكن الجن، فيتعرض الإنسان لأذىً من جراء ذلك.

وأيضاً نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبول في الظل، وفي قارعة الطريق، وفي موارد الماء، والظل، أي: الأماكن التي فيها ظل من الشجر ونحوه نهينا عن البول فيها، ونهينا عن البول في موارد الماء، ونهينا عن البول في قارعة الطريق، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم الملاعن الثلاثة؛ لأنها تستجلب اللعن، يقول الناس: لعن الله من فعل هذا، وهذا أصل في وجوب العناية بإصحاح البيئة، والحذر من أذية الناس.

أسأل الله عز وجل أن يعلمنا، وأن يطهرنا وأن يفقهنا، وأن يرزقنا العمل بما نعلم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

ولقضاء الحاجة آداب وأحكام، ومن ذلك: أن الإنسان إذا كان معه شيء محترم فيه ذكر لله عز وجل، كـمصحف، أو كتاب علم، ونحو ذلك، فالمطلوب منه أن ينحيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عنده خاتم نقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد الخلاء طرحه، ولذلك الإنسان يتخلص من الشيء الذي فيه ذكر لله عز وجل.

أما لو دخل به ناسياً، أو جاهلاً، أو خائفاً عليه من الضياع، فالله غفور رحيم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2819 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2645 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2529 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2525 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2499 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2472 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2460 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2439 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2402 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2400 استماع