حسن الخلق


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن الله تعالى شرف الإنسان بالخلق الذي يستطيع به التعامل مع غيره، وقد جعله الله شرفاً لمن أحسنه، واستطاع بذلك أن ينجح في التعامل مع الآخرين وكسب ودهم والتأثير عليهم؛ ولهذا أثنى الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:1-4].

وقد وصفت عائشة رضي الله عنها خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئلت عنه، فقالت: ( كان خلقه القرآن )، ومعنى ذلك: أن الناظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنما ينظر إلى قرآن أمامه، فكل ما يأمر به القرآن فهو مطبق له، وكل ما ينهى عنه فهو مجتنب له، وما في القرآن كذلك كله يظهر عليه أثره، سواءً كان ذلك عبرة أو حكماً أو غير ذلك.

والله سبحانه وتعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسلوكه بياناً للقرآن، وسماه "ذكراً" كما في سورة الطلاق: ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ[الطلاق:10-11]، فالذكر هو القرآن، والرسول هو البيان، فهو بيان للقرآن؛ فكأنه قرآن.

وهكذا في سورة الإسراء أيضاً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في آخر قصة موسى عليه السلام: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً * وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً[الإسراء:104-106]، وقد اختلف أهل التفسير في إعراب هذه الآية، وعلى ذلك يختلف في تفسيرها؛ لأن الأعراب مندرج تحت المعنى؛ فقالت طائفة منهم: (ما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً وقرآناً) أي: جعله الله قرآناً فهو حجة على الناس، كما أن القرآن حجة على الناس، وبذلك يكون محمد صلى الله عليه وسلم قرآناً؛ لأنه يمثل القرآن في عمله وسلوكه وهديه ودله.

وقالت طائفة أخرى: بل قوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا[الإسراء:105] جملة اعتراضية جاءت في وسط الكلام على القرآن؛ فقد قال الله تعالى قبل هذا: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ[الإسراء:105]، أي: القرآن، ثم قال: ((وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ)) أي: أنزلناه قرآناً، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ[الإسراء:106]، وجاءت الجملة الاعتراضية مبينه لسر بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهي: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا[الإسراء:105]، فجاءت في أثناء الكلام على القرآن.

وعموماً على التفسير الأول يكون النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً؛ لأنه في هديه وسلوكه ودله بيان للقرآن، وكما أن القرآن كلام الله؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم معصوم بعصمة الله تعالى له؛ ليكون فعله وهديه ودله وخلقه بياناً للقرآن.

سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حسن الخلق بعد أن ذكر فضله وبيان درجة أهله، فقيل: ( وما حسن الخلق بالذي تعني يا رسول الله؟ قال: أن تعفو عن من ظلمك، وأن تصل من قطعك، وأن تحسن إلى من أساء إليك )، فهذه ثلاث جمل جامعة لحسن الخلق: أولاها: أن تعفو عن من ظلمك.

تجاوز الله عمن عفا عن غيره

فالعفو صفة حميدة تقتضي من الإنسان التجاوز عن حقه؛ ليتجاوز الله عنه، ولا تكون إلا عن تمام، فالإنسان التام العقل هو الذي يستطيع أن يصفح ويعفو عن الآخرين، أما ناقص العقل فإن الصفح ليس في قاموسه، ولا يدخل في تفكيره؛ لأنه مجبول على أخذ كل حقه؛ ولهذا قال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت:34-35]، فالذي يستطيع ذلك ويقدر عليه هو من كان ذا حظ عظيم، ويشمل ذلك تمام العقل ووفرته.

فصفح الإنسان عن من ظلمه من العقل والتدبير؛ لأنه مزيل للضغائن.

والإنسان في هذه الحياة مضطر لمخالطة الآخرين، ومخالطتهم تحوجه إلى الصبر دائماً، فإذا كان يريد الاقتصاص لنفسه من الآخرين في كل ما يصيبه فإنه سيحاول القصاص ممن لا يستطيع القصاص منه وهو الدهر، أليس الدهر سيشيب رأسه! أليس سيزيل قواه! أليس سيذهب بطاقاته! ولا يستطيع الإنسان القصاص منه! فإذا كان الحال كذلك لابد أن يتعود الإنسان على الصبر، ولهذا أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ[المدثر:7].

إذاً يحتاج الإنسان إلى أن يعود نفسه على الصفح عن من ظلمه.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا كان تاجراً، فكان يدين الناس)، أي: يعطيهم الديون من ماله، ( فيرسل عماله فيقول: إذا صادفتم معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فلما مات تجاوز الله عنه )، فهذا الرجل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له حسنات أخرى، ولكنه كان يقول لعماله: إذا صادفتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه بذلك.

طيب معدن من عفا عمن ظلمه

والعفو دليل أيضاً على طيب معدن الإنسان؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عن: ( نبي من الأنبياء دماه قومه.. )، أي: جرحوه حتى سال الدم من وجهه، ( فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح الله عليه مكة أظهر هذه الصفة من صفات خلقه، فلما فتح الله عليه مكة فجأة، وقد دخلها بعشرة آلاف مسلح، ولا يستطيع أهل مكة الدفاع عن أنفسهم بوجه من الوجوه نادى مناديه في الناس: (من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن)، فتقدم سعد بن عبادة بن دليم، فلما غرز اللواء في الأبطح قال: (اليوم ذلت قريش وخربت)، فجاء ضرار بن الخطاب يشكو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من شعراء قريش، فوقف بين يديه فأنشد:

يا نبي الهدى إليك لجا جي قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر ض وعاداهم إله السماء

والتقت حلقة البطان على القو م ونودوا بالصيلم الصلعاء

إن سعداً يريد قاصمة الظهـ ر بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغيـ ظ رمانا بالنسر والعواء

وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء

قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء

إذا ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء

فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء

ثم ثابت إليه من بهم الخز رج والأوس أنجم الهيجاء

لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء

فانهينه فإنه أسد الأسـ د لدى الغاب والغ في الدماء

إنه مطرق يريد لنا الأمـ ر سكوتاً كالحية الصماء

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً ونزع منه اللواء، وأعطاه ابنه قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، فلما أخذه قيس فهم الحكمة التي من أجلها عين في منصب أبيه؛ فغرز اللواء في مكانه وقال: (اليوم عزت قريش وعمرت).

وعندما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى الذين أسرهم خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح في ذلك اليوم عند الخندمة، لما دخل مكة استقبلهما عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية يقاتلان عن أهل مكة، ومعهما لفيف من الناس، فانهزموا أمام خالد وأبي عبيدة، فأخذ عدد من الأسرى منهم؛ فجيء بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن هرب الشجعان الأبطال، فـعكرمة خرج من مكة إلى اليمن، وصفوان هرب إلى جهة الطائف، وولى رجل آخر من بني مطيع يقول:

إنك لو شهدت يوم الخندمة إذا فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتنا بالسيوف المسلمة لهم نهيت حولنا وهمهمه

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

جيء بأولئك الأسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليهم قال: ( أنتم الطلقاء )، فعفا عنهم؛ فسموا بعد ذلك بالعتقاء، وأصبحوا بطناً من قريش ينسب إليهم بالعتق، ومنهم عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب مالك، فهو من أولئك العتقاء الذين أعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح.

ولذلك فإن عفوه عن أهل مكة جميعاً شمل الفارين، فـصفوان بن أمية أتاه أخوه، فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم منح المشركين أربعة أشهر يترددون فيها ليأخذوا رأيهم: هل يدخلون في الإسلام أو يخرجون من جزيرة العرب، فجاء صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يركب فرساً له، فوقف حوله فقال: ( يا محمد! زعم أخي أنك أعطيتني مهلة أربعة أشهر أدبر فيها أمري، وأشاور فيها أهل رويتي، فقال: انزل أبا أمية! قال: ما أنا بنازل، فقال: انزل أبا أمية، فقال: ما أنا بنازل، قال: قد صدقك أخوك؛ فنزل صفوان )، فما جلس ساعات حتى أدخل في قلبه الإسلام، وكذلك عكرمة تبعته زوجته إلى اليمن، فلحقته هنالك، وأخبرته أنها أخذت له الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع؛ فحسن إسلامه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهد في بقية عمره.

فوائد العفو

والعفو فيه كثير من الفوائد؛ فهو يقلب العداوة إلى صداقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه فيما أخرج البخاري في الصحيح: ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا رفعة ومجداً ).

والله سبحانه وتعالى أرشد إلى العفو في عدد من الآيات، وقد صح في الصحيحين: ( أن رجلاً قتل قتيلاً، فجاء به أولياء الدم في نسعة يجرونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا قتل صاحبنا، فاسأله؛ فأقر الرجل، فأعطاه ولي الدم وقال: اذهب به فاقتله، فلما ولى، قال: أما إنك إن عفوت عنه كفرت عنك سيئاتك، فرجع الرجل فقال: ماذا قلت؟ فقال: أما إنك إن عفوت عنه كفرت عنك سيئاتك، فأطلقه بنسعته )، فكان ذلك تكفيراً عنه بالعفو.

وكذلك فإن العفو أيضاً انتصار على النفس، لأن النفس فيها غليان شديد هو الغضب، الذي هو صفة ذميمة، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح في صحيح البخاري: ( أن رجلاً أتاه، فقال: يا رسول الله! إني أريد الرجوع إلى أهلي فأوصني، فقال: لا تغضب، فردد مراراً، وهو يقول: لا تغضب)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الغضب.

والغضب: غليان في النفس؛ ولذلك تحليله العلمي وشرحه أنه زيادة نسبة الإدرينالين، الذي هو السائل الذي تفرزه الغدة الكظرية في الدم، فزيادته في الدم تقتضي غلياناً يحصل فيه سرعة في نبض القلب وحركته؛ ولذلك يتأثر به صاحبه؛ فيحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، وقد: ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً احمر وجهه، وانتفخت أوداجه من الغضب، فقال: أما أني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ما به، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقيل للرجل: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: أبي جنون؟! )، فقد اشتد به الغضب.

فالعفو فيه انتصار على النفس؛ لأنه يجعل الإنسان لا يطيع نفسه في غليانها؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب وهو قائم أن يجلس، وإن كان جالساً أن يضطجع، وأن ينضح على وجهه من الماء ليزول ما به من الغضب، وهذا يدل على ارتباط الروح بالجسد؛ لأن مجرد الانفعال الذي يظهر على الجسد هو من تأثيرات النفس الداخلية؛ ولذلك إذا لم يتلقه الإنسان بانفعال ظاهراً رجع الغيظ وذهب عن الإنسان، فإذا واجهه بصب الماء على وجهه، أو بالاضطجاع، أو بالجلوس من قام؛ فإن ذلك يذهبه.

والعفو كذلك من شيم أهل الفضل، وهو يزيل الشحناء والبغضاء، وكان يعرفون ذلك في الجاهلية؛ فمن مشاهير العرب وأجودهم أوس بن حارثة بن لام الطائي، وأمه سعدى مشهورة بالكرم والجود، وقد هجاه رجل من الشعراء، فسعى لأخذه أسيراً حتى أسر فجيء به، فلما جيء به إليه قال: ما ظنك أني فاعل بك؟ فإذا هو كان يفكر في أن يقطع لسانه ويديه ورجليه، وأن يدفنه وهو حي، فقالت أمه: لا، إن شعره قد سار في الآفاق، ولا يعالجه إلا أن يمدحك بشعر أحسن منه، فينسى الناس هجاءه، ويبقى لك مدحه، فأتاه فقال: ما ظنك أني فاعل بك؟ قال: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: إن لك أن أعتقك من وثاقك، وأن أعطيك مائة ناقة؛ فأطلق وثاقه وأعطاه مائة ناقة، فأنشد فيه شعره المشهور، الذي يقول فيه:

إلى أوس حارثة بن لام ليقضي حاجتي ولقد قضاها

فما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ولا لبس النعال ولا احتذاها

وقد نسي الناس هجاءه له فلا أحد يذكره، وبقي مدحه له سائراً في الآفاق.

وكذلك فإن من آثار العفو أنه يقتضي محبة لدى الناس، فالذي يتصف بالعفو معناه أنه صاحب قدرة، ومن هنا يكون مهيب الجناب، ويهابه الناس بسبب قدرته عندما يعفو، ولذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قتل والده يوم أحد شهيداً رضي الله عنه؛ لكنه قتل بسيوف المسلمين عندما اختلط المشركون بالمسلمين، ولم يكونوا إذ ذاك يعرف بعضهم بعضاً من القتال وشدة المعركة، فحمل عليه رجل من المسلمين، فصاح حذيفة: أبي.. أبي! فلم يسمعه؛ فقتل، فقال حذيفة: يغفر الله لنا ولكم، فسئل عن قتله: هل قتله المشركون؟ قال: لا، إنما قتله المسلمون، وما أود لو أنه قتله المشركون، فذكر أن عفوه أحب إليه، فلو كان المشركون قتلوه نال الشهادة في سبيل الله، لكن لم ينل حذيفة شيئاً، لكن لما قتله المسلمون نال هو الشهادة في سبيل الله، ونال حذيفة أجر العفو، فكان ذلك مضاعفة للخير.

إحياء صفة العفو

ومن هنا فإن إحياء صفة العفو في نفوس المؤمنين من الأمور المهمة ومن أحسن الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان، وعلى كل إنسان أن يجاهد نفسه من أجل الاتصاف بهذه الصفة، فإن الناس الآن رجعوا إلى أمر كان في الجاهلية وهو قاعدة (من عز بز)، فكل إنسان إذا غضب في مقابل أخذ حق له زجر من غضب عليه، ولو كان أحب الناس إليه من قبل، ولو كان قريباً له، فيقطع رحمه، ويتصرف تصرفات غير معقولة، ويخسر كثيراً من العلاقات التي هو في غنىً عن خسارتها، ولو عفا وأصلح فإنه سيكون أجره على الله، كما أخبر الله بذلك في كتابه، وسيبقي على قرابته، بل إن مطلق يد هو آسرها، فالعرب يقولون: (غل يداً مطلقها) أي: العافي الذي يطلق الأسير قد غل يده بعد ذلك، فالذي تحسن إليه في مقابل إساءته إليك لا شك أنه إن كان فيه دم أو فيه مروءة، فسيحسن إليك بقية عمره، وسيكون مديناً لك بالخير مدة عمره، ولا يمكن أن يجازيك على إحسانك إليه.

العفو عمن ظلم ولو عظم الظلم

قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف حسن الخلق: ( أن تعفو عمن ظلمك )، وهذا يشمل الظلم بمختلف أنواعه سواءً كان ظلماً بالكلام، وهو أعظم الظلم، فأشد الظلم أثراً هو ظلم اللسان، ولذلك يقول العرب:

جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان

وبعد ذلك الاعتداء على البدن، أو الاعتداء على المال، أو نحو ذلك؛ فهذه كلها أنواع من الظلم، يشملها العفو جميعاً.

فالعفو صفة حميدة تقتضي من الإنسان التجاوز عن حقه؛ ليتجاوز الله عنه، ولا تكون إلا عن تمام، فالإنسان التام العقل هو الذي يستطيع أن يصفح ويعفو عن الآخرين، أما ناقص العقل فإن الصفح ليس في قاموسه، ولا يدخل في تفكيره؛ لأنه مجبول على أخذ كل حقه؛ ولهذا قال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت:34-35]، فالذي يستطيع ذلك ويقدر عليه هو من كان ذا حظ عظيم، ويشمل ذلك تمام العقل ووفرته.

فصفح الإنسان عن من ظلمه من العقل والتدبير؛ لأنه مزيل للضغائن.

والإنسان في هذه الحياة مضطر لمخالطة الآخرين، ومخالطتهم تحوجه إلى الصبر دائماً، فإذا كان يريد الاقتصاص لنفسه من الآخرين في كل ما يصيبه فإنه سيحاول القصاص ممن لا يستطيع القصاص منه وهو الدهر، أليس الدهر سيشيب رأسه! أليس سيزيل قواه! أليس سيذهب بطاقاته! ولا يستطيع الإنسان القصاص منه! فإذا كان الحال كذلك لابد أن يتعود الإنسان على الصبر، ولهذا أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ[المدثر:7].

إذاً يحتاج الإنسان إلى أن يعود نفسه على الصفح عن من ظلمه.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا كان تاجراً، فكان يدين الناس)، أي: يعطيهم الديون من ماله، ( فيرسل عماله فيقول: إذا صادفتم معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فلما مات تجاوز الله عنه )، فهذا الرجل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له حسنات أخرى، ولكنه كان يقول لعماله: إذا صادفتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه بذلك.

والعفو دليل أيضاً على طيب معدن الإنسان؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عن: ( نبي من الأنبياء دماه قومه.. )، أي: جرحوه حتى سال الدم من وجهه، ( فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح الله عليه مكة أظهر هذه الصفة من صفات خلقه، فلما فتح الله عليه مكة فجأة، وقد دخلها بعشرة آلاف مسلح، ولا يستطيع أهل مكة الدفاع عن أنفسهم بوجه من الوجوه نادى مناديه في الناس: (من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن)، فتقدم سعد بن عبادة بن دليم، فلما غرز اللواء في الأبطح قال: (اليوم ذلت قريش وخربت)، فجاء ضرار بن الخطاب يشكو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من شعراء قريش، فوقف بين يديه فأنشد:

يا نبي الهدى إليك لجا جي قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر ض وعاداهم إله السماء

والتقت حلقة البطان على القو م ونودوا بالصيلم الصلعاء

إن سعداً يريد قاصمة الظهـ ر بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغيـ ظ رمانا بالنسر والعواء

وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء

قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء

إذا ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء

فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء

ثم ثابت إليه من بهم الخز رج والأوس أنجم الهيجاء

لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء

فانهينه فإنه أسد الأسـ د لدى الغاب والغ في الدماء

إنه مطرق يريد لنا الأمـ ر سكوتاً كالحية الصماء

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً ونزع منه اللواء، وأعطاه ابنه قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، فلما أخذه قيس فهم الحكمة التي من أجلها عين في منصب أبيه؛ فغرز اللواء في مكانه وقال: (اليوم عزت قريش وعمرت).

وعندما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى الذين أسرهم خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح في ذلك اليوم عند الخندمة، لما دخل مكة استقبلهما عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية يقاتلان عن أهل مكة، ومعهما لفيف من الناس، فانهزموا أمام خالد وأبي عبيدة، فأخذ عدد من الأسرى منهم؛ فجيء بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن هرب الشجعان الأبطال، فـعكرمة خرج من مكة إلى اليمن، وصفوان هرب إلى جهة الطائف، وولى رجل آخر من بني مطيع يقول:

إنك لو شهدت يوم الخندمة إذا فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتنا بالسيوف المسلمة لهم نهيت حولنا وهمهمه

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

جيء بأولئك الأسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليهم قال: ( أنتم الطلقاء )، فعفا عنهم؛ فسموا بعد ذلك بالعتقاء، وأصبحوا بطناً من قريش ينسب إليهم بالعتق، ومنهم عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب مالك، فهو من أولئك العتقاء الذين أعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح.

ولذلك فإن عفوه عن أهل مكة جميعاً شمل الفارين، فـصفوان بن أمية أتاه أخوه، فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم منح المشركين أربعة أشهر يترددون فيها ليأخذوا رأيهم: هل يدخلون في الإسلام أو يخرجون من جزيرة العرب، فجاء صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يركب فرساً له، فوقف حوله فقال: ( يا محمد! زعم أخي أنك أعطيتني مهلة أربعة أشهر أدبر فيها أمري، وأشاور فيها أهل رويتي، فقال: انزل أبا أمية! قال: ما أنا بنازل، فقال: انزل أبا أمية، فقال: ما أنا بنازل، قال: قد صدقك أخوك؛ فنزل صفوان )، فما جلس ساعات حتى أدخل في قلبه الإسلام، وكذلك عكرمة تبعته زوجته إلى اليمن، فلحقته هنالك، وأخبرته أنها أخذت له الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع؛ فحسن إسلامه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهد في بقية عمره.

والعفو فيه كثير من الفوائد؛ فهو يقلب العداوة إلى صداقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه فيما أخرج البخاري في الصحيح: ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا رفعة ومجداً ).

والله سبحانه وتعالى أرشد إلى العفو في عدد من الآيات، وقد صح في الصحيحين: ( أن رجلاً قتل قتيلاً، فجاء به أولياء الدم في نسعة يجرونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا قتل صاحبنا، فاسأله؛ فأقر الرجل، فأعطاه ولي الدم وقال: اذهب به فاقتله، فلما ولى، قال: أما إنك إن عفوت عنه كفرت عنك سيئاتك، فرجع الرجل فقال: ماذا قلت؟ فقال: أما إنك إن عفوت عنه كفرت عنك سيئاتك، فأطلقه بنسعته )، فكان ذلك تكفيراً عنه بالعفو.

وكذلك فإن العفو أيضاً انتصار على النفس، لأن النفس فيها غليان شديد هو الغضب، الذي هو صفة ذميمة، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح في صحيح البخاري: ( أن رجلاً أتاه، فقال: يا رسول الله! إني أريد الرجوع إلى أهلي فأوصني، فقال: لا تغضب، فردد مراراً، وهو يقول: لا تغضب)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الغضب.

والغضب: غليان في النفس؛ ولذلك تحليله العلمي وشرحه أنه زيادة نسبة الإدرينالين، الذي هو السائل الذي تفرزه الغدة الكظرية في الدم، فزيادته في الدم تقتضي غلياناً يحصل فيه سرعة في نبض القلب وحركته؛ ولذلك يتأثر به صاحبه؛ فيحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، وقد: ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً احمر وجهه، وانتفخت أوداجه من الغضب، فقال: أما أني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ما به، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقيل للرجل: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: أبي جنون؟! )، فقد اشتد به الغضب.

فالعفو فيه انتصار على النفس؛ لأنه يجعل الإنسان لا يطيع نفسه في غليانها؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب وهو قائم أن يجلس، وإن كان جالساً أن يضطجع، وأن ينضح على وجهه من الماء ليزول ما به من الغضب، وهذا يدل على ارتباط الروح بالجسد؛ لأن مجرد الانفعال الذي يظهر على الجسد هو من تأثيرات النفس الداخلية؛ ولذلك إذا لم يتلقه الإنسان بانفعال ظاهراً رجع الغيظ وذهب عن الإنسان، فإذا واجهه بصب الماء على وجهه، أو بالاضطجاع، أو بالجلوس من قام؛ فإن ذلك يذهبه.

والعفو كذلك من شيم أهل الفضل، وهو يزيل الشحناء والبغضاء، وكان يعرفون ذلك في الجاهلية؛ فمن مشاهير العرب وأجودهم أوس بن حارثة بن لام الطائي، وأمه سعدى مشهورة بالكرم والجود، وقد هجاه رجل من الشعراء، فسعى لأخذه أسيراً حتى أسر فجيء به، فلما جيء به إليه قال: ما ظنك أني فاعل بك؟ فإذا هو كان يفكر في أن يقطع لسانه ويديه ورجليه، وأن يدفنه وهو حي، فقالت أمه: لا، إن شعره قد سار في الآفاق، ولا يعالجه إلا أن يمدحك بشعر أحسن منه، فينسى الناس هجاءه، ويبقى لك مدحه، فأتاه فقال: ما ظنك أني فاعل بك؟ قال: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: إن لك أن أعتقك من وثاقك، وأن أعطيك مائة ناقة؛ فأطلق وثاقه وأعطاه مائة ناقة، فأنشد فيه شعره المشهور، الذي يقول فيه:

إلى أوس حارثة بن لام ليقضي حاجتي ولقد قضاها

فما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ولا لبس النعال ولا احتذاها

وقد نسي الناس هجاءه له فلا أحد يذكره، وبقي مدحه له سائراً في الآفاق.

وكذلك فإن من آثار العفو أنه يقتضي محبة لدى الناس، فالذي يتصف بالعفو معناه أنه صاحب قدرة، ومن هنا يكون مهيب الجناب، ويهابه الناس بسبب قدرته عندما يعفو، ولذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قتل والده يوم أحد شهيداً رضي الله عنه؛ لكنه قتل بسيوف المسلمين عندما اختلط المشركون بالمسلمين، ولم يكونوا إذ ذاك يعرف بعضهم بعضاً من القتال وشدة المعركة، فحمل عليه رجل من المسلمين، فصاح حذيفة: أبي.. أبي! فلم يسمعه؛ فقتل، فقال حذيفة: يغفر الله لنا ولكم، فسئل عن قتله: هل قتله المشركون؟ قال: لا، إنما قتله المسلمون، وما أود لو أنه قتله المشركون، فذكر أن عفوه أحب إليه، فلو كان المشركون قتلوه نال الشهادة في سبيل الله، لكن لم ينل حذيفة شيئاً، لكن لما قتله المسلمون نال هو الشهادة في سبيل الله، ونال حذيفة أجر العفو، فكان ذلك مضاعفة للخير.

ومن هنا فإن إحياء صفة العفو في نفوس المؤمنين من الأمور المهمة ومن أحسن الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان، وعلى كل إنسان أن يجاهد نفسه من أجل الاتصاف بهذه الصفة، فإن الناس الآن رجعوا إلى أمر كان في الجاهلية وهو قاعدة (من عز بز)، فكل إنسان إذا غضب في مقابل أخذ حق له زجر من غضب عليه، ولو كان أحب الناس إليه من قبل، ولو كان قريباً له، فيقطع رحمه، ويتصرف تصرفات غير معقولة، ويخسر كثيراً من العلاقات التي هو في غنىً عن خسارتها، ولو عفا وأصلح فإنه سيكون أجره على الله، كما أخبر الله بذلك في كتابه، وسيبقي على قرابته، بل إن مطلق يد هو آسرها، فالعرب يقولون: (غل يداً مطلقها) أي: العافي الذي يطلق الأسير قد غل يده بعد ذلك، فالذي تحسن إليه في مقابل إساءته إليك لا شك أنه إن كان فيه دم أو فيه مروءة، فسيحسن إليك بقية عمره، وسيكون مديناً لك بالخير مدة عمره، ولا يمكن أن يجازيك على إحسانك إليه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف حسن الخلق: ( أن تعفو عمن ظلمك )، وهذا يشمل الظلم بمختلف أنواعه سواءً كان ظلماً بالكلام، وهو أعظم الظلم، فأشد الظلم أثراً هو ظلم اللسان، ولذلك يقول العرب:

جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان

وبعد ذلك الاعتداء على البدن، أو الاعتداء على المال، أو نحو ذلك؛ فهذه كلها أنواع من الظلم، يشملها العفو جميعاً.

ثم بعد هذا قال: ( وأن تصل من قطعك ).

صلة الرحم من الإيمان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله لما قضى خلق الخلق تعلقت الرحم بساق العرش؛ فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة؛ فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ ).

سوء عاقبة من قطع رحمه

قال الله تعالى في وصف المشركين: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23]، الذين يقطعون أرحامهم أولئك الذين لعنهم الله؛ فأصمهم وأعمى أبصارهم، واللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى. وهو أعظم ما يمكن أن يجازى به المسيء؛ ولذلك جوزي به إبليس على إساءته، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ[محمد:23].

ومن آثار اللعن: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:23]، أصمهم فلا يسمعون الحق حتى يستفيدوا من عقل من سواهم، أو من علمه، وأعمى أبصارهم فلا يعتنون بأنفسهم، ولا ينتفعون بعجائب الكون.

أعظم درجات صلة الرحم

ثم إن صلة الرحم درجات، فالرحم الكاشح، أي: الحاسد، الذي يحسد الإنسان صلته أعظم أجراً من صلة غيره؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل من يصل الرحم الكاشح )، فالواصل ليس بالمكافئ الذي إذا زاره قريبه يزوره، وإذا أحسن إليه يكافئه على إحسانه، فهذا ليس صلة للرحم، هذه مكافئة، لكن الواصل هو الذي يحسن إلى رحمه الكاشح، أي: الذي يحسده.

وقد جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أن لي جيراناً أحسن إليهم فيسيئون إلي، وأكرمهم فيؤذونني؟! فقال: إن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل )، أي: إن كان الحال كما تقول؛ فإنما تجعل المل وهو التراب الذي أوقدت النار عليه حتى اشتدت حرارته.

ولذلك يحتاج الإنسان إلى صلة رحمه الكاشح، وأن يدرك أن المكافئة أمر معتاد بين الناس حتى بين من لم يكن من ذوي الأرحام؛ ولهذا فحسد الأقارب إنما جزاؤه الإحسان إليهم، فإذا هجروك فصلهم، وإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم في مقابل ذلك؛ وبهذا تبرز عليهم وتكون أفضل منهم، وقد قال الحكيم:

يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

ولم يدر قومي كيف أوسر مرة وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهد

فما زادني الإقتار منهم تقرباً ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا

أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا

وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا

أراهم إلى نصري بطاءً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا

لهم جل مالي أن تطاول لي غنىً وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا

وعفو الإنسان عن الحاسد من بني عمه، أو من أقاربه كذلك يقتضي منه أن يكون هذا الحسد لمصلحته، فالحسد صفة ذميمة للحاسد، لكنها قد تنفع المحسود؛ لأنه لا يحسد إلا من لديه نعمة، فمن لديه نعمة من الله تعالى هو الذي يحسد؛ ولذلك فإن الحسد كثيراً ما ينتفع به صحابه؛ لأنه يكتشف مواقع الخطأ في تصرفاته وتدبيره فيجتنبها، ويجد منافساً فيسعى لسبقه في الخير، ولهذا قال الشاعر:

إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظاً بما يجد

أنا الذي يجدوني في صدورهم لا أرتقي صعداً منها ولا أرد

وكما قال الآخر:

عداي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد عني الرحمن الأعاديا

هم بحثوا عن زلتي فاتقيتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يقدر حسد الآخرين بهذا القبيل، وبالأخص إذا كانوا من ذوي القرابة ومن بني العم فظلمهم شديد على النفوس وقد قال الشاعر:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهندي

لكن الإنسان بانتصاره على نفسه وصبره لأذاه يرتفع مستواه عليهم، ويكون بذلك قد انتصر على نفسه، وانتصر عليهم هم في نفس الوقت.

وأذى الجيران وذوي القرابة إذا صبره المؤذى به سبب لعدم انتشار ذرياتهم، وسبب لميراثه هو وذرياته لهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث: ( من آذى جاره أورثه الله داره)، والمقصود بذلك إذا صبر على ذلك الأذى، فإذا صبر على أذاه فسيورثه الله داره، وذلك بانقطاع نسله؛ فيرثه غيره، وليس هذا من جزاء الذنب، وإنما هو من شؤمه؛ وقد ذكر لكم من قبل أن الدنيا دار عمل ولا جزاء، وأن الجزاء كله أخروي، فما يناله الإنسان من الخير جراء إحسانه في هذه الدار ليس من جزاء الإحسان، وإنما هو من بركة الإحسان، وما يصيبه أيضاً من جراء إساءته في هذه الدار ليس من جزاء إساءته بل هو من شؤم إساءته، فالذنب له شؤم دنيوي وله جزاء أخروي، وكذلك الخير، فالحسنات لها بركات دنيوية ولها أجر أخروي، وبركاتها الدنيوية لا تنقص أجرها الأخروي، كما أن شؤم الذنب أيضاً لا ينقص جزاءه الأخروي، فالله تعالى يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45] هذا في الدنيا وهو من شؤم ذنبه، ((بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)) فليس هذا جزاءهم وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:46]؛ فالجزاء أخروي كله.

قال الله تعالى في وصف المشركين: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23]، الذين يقطعون أرحامهم أولئك الذين لعنهم الله؛ فأصمهم وأعمى أبصارهم، واللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى. وهو أعظم ما يمكن أن يجازى به المسيء؛ ولذلك جوزي به إبليس على إساءته، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ[محمد:23].

ومن آثار اللعن: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:23]، أصمهم فلا يسمعون الحق حتى يستفيدوا من عقل من سواهم، أو من علمه، وأعمى أبصارهم فلا يعتنون بأنفسهم، ولا ينتفعون بعجائب الكون.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4774 استماع
بشائر النصر 4274 استماع
أسئلة عامة [2] 4116 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3979 استماع
نواقض الإيمان [2] 3934 استماع
اللغة العربية 3918 استماع
عداوة الشيطان 3918 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3890 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع