الغفلة وخطرها


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الغفلة المحمودة

أما بعد: فإن الغفلة تنقسم إلى قسمين: غفلة محمودة، وغفلة مذمومة.

والغفلة المحمودة هي غفلة الإنسان عن حقوقه وحظوظه الدنيوية، فإذا غفل الإنسان عن بعض حقوقه وتجاوز عنها، علم أن فلاناً ظلمه فعفا عنه، وعلم أن فلاناً أخذ من حقه فتغافل عنه، وعلم أن له حقاً في مكان كذا فلم يذهب إليه، ولم يطلب حظ نفسه في كل شأنه، فهذه غفلة محمودة؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض )، فغفلاتهم التي يتركون فيها هي غفلاتهم الدنيوية عن حظوظهم وحقوقهم، وهذا إنما هو فيما لا ضرر على الإنسان فيه.

أما ما فيه ضرر على الإنسان فإن الضرر لا يزال بالضرر، فإذا كان الإنسان محتاجاً إلى حقه حاجةً ماسة، ثم سامح فيه رغم الحاجة فليس ذلك من الغفلة المحمودة، بل هو من التجني على النفس المذموم.

الغفلة المذمومة

أما الغفلة المذمومة فهي أكثر وأكبر، وهي داء عضال يصيب الإنسان؛ ولذلك نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاتصاف بها، فقال: وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، فالغفلة المذمومة هي الغفلة عن العرض على الله عز وجل، وعن مراقبته ورؤيته، والغفلة عن شريعته وملته، والغفلة عن أوامره ونواهيه، والغفلة عن تدبيره لهذا الكون وعن آياته البينات، والغفلة عن مواعظه الدائمة التي هي تذكير للإنسان، والغفلة عن مشاهد القيامة وما يسبقها من الأشراط، والغفلة عن الموت، فهذه غفلات كلها مذمومة، وهي داء عضال يصيب الإنسان إذا تودع منه وقذره الله جل جلاله فإنه يشغله عن الله جل جلاله بأدنى الأشياء وأتفهها، فيتعلق بأدنى الأسباب كتعلق المشركين بما يشبه بناء العنكبوت كما وصف الله ذلك، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].

فالذين يعرضون عن الله سبحانه وتعالى يسلطهم على أنفسهم فيكونون عبيداً لأخس العبيد وأرذلهم وأدناهم، لا يتعلقون إلا بأبخل الناس وأفقرهم وأقلهم إيماناً بالله تعالى، وأقلهم صلةً به، وأقلهم عقلاً وإدراكاً، فهم يعبدون أنفسهم لمن لا يملك لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد الناس بلاءً: المحجوبون عن الله جل جلاله، وأشد المحجوبين بلاءً الذي لا يشعر بأنه محجوب، فالذي لا يشعر أنه محتاج لزيادة الإيمان، ولا يشعر أنه محتاج لزيادة العلاقة بالله، ولا يشعر أنه محتاج للتذلل للباري جل جلاله، ولا يشعر أنه محتاج لتعظيم الله في أوامره ونواهيه، ولا يشعر أنه محتاج لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا غافل عن الله غفلةً قد أماتت قلبه فطبع عليه بطابع النفاق.

أما بعد: فإن الغفلة تنقسم إلى قسمين: غفلة محمودة، وغفلة مذمومة.

والغفلة المحمودة هي غفلة الإنسان عن حقوقه وحظوظه الدنيوية، فإذا غفل الإنسان عن بعض حقوقه وتجاوز عنها، علم أن فلاناً ظلمه فعفا عنه، وعلم أن فلاناً أخذ من حقه فتغافل عنه، وعلم أن له حقاً في مكان كذا فلم يذهب إليه، ولم يطلب حظ نفسه في كل شأنه، فهذه غفلة محمودة؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض )، فغفلاتهم التي يتركون فيها هي غفلاتهم الدنيوية عن حظوظهم وحقوقهم، وهذا إنما هو فيما لا ضرر على الإنسان فيه.

أما ما فيه ضرر على الإنسان فإن الضرر لا يزال بالضرر، فإذا كان الإنسان محتاجاً إلى حقه حاجةً ماسة، ثم سامح فيه رغم الحاجة فليس ذلك من الغفلة المحمودة، بل هو من التجني على النفس المذموم.

أما الغفلة المذمومة فهي أكثر وأكبر، وهي داء عضال يصيب الإنسان؛ ولذلك نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاتصاف بها، فقال: وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، فالغفلة المذمومة هي الغفلة عن العرض على الله عز وجل، وعن مراقبته ورؤيته، والغفلة عن شريعته وملته، والغفلة عن أوامره ونواهيه، والغفلة عن تدبيره لهذا الكون وعن آياته البينات، والغفلة عن مواعظه الدائمة التي هي تذكير للإنسان، والغفلة عن مشاهد القيامة وما يسبقها من الأشراط، والغفلة عن الموت، فهذه غفلات كلها مذمومة، وهي داء عضال يصيب الإنسان إذا تودع منه وقذره الله جل جلاله فإنه يشغله عن الله جل جلاله بأدنى الأشياء وأتفهها، فيتعلق بأدنى الأسباب كتعلق المشركين بما يشبه بناء العنكبوت كما وصف الله ذلك، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].

فالذين يعرضون عن الله سبحانه وتعالى يسلطهم على أنفسهم فيكونون عبيداً لأخس العبيد وأرذلهم وأدناهم، لا يتعلقون إلا بأبخل الناس وأفقرهم وأقلهم إيماناً بالله تعالى، وأقلهم صلةً به، وأقلهم عقلاً وإدراكاً، فهم يعبدون أنفسهم لمن لا يملك لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد الناس بلاءً: المحجوبون عن الله جل جلاله، وأشد المحجوبين بلاءً الذي لا يشعر بأنه محجوب، فالذي لا يشعر أنه محتاج لزيادة الإيمان، ولا يشعر أنه محتاج لزيادة العلاقة بالله، ولا يشعر أنه محتاج للتذلل للباري جل جلاله، ولا يشعر أنه محتاج لتعظيم الله في أوامره ونواهيه، ولا يشعر أنه محتاج لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا غافل عن الله غفلةً قد أماتت قلبه فطبع عليه بطابع النفاق.

والقلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القلب الحي

قلب حي، وهو الذي يعتبر ويتدبر ويتذكر، ويتعرف إلى الله جل جلاله بآلائه ونعمه التي لا تحصى، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وقال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، وصاحب القلب الحي يتذكر المواقف التي أنعم الله بها عليه، يتذكر عندما كان مريضاً فشفاه الله، وعندما كان ضعيفاً فقواه الله، وعندما كان فقيراً فأغناه الله، وعندما كان فريداً فأعطاه الله عدداً وأهلاً وأولاداً، عندما كان صغيراً فكبره الله، يذكر كثيراً من نعم الله التي لا تحصى، ويعرف أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بتوجيه قلبه إليه، وقد فتح الأبواب وأذن له بولوجها، وأذن له أن يسجد لله جل جلاله في الوقت الذي منع فيه كثيراً من الخلائق لذلك، فالذين شرفهم الله هم الذين يسجدون له، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18]، والذين لا يسجدون لله جل جلاله ما منعهم من ذلك إلا أنه هو حال بينهم وبين ذلك، فلم يرتض منهم الخير، فأنتم تعلمون جميعاً أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنه يكره السيئات ويمقتها قال تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38]، لكن أقواماً يكره الله طاعاتهم كما يكره معصيتهم، ولذلك قال فيهم: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].

والقلب الحي هو الذي يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويريد المزيد من فضله، ولا يمكن أن يصل إلى مستوى يقول: قد قضيت أربي مما عند الله، وانتهيت مما لديه، بل هو راغب فيما عند الله دائماً، يرجو في هذه الحياة أن يزيده الله قرباً إليه وتوثيقاً لطاعته، وأن يستعمل جميع جوارحه وبشره وشعره وملابسه وكل ما آتاه في طاعته ومرضاته، يريد أن يكون ليله ونهاره طاعةً لله، وأن تكون حياته محراباً كبيراً للتعبد لله، وأن يكون مع الله في كل ساعاته آناء الليل وأطراف النهار، لا يغفل عنه ولا يحجب فيه لحظة من اللحظات، كما قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ولا رفع شعاباً.

صاحب القلب الحي يرغب كذلك في أن يؤدي حق الله، وعبادته لا يطلب بها حظ نفسه، وكثير من مرضى القلوب إذا صلى فإنه يفعل ذلك يريد الغنى والصحة، ويريد قضاء المآرب، وإذا تصدق يريد بذلك شفاء مرضاه، وقضاء حوائجه، وإذا دعا يريد بذلك قضاء حوائجه، لكن صاحب القلب الحي يريد بكل عبادته أداء حق الله جل جلاله، فهو يعلم أن الله يستحق العبادة، وأن السموات التي هي أكبر منا والجبال والبهائم والأشجار والأنهار والمياه كلها تخر لله سجداً مع ظلالها ساجدةً لله جل جلاله، فلذلك يرغب في أن يوفق لأداء حق الله جل جلاله، ومن هنا فهو يحب كل من سجد لله، وكل من أحب الله، وكل من أطاع الله، وكل من عمل عملاً صالحاً محبةً شديدةً لحبه لأداء حق الله، فيرغب في الاتصال بمن يحب الله، ومن يؤدي حق الله، فأنتم الآن تحبون جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمداً صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، لماذا؟ لأنهم أحبوا الله وعبدوه عبادةً لا تستطيعونها، وأنتم تعلمون أنه يستحقها، فأنتم تحبون أن يعبد الله حق عبادته؛ لأنه يستحق ذلك، وتحبون أن يشكر ويحمد حق حمده، وتعرفون أنكم عاجزون عن ذلك، ولذلك تحبون ملائكة الله الكرام الذين قال الله عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال عنهم أيضاً: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وتحبون أنبياء الله الكرام الذين عصمهم الله من المعصية، ومحضهم للطاعة، وتحبون الصالحين من عباد الله الذين شغلهم الله بعبادته، ولم يشغلهم بأهوائهم وأعراض الحياة الدنيا، تحبون الذين نفضوا قلوبهم من الحياة الدنيا فأقبلوا بقلوبهم متوضئةً مغسولةً على الله جل جلاله فطهرها وبيضها، تحبون الذين يشغلون أوقاتهم بما يعنيهم، ويقبلون على الله تعالى بحسن إسلام، قال صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فهذا هو القلب الحي الذي صاحبه لا يغفل عن الله جل جلاله، وهو معه في كل أوقاته، فهو معه في وقت السراء إذا جاءته نعمة لم تشغله عن الله جل جلاله، وهو معه في وقت الضراء إذا أصابته بلية لم تشغله عن الله جل جلاله، وهو معه في وقت الأمر ينتظر مجيء الأمر فهو ينتظر غروب الشمس ليبادر لأداء صلاة المغرب، وينتظر غروب الشفق ليبادر لصلاة العشاء، وينتظر طلوع الفجر ليبادر لصلاة الفجر، وينتظر زوال الشمس للمبادرة إلى صلاة الظهر، وينتظر دلوكها للمبادرة إلى صلاة العصر، وهذه الأوقات عنده أعياد هي مواعيد اللقاء بالرب جل جلاله، ومواعيد مناجاته والثناء عليه وسؤاله وعبادته؛ فلذلك يحب هذه الأوقات من عمره حباً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ).

يحب رمضان؛ لأنه موسم للطاعة، والإقبال على الله، ويشتاق إليه، ويهفو إليه كما يهفو الصغار إلى الراحة أو إلى الأعياد، فعيده رمضان، بل من عباد الله من ذوي القلوب الحية من يحبون الفاقة والفقر؛ لأنها تقتضي منهم اللجأ إلى الله ومد الأيدي إليه، كما ذكر فروخ رحمه الله عن أحد العارفين أنه قال:

العيد قالوا غد ما أنت لابسه فقلت خلعة ساس ثوبه خلع

أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع

إلى أن يقول:

حب يرى الفاقة الأعياد والجمعا

الفاقة هي بمثابة عيد لديه؛ لأنها تحوجه إلى الله وتذكره به، والجمع أعياد في الأسبوع تذكره بالله، وهو يلتمس ساعة الجمعة، ويعلم أن هذا خير يوم طلعت عليه الشمس، وهو مشتاق إليه في الأسبوع ليتقرب إلى الله جل جلاله، والذي قلبه حي بهذه المثابة لا يمكن أن يغفل عن الله؛ لأنه يشتاق إلى الطاعة قبل أوانها، ويتأهب إليها قبل وقتها، فكيف يغفل عنها إذا دخلت؟ إذا كان مشتاقاً إلى رمضان غاية الاشتياق يريد أن يكون من الذين صاموه إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين قاموه إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين قاموا ليلة القدر إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين يختمون فيه القرآن، ويفطرون المحتاجين من الصائمين، ويريد أن يتصدق وأن يكون معاملاً نفسه بالكرم الذي كان يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أكرم الناس في كل الأوقات وفي شهر رمضان يظهر عليه الكرم ما لا يظهر عليه في غيره، كما في حديث ابن عباس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).

القلب المريض

القلب الثاني: هو القلب المريض، فالقلب المريض صاحبه يتعلق بأمور لا يبلغها ولا يستطيعها، فهو فعلاً من الذين يصلون ولكن صلاته لا تصل إلى قلبه فهو مشغول عن الصلاة، عندما يحرم ويكبر قلبه ليس عند نبضه، فلا يستشعر معنى الله أكبر إذا نطق بها فملأت ما بين السماء والأرض، إذا قرأ الفاتحة لم يتذكر أنه في مناجاة مع الله، وأن الله يجيبه عند كل جملة إذا كان ذاكراً، فالله لا يقبل من قلب غافل لاه، وإنما يتقبل من المتقين، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فإذا قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] تأثر بذلك تأثراً شديداً؛ لأنه ينتظر جواب الله، والله يقول له: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] تأثر بذلك تأثراً بالغاً لعلمه أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] تأثر بذلك تأثراً شديداً لعلمه أن الله يجيبه ويقول: فوض إلي عبدي، أو مجدني عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل، فإذا قرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تأثر بهذا المعنى تأثراً بالغاً لعلمه أن الله يجيبه ويقول: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قرأ بقية الفاتحة تأثر بهذا الدعاء تأثراً بالغاً، وهو يحب أن يحشر مع محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم السلام، ولا يحب أن يحشر مع عتبة بن ربيعة وأبي جهل وشيبة وغيرهم؛ فلذلك يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] يستحضر ذلك بقلبه، وإذا ركع سبح الله وتذكر معنى ما يسبحه عنه، فهو ينزهه عن الصاحبة والولد، وينزهه عن كل نقص كما زعمت اليهود من الفقر والبخل، قال تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64].

وقال سبحانه: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181]، فهو ينزه الله عن كل نقص؛ لعلمه أن الرب جل جلاله هو المتصف بجميع صفات الكمال، وأن كل نقص عليه محال، وأنه جل جلاله هو الذي يستحق الثناء تمام الثناء، فلا أحد يستحق أن يثنى عليه بكل كمال إلا الله جل جلاله، فهو المتصف بكل الكمال.

ومن هنا فتسبيحه له معنىً، أي: تسبيحه حي يؤثر في قلبه، وإذا قال: لا إله إلا الله كانت حيةً في قلبه وعلى لسانه؛ لأنه يعلم معناها ويقصده، وإذا قال: الحمد لله، علم أنها تملأ ما بين السماء والأرض، قال صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، وهكذا، فذكره له حياة وله معنىً، وفيه روح تشع، وله نور، فهذا هو ذو القلب الحي، أما ذو القلب المريض فإنه يذكر ولكنه غافل لاه، إذا أحرم اشتغل بأمور دنياه، إما أن يتذكر بعض الأمور التي مضت سواءً كانت ذنوباً أو غيرها فيتذكر بعض المعاصي التي جرت عليه، وقد ذهبت ملذاتها وبقيت تبعاتها، أو يتذكر بعض النعم التي أنعم الله بها عليه لكن لا يتذكر حقها من الشكر وقيدها، أو يتذكر ما يأتي، أو بعض القصص يذكر أنه اليوم كان في السوق ولقي فلاناً ولقي فلاناً من الأمور التي ليست من تكاليفه، ولا مما يعنيه، وهو الآن مشغول عنها بمناجاة الله جل جلاله، ومما يسوءه أن يكون في ملأ وبحضرة الكبراء، ويكون يتكلم ويهذي بما لا خير فيه، ويسوءه أن يرسل كتاباً إلى الملك جل جلاله بما لا فائدة فيه، وهو يعلم أن الملائكة يكتبون عليه، وأن الله يعلم خطرات قلبه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، يعلم ما توسوس به نفسه.

فمريض القلب يصلي مع المصلين، ويذكر مع الذاكرين، ويقرأ القرآن مع القارئين، ولكنه لا يتأثر بذلك، فقلبه ختم عليه، تنبو عنه آيات الله، وتنبو عنه أذكار الله، وينبو عنه كل ما له صلة بالله جل جلاله، فهو هنا في المسجد يصلي ولكن قلبه ليس هنا وروحه ليست هنا، بل هو في أتفه التافهات مشغول بها، فهذا القلب مريض يحتاج إلى علاج، ولو علم صاحبه مستوى مرضه لكان يبذل في علاجه أكثر مما يبذله في علاج بدنه لو مرض.

القلب الميت

القسم الثالث: القلب الميت، الذي قد انغلقت مسامه ومسامعه وأعينه دون آيات الله ومواعظه، فلا هو يحس بشيء من هذا الكون، هو مثل البهائم، كما ضرب الله المثل للكفار بذلك: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، إذا سمع النداء لم يظن أن هذا يعنيه، إذا سمع (حي على الصلاة حي على الفلاح) كأنه ما سمع نداءً، إذا سمع القرآن يقرأ لم يتأثر به، إذا سمع آيات الله أو مر بها يعرض عنها، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105-106]، لا يرى تدبير الله لهذا الكون، يأتي بالمطر فتتفتح له مسام الأرض، فيخرج منها النبات الأخرى، ثم بعد ذلك يوزعه الله توزيعاً حكيماً بين البهائم والدواب، وينتفع منه الناس بما شاء، ثم يقبض ما شاء منه، ثم يبقى بعد ذلك مواتاً لا نفع فيه كما قال الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].

وكما قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45]، هو مشغول بطلب المعاش، يباشر ذلك آناء الليل وأطراف النهار، ولا يتذكر أن الذي خلقه قد ضمن له رزقه، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]، ولا يتذكر أنه كلف بتكاليف أخرى غير طلب الرزق، وأن طلب الرزق تحسنه الفأرة والنملة وجميع الدواب والبهائم، وأن الإنسان ما خلق لهذا بل هو أشرف من ذلك وأكبر، فله مطالب أخرى هي التي ينبغي أن يسمو إليها، وله همة ينبغي أن تعلو حتى تتعلق بما هو أكبر من ذلك، صاحب القلب الميت إذا ذكر بالله جل جلاله أخذته العزة بالإثم عن طاعة الله جل جلاله، ولا يذكر الله جل جلاله عند أوامره ونواهيه، فإذا أتيحت له فرصة ينال بها مكسباً ولو من حرام بادر إليه، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها؛ لأنه لا يستشعر أن الله يراه، وقد نبه الله سبحانه وتعالى على هاتين الصفتين من صفات الغافلين، فقال تعالى: وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:205-206].

(إن الذين عند ربك) معناه: أنهم غير غافلين قطعاً لأنهم عند الله جل جلاله، (لا يستكبرون عن عبادته)، فإذا أمروا بطاعة الله بادروا إلى ذلك، وإذا ذكروا بالله تذكروا، وهم يعلمون أن أحب الخلق إلى الله وأتقاهم لله وأخشاهم لله محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] فهم مستعدون لأن يقال لهم: اتقوا الله، مستعدون للمبادرة للأوامر إذا سمعوا من يذكر بالله لم يعرضوا عنه؛ لأنهم في حاجة إلى التذكير بالله؛ لأنهم يعلمون أن من هو خير منهم ذكر بالله، فإذا سمعوا من يتكلم ويذكر بالله أقبلوا إليه، وسمعوا كلامه؛ ولذلك قال: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف:206].

(ويسبحونه) هذا التسبيح يشمل القول، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فهو تنزيه لله عن كل ما لا يليق به، فلا بد أن تتذكر عند تسبيحك تنزيه الله عن الصاحبة والولد، وعن الحدود والبلاء، وعن الفقر والبخل، وعن كل نقص أياً كان تنزه الله جل جلاله عن كل ذلك.

(وله يسجدون) فمباشرة العبادة بالبدن أيضاً من عمل هؤلاء الذين حييت قلوبهم ونجوا من الغفلة.

قلب حي، وهو الذي يعتبر ويتدبر ويتذكر، ويتعرف إلى الله جل جلاله بآلائه ونعمه التي لا تحصى، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وقال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، وصاحب القلب الحي يتذكر المواقف التي أنعم الله بها عليه، يتذكر عندما كان مريضاً فشفاه الله، وعندما كان ضعيفاً فقواه الله، وعندما كان فقيراً فأغناه الله، وعندما كان فريداً فأعطاه الله عدداً وأهلاً وأولاداً، عندما كان صغيراً فكبره الله، يذكر كثيراً من نعم الله التي لا تحصى، ويعرف أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بتوجيه قلبه إليه، وقد فتح الأبواب وأذن له بولوجها، وأذن له أن يسجد لله جل جلاله في الوقت الذي منع فيه كثيراً من الخلائق لذلك، فالذين شرفهم الله هم الذين يسجدون له، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18]، والذين لا يسجدون لله جل جلاله ما منعهم من ذلك إلا أنه هو حال بينهم وبين ذلك، فلم يرتض منهم الخير، فأنتم تعلمون جميعاً أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنه يكره السيئات ويمقتها قال تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38]، لكن أقواماً يكره الله طاعاتهم كما يكره معصيتهم، ولذلك قال فيهم: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].

والقلب الحي هو الذي يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويريد المزيد من فضله، ولا يمكن أن يصل إلى مستوى يقول: قد قضيت أربي مما عند الله، وانتهيت مما لديه، بل هو راغب فيما عند الله دائماً، يرجو في هذه الحياة أن يزيده الله قرباً إليه وتوثيقاً لطاعته، وأن يستعمل جميع جوارحه وبشره وشعره وملابسه وكل ما آتاه في طاعته ومرضاته، يريد أن يكون ليله ونهاره طاعةً لله، وأن تكون حياته محراباً كبيراً للتعبد لله، وأن يكون مع الله في كل ساعاته آناء الليل وأطراف النهار، لا يغفل عنه ولا يحجب فيه لحظة من اللحظات، كما قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ولا رفع شعاباً.

صاحب القلب الحي يرغب كذلك في أن يؤدي حق الله، وعبادته لا يطلب بها حظ نفسه، وكثير من مرضى القلوب إذا صلى فإنه يفعل ذلك يريد الغنى والصحة، ويريد قضاء المآرب، وإذا تصدق يريد بذلك شفاء مرضاه، وقضاء حوائجه، وإذا دعا يريد بذلك قضاء حوائجه، لكن صاحب القلب الحي يريد بكل عبادته أداء حق الله جل جلاله، فهو يعلم أن الله يستحق العبادة، وأن السموات التي هي أكبر منا والجبال والبهائم والأشجار والأنهار والمياه كلها تخر لله سجداً مع ظلالها ساجدةً لله جل جلاله، فلذلك يرغب في أن يوفق لأداء حق الله جل جلاله، ومن هنا فهو يحب كل من سجد لله، وكل من أحب الله، وكل من أطاع الله، وكل من عمل عملاً صالحاً محبةً شديدةً لحبه لأداء حق الله، فيرغب في الاتصال بمن يحب الله، ومن يؤدي حق الله، فأنتم الآن تحبون جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمداً صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، لماذا؟ لأنهم أحبوا الله وعبدوه عبادةً لا تستطيعونها، وأنتم تعلمون أنه يستحقها، فأنتم تحبون أن يعبد الله حق عبادته؛ لأنه يستحق ذلك، وتحبون أن يشكر ويحمد حق حمده، وتعرفون أنكم عاجزون عن ذلك، ولذلك تحبون ملائكة الله الكرام الذين قال الله عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال عنهم أيضاً: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وتحبون أنبياء الله الكرام الذين عصمهم الله من المعصية، ومحضهم للطاعة، وتحبون الصالحين من عباد الله الذين شغلهم الله بعبادته، ولم يشغلهم بأهوائهم وأعراض الحياة الدنيا، تحبون الذين نفضوا قلوبهم من الحياة الدنيا فأقبلوا بقلوبهم متوضئةً مغسولةً على الله جل جلاله فطهرها وبيضها، تحبون الذين يشغلون أوقاتهم بما يعنيهم، ويقبلون على الله تعالى بحسن إسلام، قال صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فهذا هو القلب الحي الذي صاحبه لا يغفل عن الله جل جلاله، وهو معه في كل أوقاته، فهو معه في وقت السراء إذا جاءته نعمة لم تشغله عن الله جل جلاله، وهو معه في وقت الضراء إذا أصابته بلية لم تشغله عن الله جل جلاله، وهو معه في وقت الأمر ينتظر مجيء الأمر فهو ينتظر غروب الشمس ليبادر لأداء صلاة المغرب، وينتظر غروب الشفق ليبادر لصلاة العشاء، وينتظر طلوع الفجر ليبادر لصلاة الفجر، وينتظر زوال الشمس للمبادرة إلى صلاة الظهر، وينتظر دلوكها للمبادرة إلى صلاة العصر، وهذه الأوقات عنده أعياد هي مواعيد اللقاء بالرب جل جلاله، ومواعيد مناجاته والثناء عليه وسؤاله وعبادته؛ فلذلك يحب هذه الأوقات من عمره حباً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ).

يحب رمضان؛ لأنه موسم للطاعة، والإقبال على الله، ويشتاق إليه، ويهفو إليه كما يهفو الصغار إلى الراحة أو إلى الأعياد، فعيده رمضان، بل من عباد الله من ذوي القلوب الحية من يحبون الفاقة والفقر؛ لأنها تقتضي منهم اللجأ إلى الله ومد الأيدي إليه، كما ذكر فروخ رحمه الله عن أحد العارفين أنه قال:

العيد قالوا غد ما أنت لابسه فقلت خلعة ساس ثوبه خلع

أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع

إلى أن يقول:

حب يرى الفاقة الأعياد والجمعا

الفاقة هي بمثابة عيد لديه؛ لأنها تحوجه إلى الله وتذكره به، والجمع أعياد في الأسبوع تذكره بالله، وهو يلتمس ساعة الجمعة، ويعلم أن هذا خير يوم طلعت عليه الشمس، وهو مشتاق إليه في الأسبوع ليتقرب إلى الله جل جلاله، والذي قلبه حي بهذه المثابة لا يمكن أن يغفل عن الله؛ لأنه يشتاق إلى الطاعة قبل أوانها، ويتأهب إليها قبل وقتها، فكيف يغفل عنها إذا دخلت؟ إذا كان مشتاقاً إلى رمضان غاية الاشتياق يريد أن يكون من الذين صاموه إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين قاموه إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين قاموا ليلة القدر إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين يختمون فيه القرآن، ويفطرون المحتاجين من الصائمين، ويريد أن يتصدق وأن يكون معاملاً نفسه بالكرم الذي كان يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أكرم الناس في كل الأوقات وفي شهر رمضان يظهر عليه الكرم ما لا يظهر عليه في غيره، كما في حديث ابن عباس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).

القلب الثاني: هو القلب المريض، فالقلب المريض صاحبه يتعلق بأمور لا يبلغها ولا يستطيعها، فهو فعلاً من الذين يصلون ولكن صلاته لا تصل إلى قلبه فهو مشغول عن الصلاة، عندما يحرم ويكبر قلبه ليس عند نبضه، فلا يستشعر معنى الله أكبر إذا نطق بها فملأت ما بين السماء والأرض، إذا قرأ الفاتحة لم يتذكر أنه في مناجاة مع الله، وأن الله يجيبه عند كل جملة إذا كان ذاكراً، فالله لا يقبل من قلب غافل لاه، وإنما يتقبل من المتقين، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فإذا قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] تأثر بذلك تأثراً شديداً؛ لأنه ينتظر جواب الله، والله يقول له: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] تأثر بذلك تأثراً بالغاً لعلمه أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] تأثر بذلك تأثراً شديداً لعلمه أن الله يجيبه ويقول: فوض إلي عبدي، أو مجدني عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل، فإذا قرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تأثر بهذا المعنى تأثراً بالغاً لعلمه أن الله يجيبه ويقول: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قرأ بقية الفاتحة تأثر بهذا الدعاء تأثراً بالغاً، وهو يحب أن يحشر مع محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم السلام، ولا يحب أن يحشر مع عتبة بن ربيعة وأبي جهل وشيبة وغيرهم؛ فلذلك يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] يستحضر ذلك بقلبه، وإذا ركع سبح الله وتذكر معنى ما يسبحه عنه، فهو ينزهه عن الصاحبة والولد، وينزهه عن كل نقص كما زعمت اليهود من الفقر والبخل، قال تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64].

وقال سبحانه: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181]، فهو ينزه الله عن كل نقص؛ لعلمه أن الرب جل جلاله هو المتصف بجميع صفات الكمال، وأن كل نقص عليه محال، وأنه جل جلاله هو الذي يستحق الثناء تمام الثناء، فلا أحد يستحق أن يثنى عليه بكل كمال إلا الله جل جلاله، فهو المتصف بكل الكمال.

ومن هنا فتسبيحه له معنىً، أي: تسبيحه حي يؤثر في قلبه، وإذا قال: لا إله إلا الله كانت حيةً في قلبه وعلى لسانه؛ لأنه يعلم معناها ويقصده، وإذا قال: الحمد لله، علم أنها تملأ ما بين السماء والأرض، قال صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، وهكذا، فذكره له حياة وله معنىً، وفيه روح تشع، وله نور، فهذا هو ذو القلب الحي، أما ذو القلب المريض فإنه يذكر ولكنه غافل لاه، إذا أحرم اشتغل بأمور دنياه، إما أن يتذكر بعض الأمور التي مضت سواءً كانت ذنوباً أو غيرها فيتذكر بعض المعاصي التي جرت عليه، وقد ذهبت ملذاتها وبقيت تبعاتها، أو يتذكر بعض النعم التي أنعم الله بها عليه لكن لا يتذكر حقها من الشكر وقيدها، أو يتذكر ما يأتي، أو بعض القصص يذكر أنه اليوم كان في السوق ولقي فلاناً ولقي فلاناً من الأمور التي ليست من تكاليفه، ولا مما يعنيه، وهو الآن مشغول عنها بمناجاة الله جل جلاله، ومما يسوءه أن يكون في ملأ وبحضرة الكبراء، ويكون يتكلم ويهذي بما لا خير فيه، ويسوءه أن يرسل كتاباً إلى الملك جل جلاله بما لا فائدة فيه، وهو يعلم أن الملائكة يكتبون عليه، وأن الله يعلم خطرات قلبه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، يعلم ما توسوس به نفسه.

فمريض القلب يصلي مع المصلين، ويذكر مع الذاكرين، ويقرأ القرآن مع القارئين، ولكنه لا يتأثر بذلك، فقلبه ختم عليه، تنبو عنه آيات الله، وتنبو عنه أذكار الله، وينبو عنه كل ما له صلة بالله جل جلاله، فهو هنا في المسجد يصلي ولكن قلبه ليس هنا وروحه ليست هنا، بل هو في أتفه التافهات مشغول بها، فهذا القلب مريض يحتاج إلى علاج، ولو علم صاحبه مستوى مرضه لكان يبذل في علاجه أكثر مما يبذله في علاج بدنه لو مرض.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4775 استماع
بشائر النصر 4274 استماع
أسئلة عامة [2] 4116 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3980 استماع
نواقض الإيمان [2] 3935 استماع
اللغة العربية 3918 استماع
عداوة الشيطان 3918 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3890 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع