شرح زاد المستقنع باب صلاة أهل الأعذار


الحلقة مفرغة

كيفية صلاة المريض

ذبسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة أهل الأعذار].

أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالمعذورين.

وهذا الباب من أهم الأبواب، نظراً لأنه تعم به البلوى، خاصة وأن المرضى يكثر تساؤلهم: كيف يصلون؟ وقد يكون الإنسان مريضاً في نفسه أو في جسده، وقد يكون في بيته المريض فيسأله، وقد يسأل عامة الناس عن مثل هذه المسائل والأحكام.

وقد اعتنت نصوص الكتاب ونصوص السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان الرخص وأهل الأعذار.

فبعد أن فرغ رحمه الله من أهل الأعذار في شهود الصلاة مع الجماعة شرع في أهل الأعذار الذين يعذرون في صفة أداء الصلاة.

فهناك من يعذر في شهود الصلاة، وهناك من يعذر في كيفية أداء الصلاة، وهذا الباب من أهم الأبواب؛ لأن مسائل الناس تكثر عنه، وهو صلاة المريض وما في حكمه.

قال رحمه الله تعالى: [تلزم المريض الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب]

قوله: [تلزم المريض الصلاة قائماً] أي: إذا أطاق ذلك وقدر عليه، والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، فدل على أن من يصلي يكون قائماً.

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة ثم كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام لـعمران بن حصين: (صل قائماً) .

فالأصل أن يصلي الإنسان قائماً، والمريض مطالب بالصلاة قائماً، ولكن إذا أطاق القيام، وأما إذا كان عاجزاً عنه ففيه التفصيل.

وهذا هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عمران بن حصين ، وكانت بـعمران رضي الله عنه وأرضاه بواسير فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يجده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً..)، فدل هذا على الأصل.

ولذلك نقول: الأصل في المصلي أن يصلي قائماً بنص الكتاب ونصوص السنة التي ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام لـعمران وهو مريض: (صل قائماً).

قوله: [فإن لم يستطع فقاعداً].

أي: لا يستطيع أن يقوم، كأن يكون الإنسان مصاباً بالشلل والعياذ بالله، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى الرخصة، فشرط إيجاب القيام الاستطاعة والقدرة، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

والمريض إذا لم يستطع القيام فله حالات:

الحالة الأولى: أن لا يستطيعه بالكلية، فحينئذٍ يصلي جميع الصلوات قاعداً بلا إشكال.

الحالة الثانية: أن يطيق بعض القيام دون بعض، فحينئذٍ يلزمه القيام بقدر ما يطيق، ويأتي هذا على صورتين:

الأولى: أن يستطيع القيام من أول الصلاة ثم يضعف، فالرخصة له بعد ضعفه، فنقول له: افتتح الصلاة وصل قائماً، فإذا أحسست بالعناء والمشقة جلست.

الثانية: أن يكون العكس، كأن يبتدئ الصلاة عاجزاً ثم يجد الخفة والنشاط، فنقول: تُلزَم بالقيام، ويلزمك أن تتم قائماً.

وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصورة الثانية، حيث كان في قيام الليل يصلي قاعداً لما بدُن وكثر لحمه عليه الصلاة والسلام وأسن صلوات الله وسلامه عليه، فكان لا يطيق طول القيام؛ لأنه كانت ركعته بما يقارب البقرة وآل عمران والمائدة، حتى إن قدمه تتفسخ من طول القيام صلوات الله وسلامه عليه.

فلما كبر وضعف في آخر سنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قاعداً، تقول أم المؤمنين: حتى إذا بقي قدر مائة قام. فجعل الإطاقة بعده، ولذلك يقولون: إذا كان الإنسان بمثل هذه الحالة فالأفضل أن يجعل ذلك في الثانية.

أما إذا كان في الفرض فإنه يبتدئ بقدرته، ثم إذا وجد الضعف ترخص عند وجود الضعف.

وأما جلسة المريض فهناك من يجلس متربعاً، وهناك من يجلس مفترشاً، وهناك من يجلس متوركاً كجلسة التشهد، فهل يصلي قاعداً متربعاً، أو يصلي قاعداً كقعدة التشهد؟

هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فمن العلماء من قال يتربع. وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عن بعض أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بعضهم بل يفترش. وقد أشار إليهما الإمام ابن المنذر رحمه الله في الأوسط، وكذلك أشار إليها الإمام الطبري في اختلاف الفقهاء.

هذان الوجهان مشهوران عن أهل العلم، فالذين يقولون: يجلس جلسة المتشهد قالوا: لأنها جلسة صلاته، إذ لا يعرف في الصلاة أن يجلس متربعاً، وإنما جلسته في الصلاة لما يُصلي ويبلغ الجلسة بين السجدتين أو التشهد، ما عهدنا من الشرع أنه يجلس كجلسة التشهد.

وبناءً على ذلك قالوا: إنه يجلس مفترشاً.

والصحيح أنه يجلس جلسة المفترش، ولا حرج عليه أن يجلس جلسة المتربع، خاصة إذا كان يحتاج إليها، أما جلسة الافتراش فإنها أشبه عند طائفة من السلف رحمة الله عليهم؛ لأنها هي جلسة الصلاة.

والحديث الذي ورد في تربعه عليه الصلاة والسلام فيه كلام لا يخلو من ضعف، فقالوا: إنه يجلس جلسة المتشهد.

والدليل على أنه يجوز له أن يصلي على هذه الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق، فقال عليه الصلاة والسلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فمن جلس متربعاً فهو قاعد، ومن جلس مفترشاً فهو قاعد، لقوله عليه الصلاة والسلام في المفترش: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، فسمَّى جلسة التشهد ووصفها بكونها قعدة.

ولذلك يكون الافتراش أولى وأشبه لأنه على صفة الصلاة؛ لقوله: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، ولأنها جلسة معهودة، فهو أولى وأحرى.

لكن هنا مسألة وهي: لو أن إنساناً يصلي قاعداً بين القائم والجالس، كمن يصلي على كرسي ونحوه، فهذا فيه تفصيل، فإن كان جلوسه لوجود العلة وما يوجب ارتفاقه بعلو ونشز فلا إشكال في جواز ذلك وحله.

وأما إذا كان من دون حاجة، كأن يرى ذلك أيسر له، وأريح لنفسه وأجم لجسمه فإنه حينئذٍ ينبغي عليه أن يجلس في الأرض؛ لأنه ليس هناك ما بين القيام والقعود، فإما أن يقف على الأصل الذي أمر به الشرع، وإما أن يجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فلم يجعل ما بينهما موضعاً للرخصة، وإذا كان به علة أو مرض يمتنع معه نزوله إلى الأرض، كمن يكون به الضرر تحت ركبته، أو يكون عنده مرض يمنعه من النزول إلى الأرض فحينئذٍ يجلس على كرسيه.

فإذا جلس على كرسيه يبتدئ تكبيرة الإحرام واقفاً فيكبر، ثم إذا أطاق القيام قرأ الفاتحة وصلى قائماً بقدر ما يطيق، ثم يجلس إذا لحقه العناء والمشقة، أما أن يكون قادراً على القيام ويجلس مباشرة ويكبر وهو جالس فلا يجزيه، إنما يجزيه أن يكبر قائماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة وكبر).

فدل على أن التكبير يكون حال القيام، وعلى هذا فلابد وأن يفصل في مثل هذا بالآتي:

أولاً: أنه لا يجلس على الكرسي من دون حاجة، وإن جلس خالف الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لـعمران : (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فهذا ليس بقائم ولا قاعد في الصورة، وإن كان قاعداً في الحكم.

ثانياً: أن يكون محتاجاً لهذا الجلوس، فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يجلس، ولا يكبرها وهو جالس متى أطاق التكبير وهو قائم.

قوله: [فإن لم يستطع فعلى جنب]

هذا هو تكملة حديث عمران : (فإن لم تستطع فعلى جنب)، والجنب: هو شق الإنسان الأيمن أو الأيسر.

وقد اختلف العلماء في تعيين الجنب، فقال بعضهم: على جنبه الأيمن ويستقبل القبلة، وذلك لأنها صفة مَن في اللحد؛ إذ يوجه للقبلة على هذه الصفة. وقال بعضهم: على شقه الأيمن أو الأيسر أيهما شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق.

والمذهب الأول أحوط، خاصة وأن الحديث يقول: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه بعض العلماء رحمة الله عليهم، والعمل بالإجماع عليه في القبور.

وبناءً على توجيه الميت في قبره على هذه الصفة لفضل اليمين نقول: إذا أطاق الجنب الأيمن فإنه أولى وأحرى وفيه خروج من الخلاف، وفيه استئناس بالسنة المقيدة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً).

فدل على أن استقبال القبلة حال الاضطجاع إنما يكون بالشق الأيمن لا بالشق الأيسر، وهذا إذا أطاقه.

وأما إذا لم يطق الشق الأيمن فإنه ينتقل إلى الشق الأيسر ولا حرج، فإذا انتقل إلى الشق الأيسر فإنه يجعل القبلة في وجهه.

فيصلي على جنبه على التفصيل الذي ذكرناه من كونه إذا كان يطيق الجنبين يصلي على جنبه الأيمن للحديث الذي ذكرناه، ولاستقبال القبلة استئناساً بالفعل بالميت حال تقبيله في لحده.

وأما إذا كان لا يطيق الأيمن، أو فيه حرج عليه ومشقة فينتقل إلى الأيسر، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فيدخل الشق الأيسر لعموم قوله: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، وهذا على جنب.

قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى ورجلاه إلى القبلة صح].

وذلك بأن يكون مستلقياً كهيئة النائم، فقالوا: تصح صلاته. وهذا قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وله أصل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، فجعل النائم -وهو من استلقى- آخذاً نصف صلاة القاعد، كما في حديث: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، قالوا: فسماه مصلياً حال استلقائه على قفاه.

وبناءً على ذلك فإنه إذا اضطجع ونام على قفاه ووجهه إلى السماء قالوا: يُرفع صدره قليلاً، وهو التقبيل للميت، فيكون جذعه الأعلى إلى جهة القبلة، بحيث لو قام كان أول ما يباشره القبلة، وهكذا يكون التقبيل، وكذلك في الصلاة.

وهذا وجيه؛ لأنه يكون جزء استقبال كما لو كان قاعداً، فإن الشرع يقول: (فإن لم تستطع فقاعداً، وإن لم تستطع فعلى جنب)، فكأن الشرع يقصد في حال القيام وحال القعود وحال الجنب أن يكون جذعه إلى القبلة، فإذا كان مستلقياً على قفاه وأمكن أن يرفع صدره قليلاً حقق مقصود الشرع الذي دلت عليه الأحوال الثلاثة المنصوص عليها؛ لأنه لا بد من فهم الصور التي وردت في الشرع.

ففهم من هذا أن المقصود أن يكون جذعه إلى القبلة، فلما أمكنه أن يرفع صدره قليلاً -إذا كان على سريره في المستشفى أو نحوه- ويكون إلى جهة القبلة ورجلاه إلى جهة القبلة -وهذا هو التقبيل- جاز ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ويومئ راكعاً وساجداً ويخفضه عن الركوع].

قوله: [ويخفضه] أي: السجود يخفضه عن الركوع، وقوله: [يومئ] أي: يشير برأسه. وذلك إذا أصيب بمرض وأصبح لا يستطيع أن يتحرك ولزم فراشه وهو مستلق على وجهه، فإنه يُرفع صدره قليلاً إن أمكن ولم تكن هناك مشقة، ثم يقول: (الله أكبر) ويقرأ، ثم بعد ذلك يحرك رأسه للركوع.

فإذا كان يستطيع أن يحني رأسه -مثلاً- أربع درجات، وكان هذا أقصى ما يستطيع أن يحني إليه رأسه، يجعل نصف هذا الانحناء للركوع ثم يرفع، ثم يجعل أبلغ ما يستطيع من الانحناء والإيماء للسجود، فإذا فعل ذلك أجزأه لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

وبناءً على ذلك يُرخص له أن يحرك رأسه، فإن عجز -نسأل الله السلامة والعافية- عن أن يصلي قاعداً، وعجز أن يصلي على جنب، وعجز أن يصلي بالإيماء فإنه حينئذٍ لا يتحرك، وتسقط عنه أفعال الصلاة، ويصلي ويقرأ، وإن عجز عن الفعل والقراءة فإنه يصلي ولو بنيته في قلبه، وبحديثه في نفسه بما يكون من أذكار الصلاة، ويجزيه ذلك ويعتد به، لقوله سبحانه وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهذا الذي بوسعه.

وقد تقدم معنا أنه إذا عجز عن القيام صلى قاعداً، وكذلك إذا عجز عن الصلاة قاعداً أنه يصلي على جنب، وبينا دليل ذلك من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، وغيره من الأحاديث الأخرى التي دلت على مشروعيـة الانتقال إلى مـا هو أرفق للمريض في صلاته.

وهنا تأكيد لما مضى، فإذا عجز المريض عن القيام صلى قاعداً، وهكذا إذا عجز عن الركوع والسجود فإنه يومئ، وإذا عجز عن الإيماء قالوا: إنه يومئ بعينه، أي: بطرفه.

وهذا كله تدرج وانتقال مما يشق إلى ما هو أخف، ولذلك يذكر العلماء رحمهم الله من صور الرخصة التخفيف.

وهذا النوع من التخفيف -وهو انتقال المريض من القيام إلى القعود، ومن القعود إلى الصلاة على جنب- راجع إلى التخفيف في الهيئة، وذلك لأن الصلاة رخصها وتخفيفاتها على أقسام.

وسنبين إن شاء الله أنواع هذه التخفيفات عند انتهاء الفصل والشروع في الفصل الذي بعده.

فالمقصود أن المصنف رحمه الله قرر بهذه العبارة أنه إذا عجز عن الصلاة بحيث لم يستطع القيام ولا الصلاة وهو قاعد، ولم يستطع كذلك أن يومئ برأسه فليومئ بعينه.

وهذا مذهب بعض العلماء، وليس ثم دليل صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الإيماء بالعين.

ولذلك يختار بعض العلماء والمحققين رحمة الله عليهم أنه يسقط عنه فعل الصلاة، وأنه يبقى له الأذكار، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويقرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها سورة، ثم يقول: (الله أكبر)، ويسبح، ثم يقول سمع الله لمن حمده، ثم يثني على الله، ثم يكبر، وينتقل بالأذكار مرتبة، ولكن لا يفعل الأفعال.

ووجه ذلك أنه سقط عنه التكليف بالفعل للعجز، فبقي التكليف بالقول؛ لأنه في الصلاة مكلف بالفعل من قيام وركوع وسجود ونحوه، والقول من قراءة للفاتحة وتكبير وتسميع وتحميد ونحو ذلك.

فإذا عجز عن الأفعال بقيت المطالبة وبقي الخطاب، فيُطالَب بالأقوال، فقالوا: يكبر ويقول: (الله أكبر) على أي حالة كان، ما دام أنه لا يستطيع أن يفعل هذه الصفات التي ذكرناها، ولا شك أن هذا القول هو الأسعد بالأدلة ونصوص الشريعة العامة التي تدل على مطلق الرُّخص.

يقول المصنف: [فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر]

إذا كان المريض في الصلاة لا يستطيع القيام، وقوي على القيام أثناء الصلاة، أو كان مستطيعاً القيام ثم طرأ عليه العذر أثناء الصلاة، فإنه ينتقل إلى الصورتين، فينتقل إلى القيام إن قوي عليه وهو جالس، وينتقل إلى القعود إن عجز عن القيام.

مثال ذلك: لو أن إنساناً جاءه مرض يشتكي منه لا يستطيع معه القيام فيجلس فوراً، ثم يتم صلاته جالساً على الصفة التي ذكرناها.

وهكذا الحال لو كان العكس، فلو أنه ابتدأ الصلاة قاعداً لوجود العذر، ثم وجد الخفة والنشاط فإنه تبطل تلك الرخصة ويلزمه القيام؛ لأن القاعدة تقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله).

فهو في الأصل مطالب بالقيام، وإنما سقط عنه القيام لوجود العذر، فلما زال العذر توجه عليه الخطاب بالقيام إعمالاً للأصل، فوجب عليه أن يرجع إلى القيام.

ولا يترخص إلا مع وجود العذر، فإن كان العذر معه وزال رجع إلى الأصل، وإن كان على الأصل وطرأ عليه العذر ترخص.

وهنا تنبيه: فإن المصنف يرجع إلى مسلك الفقهاء رحمة الله عليهم في ترتيب الكتب الفقهية، فقد ذكر رحمه الله المسائل المتعلقة بالمعذور، وأنه إذا لم يقو على القيام يصلي قاعداً، وإذا لم يستطع يصلي على جنب.

فنبه بهذه العبارة إلى أن العذر يؤثر إذا طرأ، أي: يستوي في ذلك أن يكون الإنسان معذوراً من الابتداء، أو طرأ عليه العذر أثناء الصلاة.

فلو أن إماماً يصلي بالناس، ثم أثناء قراءته للفاتحة أصابه مرض أو أصابه ألم، فإنه في هذه الحالة إذا لم يُطق القيام فله أن يترخص بالجلوس، وهكذا لو كان منفرداً على ما ذكرناه.

قال رحمه الله تعالى: [وإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً وسجود قاعداً].

هذه صورة العذر في أجزاء الصلاة، وهي إذا كان يستطيع القيام ولكنه لا يستطيع الركوع، ويستطع القعود ولكنه لا يستطيع السجود، كما لو كانت به عملية في عينه ومنعه الأطباء الثقات من أن يركع أو يسجد، فإنه في هذه الحالة عندنا خطاب شرعي يُلزمه بالقيام للصلاة، فنقول: إنه يبتدئ صلاته فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن، فإذا أراد أن يركع فإنه يومئ برأسه، ثم يسبح ويذكر الله ويرفع رأسه، ويكون إيماؤه ورفعه من الإيماء إشارة إلى الركوع ويجزيه ذلك.

فإذا أراد أن يسجد جلس، وحينئذٍ إذا جلس واستقر على الأرض فإنه يومئ بالسجود، وإذا كان هناك إيماء يجعل السجود في حال القعود، ويجعل الركوع في حال القيام، بمعنى أننا لا نقول له: اجلس وصل قاعداً؛ لأنه يطيق القيام، فلا رخصة له في إسقاط القيام الذي ثبت بنص الكتاب والسنة كما بيّنا.

وبناءً على ذلك نلزمه بالقيام لقراءة الفاتحة وما تيسر، وهكذا بالنسبة للركن الذي بعد الركوع الذي هو الرفع، ثم بعد ذلك ينتقل إلى السجود فيجلس ثم يومئ بالسجود.

صلاة المريض مستلقياً مع القدرة على القيام للمداواة

قال رحمه الله تعالى: [ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم]

قوله: [لمريض الصلاة مستلقياً] هذا إذا كان العذر الدواء والعلاج، كما في بعض الأمراض الجراحية في بعض الأعضاء التي لا يستطيع معها أن يركع ولا يسجد ولا يقف، فحينئذٍ إذا كان على الفراش بحيث لا يستطيع أن يقوم فإنه يصلي على هذه الحالة.

كذلك لو كان يتداوى، فلو كان المرض في عينيه وأُلزم بوضع معين لا يستطيع معه القيام ولا يستطيع معه الركوع ولا السجود، وقيل له: إن قمت أو ركعت أو سجدت فإنه سيحدث الضرر فإنه في هذه الحالة يصلي وهو مستلقٍ، لكن بشرط أن يكون ذلك بشهادة طبيب مسلم.

ووجه هذا أن احتمال وقوع الضرر بغلبة الظن كوجوده؛ لأن القاعدة: (الغالب كالمحقق)، فلما غلب على ظننا أنه لو صلى قائماً أو ركع أو سجد يصاب بالضرر والأذى، أو أن علاجه لا يتمكن منه الطبيب، فإنه حينئذٍ يعتبر هذا رخصة، كما لو كان مريضاً لا يطيق القيام والركوع والسجود.

وهذا قول جمع من السلف، وأُثر عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً روي عن ابن عباس أنه شدد في ذلك، حتى قالوا: إن سبب العمى الذي بلي به رضي الله عنه وأرضاه أنه نصحه الطبيب في علاجٍ وضعه له أن لا يسجد، فامتنع وسجد فكُفَّ بصره رضي الله عنـه وأرضاه، فهـذا مما ذكروه.

فالشاهد أنه كان بعض السلف يشدد في هذه المسألة ويقول: التداوي ليس كالمرض الذي يمنع. والصحيح أنه ينزل منزلة المرض المانع، وإنه إذا كان بالإنسان عملية جراحية، أو يتداوى من مرض في جوفه أو في صلبه أو في عينيه، أو نحو ذلك من الأمراض التي تكون في مواضع الجسم المختلفة، وقيل له: إنه لا يتم علاجك إلا إذا امتنعت من الركوع، أو امتنعت من السجود، أو امتنعت من القيام فإنه يمتنع، بشرط أن يكون الطبيب الذي يخبره عدلاً مسلماً.

والسبب في ذلك أنها أمور الديانات، وأمور الديانات لا يُجتزأ فيها إلا بشهادة الثقة العدل، وأما إذا كان غير ثقة وغير عدل فإنه يُنتقل إلى من هو أعدل منه.

فإذا وجد الطبيب المسلم الذي يشهد له بهذا فلا إشكال، وحينئذٍ إذا قال له الطبيب الكافر: ينبغي عليك أن تصلي مستلقياً. فإنه لا يسمع قوله حتى يشهد الطبيب المسلم؛ لأن وجود الطبيب المسلم يغني عن شهادة الكافر.

والسبب في ذلك أن الكافر لا يُوثق بقوله في الديانات، وقد كان بعض أئمة السلف رحمة الله عليهم -مثل الإمام أحمد رحمه الله- يستطب عند اليهودي والنصراني، فيقول الراوي: كان يستطبه بمعنى أنه يتعالج عنده ويعتمد على ما يصفه له من دواء.

فإذا نهاه عن أمر من أمور الديانة، كأن يقول له: لا تصم. أو: صلِّ قاعداً. لم يطع في ذلك لمكان التهمة، وهذا إذا لم يوجد المسلم، وإذا وجد المسلم فعلى حالتين:

الأولى: أن يوجد العدل وغير العدل، فحينئذٍ ينبغي اعتبار شهادة العدل دون غير العدل.

الثانية: أن لا يوجد العدل، بأن يكون الأطباء ليس فيهم مَن تتوفر فيه شروط الشهادة المعتبرة، فحينئذٍ يؤخذ بأمثلهم.

وهذه قاعدة قررها جمع من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن فرحون في تبصرة الحكام، حيث بين فيها أنه يرجع إلى الأمثل في مثل هذا إذا تعذر وجود العدل في أهل الصنعة.

فالقاضي لو احتاج إلى قول أهل الخبرة في الخصومات والنزاعات من مهندسين أو أطباء ولم يجد العدل فإنه يأخذ أمثلهم، وهو من وُجدت فيه صفات أفضل من غيره.

وعلى هذا فإما أن يوجد المسلم والكافر، فلا يجوز أن يقبل شهادة الكافر مع وجود شهادة المسلم، وإما أن لا يوجد الطبيب المسلم، كأن يكون هذا المرض الذي به لا يحسنه إلا طبيب كافر، أو في بلد ليس فيه إلا كفار، فحينئذٍ يأخذ بشهادة أمثلهم، وله أن يأخذ بذلك.

وهذه المسألة تكلم عليها الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام نفيس في الفتاوى المصرية، بيّن فيه رحمة الله عليه أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالكافر والمشرك إذا أُمنت منه المفسدة، وذكر لذلك الأدلة الصحيحة، ومنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً). وهو عبد الله بن أريقط، والحديث ثابت في الصحيحين، ووجه ذلك أنه مكَّنه من السير معهما في الهجرة، والهجرة يُسلك فيها مسالك وعرة، ومسالك لا يسلكها الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد التخفي عن العيون، ومع ذلك مكنه النبي صلى الله عليه وسلم من السير بهما لمكان الثقة.

وكذلك ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد، فقال: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمهم وكافرهم.

فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بأخبارهم مع أنهم مع الشرك والكفر، لكن علم فيهم الثقة والأمانة.

وكذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة ، وكان على دين قومه، ومع هذا قال: لم يمنعه الكفر أن يأمرهم أن يستطبوه.

فالشاهد من هذا كله أنه لا مانع من أخذ شهادة الطبيب الكافر إذا لم يوجد طبيب مسلم في هذا المرض الذي يحتاج المسلم لعلاجه، أو كان المسلم في بلد فيه كفار وأطباء كفار ولا يوجد المسلم فإنه يعمل بشهادتهم وقولهم.

ذبسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة أهل الأعذار].

أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالمعذورين.

وهذا الباب من أهم الأبواب، نظراً لأنه تعم به البلوى، خاصة وأن المرضى يكثر تساؤلهم: كيف يصلون؟ وقد يكون الإنسان مريضاً في نفسه أو في جسده، وقد يكون في بيته المريض فيسأله، وقد يسأل عامة الناس عن مثل هذه المسائل والأحكام.

وقد اعتنت نصوص الكتاب ونصوص السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان الرخص وأهل الأعذار.

فبعد أن فرغ رحمه الله من أهل الأعذار في شهود الصلاة مع الجماعة شرع في أهل الأعذار الذين يعذرون في صفة أداء الصلاة.

فهناك من يعذر في شهود الصلاة، وهناك من يعذر في كيفية أداء الصلاة، وهذا الباب من أهم الأبواب؛ لأن مسائل الناس تكثر عنه، وهو صلاة المريض وما في حكمه.

قال رحمه الله تعالى: [تلزم المريض الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب]

قوله: [تلزم المريض الصلاة قائماً] أي: إذا أطاق ذلك وقدر عليه، والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، فدل على أن من يصلي يكون قائماً.

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة ثم كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام لـعمران بن حصين: (صل قائماً) .

فالأصل أن يصلي الإنسان قائماً، والمريض مطالب بالصلاة قائماً، ولكن إذا أطاق القيام، وأما إذا كان عاجزاً عنه ففيه التفصيل.

وهذا هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عمران بن حصين ، وكانت بـعمران رضي الله عنه وأرضاه بواسير فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يجده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً..)، فدل هذا على الأصل.

ولذلك نقول: الأصل في المصلي أن يصلي قائماً بنص الكتاب ونصوص السنة التي ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام لـعمران وهو مريض: (صل قائماً).

قوله: [فإن لم يستطع فقاعداً].

أي: لا يستطيع أن يقوم، كأن يكون الإنسان مصاباً بالشلل والعياذ بالله، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى الرخصة، فشرط إيجاب القيام الاستطاعة والقدرة، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

والمريض إذا لم يستطع القيام فله حالات:

الحالة الأولى: أن لا يستطيعه بالكلية، فحينئذٍ يصلي جميع الصلوات قاعداً بلا إشكال.

الحالة الثانية: أن يطيق بعض القيام دون بعض، فحينئذٍ يلزمه القيام بقدر ما يطيق، ويأتي هذا على صورتين:

الأولى: أن يستطيع القيام من أول الصلاة ثم يضعف، فالرخصة له بعد ضعفه، فنقول له: افتتح الصلاة وصل قائماً، فإذا أحسست بالعناء والمشقة جلست.

الثانية: أن يكون العكس، كأن يبتدئ الصلاة عاجزاً ثم يجد الخفة والنشاط، فنقول: تُلزَم بالقيام، ويلزمك أن تتم قائماً.

وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصورة الثانية، حيث كان في قيام الليل يصلي قاعداً لما بدُن وكثر لحمه عليه الصلاة والسلام وأسن صلوات الله وسلامه عليه، فكان لا يطيق طول القيام؛ لأنه كانت ركعته بما يقارب البقرة وآل عمران والمائدة، حتى إن قدمه تتفسخ من طول القيام صلوات الله وسلامه عليه.

فلما كبر وضعف في آخر سنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قاعداً، تقول أم المؤمنين: حتى إذا بقي قدر مائة قام. فجعل الإطاقة بعده، ولذلك يقولون: إذا كان الإنسان بمثل هذه الحالة فالأفضل أن يجعل ذلك في الثانية.

أما إذا كان في الفرض فإنه يبتدئ بقدرته، ثم إذا وجد الضعف ترخص عند وجود الضعف.

وأما جلسة المريض فهناك من يجلس متربعاً، وهناك من يجلس مفترشاً، وهناك من يجلس متوركاً كجلسة التشهد، فهل يصلي قاعداً متربعاً، أو يصلي قاعداً كقعدة التشهد؟

هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فمن العلماء من قال يتربع. وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عن بعض أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بعضهم بل يفترش. وقد أشار إليهما الإمام ابن المنذر رحمه الله في الأوسط، وكذلك أشار إليها الإمام الطبري في اختلاف الفقهاء.

هذان الوجهان مشهوران عن أهل العلم، فالذين يقولون: يجلس جلسة المتشهد قالوا: لأنها جلسة صلاته، إذ لا يعرف في الصلاة أن يجلس متربعاً، وإنما جلسته في الصلاة لما يُصلي ويبلغ الجلسة بين السجدتين أو التشهد، ما عهدنا من الشرع أنه يجلس كجلسة التشهد.

وبناءً على ذلك قالوا: إنه يجلس مفترشاً.

والصحيح أنه يجلس جلسة المفترش، ولا حرج عليه أن يجلس جلسة المتربع، خاصة إذا كان يحتاج إليها، أما جلسة الافتراش فإنها أشبه عند طائفة من السلف رحمة الله عليهم؛ لأنها هي جلسة الصلاة.

والحديث الذي ورد في تربعه عليه الصلاة والسلام فيه كلام لا يخلو من ضعف، فقالوا: إنه يجلس جلسة المتشهد.

والدليل على أنه يجوز له أن يصلي على هذه الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق، فقال عليه الصلاة والسلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فمن جلس متربعاً فهو قاعد، ومن جلس مفترشاً فهو قاعد، لقوله عليه الصلاة والسلام في المفترش: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، فسمَّى جلسة التشهد ووصفها بكونها قعدة.

ولذلك يكون الافتراش أولى وأشبه لأنه على صفة الصلاة؛ لقوله: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، ولأنها جلسة معهودة، فهو أولى وأحرى.

لكن هنا مسألة وهي: لو أن إنساناً يصلي قاعداً بين القائم والجالس، كمن يصلي على كرسي ونحوه، فهذا فيه تفصيل، فإن كان جلوسه لوجود العلة وما يوجب ارتفاقه بعلو ونشز فلا إشكال في جواز ذلك وحله.

وأما إذا كان من دون حاجة، كأن يرى ذلك أيسر له، وأريح لنفسه وأجم لجسمه فإنه حينئذٍ ينبغي عليه أن يجلس في الأرض؛ لأنه ليس هناك ما بين القيام والقعود، فإما أن يقف على الأصل الذي أمر به الشرع، وإما أن يجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فلم يجعل ما بينهما موضعاً للرخصة، وإذا كان به علة أو مرض يمتنع معه نزوله إلى الأرض، كمن يكون به الضرر تحت ركبته، أو يكون عنده مرض يمنعه من النزول إلى الأرض فحينئذٍ يجلس على كرسيه.

فإذا جلس على كرسيه يبتدئ تكبيرة الإحرام واقفاً فيكبر، ثم إذا أطاق القيام قرأ الفاتحة وصلى قائماً بقدر ما يطيق، ثم يجلس إذا لحقه العناء والمشقة، أما أن يكون قادراً على القيام ويجلس مباشرة ويكبر وهو جالس فلا يجزيه، إنما يجزيه أن يكبر قائماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة وكبر).

فدل على أن التكبير يكون حال القيام، وعلى هذا فلابد وأن يفصل في مثل هذا بالآتي:

أولاً: أنه لا يجلس على الكرسي من دون حاجة، وإن جلس خالف الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لـعمران : (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فهذا ليس بقائم ولا قاعد في الصورة، وإن كان قاعداً في الحكم.

ثانياً: أن يكون محتاجاً لهذا الجلوس، فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يجلس، ولا يكبرها وهو جالس متى أطاق التكبير وهو قائم.

قوله: [فإن لم يستطع فعلى جنب]

هذا هو تكملة حديث عمران : (فإن لم تستطع فعلى جنب)، والجنب: هو شق الإنسان الأيمن أو الأيسر.

وقد اختلف العلماء في تعيين الجنب، فقال بعضهم: على جنبه الأيمن ويستقبل القبلة، وذلك لأنها صفة مَن في اللحد؛ إذ يوجه للقبلة على هذه الصفة. وقال بعضهم: على شقه الأيمن أو الأيسر أيهما شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق.

والمذهب الأول أحوط، خاصة وأن الحديث يقول: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه بعض العلماء رحمة الله عليهم، والعمل بالإجماع عليه في القبور.

وبناءً على توجيه الميت في قبره على هذه الصفة لفضل اليمين نقول: إذا أطاق الجنب الأيمن فإنه أولى وأحرى وفيه خروج من الخلاف، وفيه استئناس بالسنة المقيدة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً).

فدل على أن استقبال القبلة حال الاضطجاع إنما يكون بالشق الأيمن لا بالشق الأيسر، وهذا إذا أطاقه.

وأما إذا لم يطق الشق الأيمن فإنه ينتقل إلى الشق الأيسر ولا حرج، فإذا انتقل إلى الشق الأيسر فإنه يجعل القبلة في وجهه.

فيصلي على جنبه على التفصيل الذي ذكرناه من كونه إذا كان يطيق الجنبين يصلي على جنبه الأيمن للحديث الذي ذكرناه، ولاستقبال القبلة استئناساً بالفعل بالميت حال تقبيله في لحده.

وأما إذا كان لا يطيق الأيمن، أو فيه حرج عليه ومشقة فينتقل إلى الأيسر، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فيدخل الشق الأيسر لعموم قوله: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، وهذا على جنب.

قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى ورجلاه إلى القبلة صح].

وذلك بأن يكون مستلقياً كهيئة النائم، فقالوا: تصح صلاته. وهذا قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وله أصل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، فجعل النائم -وهو من استلقى- آخذاً نصف صلاة القاعد، كما في حديث: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، قالوا: فسماه مصلياً حال استلقائه على قفاه.

وبناءً على ذلك فإنه إذا اضطجع ونام على قفاه ووجهه إلى السماء قالوا: يُرفع صدره قليلاً، وهو التقبيل للميت، فيكون جذعه الأعلى إلى جهة القبلة، بحيث لو قام كان أول ما يباشره القبلة، وهكذا يكون التقبيل، وكذلك في الصلاة.

وهذا وجيه؛ لأنه يكون جزء استقبال كما لو كان قاعداً، فإن الشرع يقول: (فإن لم تستطع فقاعداً، وإن لم تستطع فعلى جنب)، فكأن الشرع يقصد في حال القيام وحال القعود وحال الجنب أن يكون جذعه إلى القبلة، فإذا كان مستلقياً على قفاه وأمكن أن يرفع صدره قليلاً حقق مقصود الشرع الذي دلت عليه الأحوال الثلاثة المنصوص عليها؛ لأنه لا بد من فهم الصور التي وردت في الشرع.

ففهم من هذا أن المقصود أن يكون جذعه إلى القبلة، فلما أمكنه أن يرفع صدره قليلاً -إذا كان على سريره في المستشفى أو نحوه- ويكون إلى جهة القبلة ورجلاه إلى جهة القبلة -وهذا هو التقبيل- جاز ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ويومئ راكعاً وساجداً ويخفضه عن الركوع].

قوله: [ويخفضه] أي: السجود يخفضه عن الركوع، وقوله: [يومئ] أي: يشير برأسه. وذلك إذا أصيب بمرض وأصبح لا يستطيع أن يتحرك ولزم فراشه وهو مستلق على وجهه، فإنه يُرفع صدره قليلاً إن أمكن ولم تكن هناك مشقة، ثم يقول: (الله أكبر) ويقرأ، ثم بعد ذلك يحرك رأسه للركوع.

فإذا كان يستطيع أن يحني رأسه -مثلاً- أربع درجات، وكان هذا أقصى ما يستطيع أن يحني إليه رأسه، يجعل نصف هذا الانحناء للركوع ثم يرفع، ثم يجعل أبلغ ما يستطيع من الانحناء والإيماء للسجود، فإذا فعل ذلك أجزأه لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

وبناءً على ذلك يُرخص له أن يحرك رأسه، فإن عجز -نسأل الله السلامة والعافية- عن أن يصلي قاعداً، وعجز أن يصلي على جنب، وعجز أن يصلي بالإيماء فإنه حينئذٍ لا يتحرك، وتسقط عنه أفعال الصلاة، ويصلي ويقرأ، وإن عجز عن الفعل والقراءة فإنه يصلي ولو بنيته في قلبه، وبحديثه في نفسه بما يكون من أذكار الصلاة، ويجزيه ذلك ويعتد به، لقوله سبحانه وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهذا الذي بوسعه.

وقد تقدم معنا أنه إذا عجز عن القيام صلى قاعداً، وكذلك إذا عجز عن الصلاة قاعداً أنه يصلي على جنب، وبينا دليل ذلك من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، وغيره من الأحاديث الأخرى التي دلت على مشروعيـة الانتقال إلى مـا هو أرفق للمريض في صلاته.

وهنا تأكيد لما مضى، فإذا عجز المريض عن القيام صلى قاعداً، وهكذا إذا عجز عن الركوع والسجود فإنه يومئ، وإذا عجز عن الإيماء قالوا: إنه يومئ بعينه، أي: بطرفه.

وهذا كله تدرج وانتقال مما يشق إلى ما هو أخف، ولذلك يذكر العلماء رحمهم الله من صور الرخصة التخفيف.

وهذا النوع من التخفيف -وهو انتقال المريض من القيام إلى القعود، ومن القعود إلى الصلاة على جنب- راجع إلى التخفيف في الهيئة، وذلك لأن الصلاة رخصها وتخفيفاتها على أقسام.

وسنبين إن شاء الله أنواع هذه التخفيفات عند انتهاء الفصل والشروع في الفصل الذي بعده.

فالمقصود أن المصنف رحمه الله قرر بهذه العبارة أنه إذا عجز عن الصلاة بحيث لم يستطع القيام ولا الصلاة وهو قاعد، ولم يستطع كذلك أن يومئ برأسه فليومئ بعينه.

وهذا مذهب بعض العلماء، وليس ثم دليل صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الإيماء بالعين.

ولذلك يختار بعض العلماء والمحققين رحمة الله عليهم أنه يسقط عنه فعل الصلاة، وأنه يبقى له الأذكار، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويقرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها سورة، ثم يقول: (الله أكبر)، ويسبح، ثم يقول سمع الله لمن حمده، ثم يثني على الله، ثم يكبر، وينتقل بالأذكار مرتبة، ولكن لا يفعل الأفعال.

ووجه ذلك أنه سقط عنه التكليف بالفعل للعجز، فبقي التكليف بالقول؛ لأنه في الصلاة مكلف بالفعل من قيام وركوع وسجود ونحوه، والقول من قراءة للفاتحة وتكبير وتسميع وتحميد ونحو ذلك.

فإذا عجز عن الأفعال بقيت المطالبة وبقي الخطاب، فيُطالَب بالأقوال، فقالوا: يكبر ويقول: (الله أكبر) على أي حالة كان، ما دام أنه لا يستطيع أن يفعل هذه الصفات التي ذكرناها، ولا شك أن هذا القول هو الأسعد بالأدلة ونصوص الشريعة العامة التي تدل على مطلق الرُّخص.

يقول المصنف: [فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر]

إذا كان المريض في الصلاة لا يستطيع القيام، وقوي على القيام أثناء الصلاة، أو كان مستطيعاً القيام ثم طرأ عليه العذر أثناء الصلاة، فإنه ينتقل إلى الصورتين، فينتقل إلى القيام إن قوي عليه وهو جالس، وينتقل إلى القعود إن عجز عن القيام.

مثال ذلك: لو أن إنساناً جاءه مرض يشتكي منه لا يستطيع معه القيام فيجلس فوراً، ثم يتم صلاته جالساً على الصفة التي ذكرناها.

وهكذا الحال لو كان العكس، فلو أنه ابتدأ الصلاة قاعداً لوجود العذر، ثم وجد الخفة والنشاط فإنه تبطل تلك الرخصة ويلزمه القيام؛ لأن القاعدة تقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله).

فهو في الأصل مطالب بالقيام، وإنما سقط عنه القيام لوجود العذر، فلما زال العذر توجه عليه الخطاب بالقيام إعمالاً للأصل، فوجب عليه أن يرجع إلى القيام.

ولا يترخص إلا مع وجود العذر، فإن كان العذر معه وزال رجع إلى الأصل، وإن كان على الأصل وطرأ عليه العذر ترخص.

وهنا تنبيه: فإن المصنف يرجع إلى مسلك الفقهاء رحمة الله عليهم في ترتيب الكتب الفقهية، فقد ذكر رحمه الله المسائل المتعلقة بالمعذور، وأنه إذا لم يقو على القيام يصلي قاعداً، وإذا لم يستطع يصلي على جنب.

فنبه بهذه العبارة إلى أن العذر يؤثر إذا طرأ، أي: يستوي في ذلك أن يكون الإنسان معذوراً من الابتداء، أو طرأ عليه العذر أثناء الصلاة.

فلو أن إماماً يصلي بالناس، ثم أثناء قراءته للفاتحة أصابه مرض أو أصابه ألم، فإنه في هذه الحالة إذا لم يُطق القيام فله أن يترخص بالجلوس، وهكذا لو كان منفرداً على ما ذكرناه.

قال رحمه الله تعالى: [وإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً وسجود قاعداً].

هذه صورة العذر في أجزاء الصلاة، وهي إذا كان يستطيع القيام ولكنه لا يستطيع الركوع، ويستطع القعود ولكنه لا يستطيع السجود، كما لو كانت به عملية في عينه ومنعه الأطباء الثقات من أن يركع أو يسجد، فإنه في هذه الحالة عندنا خطاب شرعي يُلزمه بالقيام للصلاة، فنقول: إنه يبتدئ صلاته فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن، فإذا أراد أن يركع فإنه يومئ برأسه، ثم يسبح ويذكر الله ويرفع رأسه، ويكون إيماؤه ورفعه من الإيماء إشارة إلى الركوع ويجزيه ذلك.

فإذا أراد أن يسجد جلس، وحينئذٍ إذا جلس واستقر على الأرض فإنه يومئ بالسجود، وإذا كان هناك إيماء يجعل السجود في حال القعود، ويجعل الركوع في حال القيام، بمعنى أننا لا نقول له: اجلس وصل قاعداً؛ لأنه يطيق القيام، فلا رخصة له في إسقاط القيام الذي ثبت بنص الكتاب والسنة كما بيّنا.

وبناءً على ذلك نلزمه بالقيام لقراءة الفاتحة وما تيسر، وهكذا بالنسبة للركن الذي بعد الركوع الذي هو الرفع، ثم بعد ذلك ينتقل إلى السجود فيجلس ثم يومئ بالسجود.

قال رحمه الله تعالى: [ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم]

قوله: [لمريض الصلاة مستلقياً] هذا إذا كان العذر الدواء والعلاج، كما في بعض الأمراض الجراحية في بعض الأعضاء التي لا يستطيع معها أن يركع ولا يسجد ولا يقف، فحينئذٍ إذا كان على الفراش بحيث لا يستطيع أن يقوم فإنه يصلي على هذه الحالة.

كذلك لو كان يتداوى، فلو كان المرض في عينيه وأُلزم بوضع معين لا يستطيع معه القيام ولا يستطيع معه الركوع ولا السجود، وقيل له: إن قمت أو ركعت أو سجدت فإنه سيحدث الضرر فإنه في هذه الحالة يصلي وهو مستلقٍ، لكن بشرط أن يكون ذلك بشهادة طبيب مسلم.

ووجه هذا أن احتمال وقوع الضرر بغلبة الظن كوجوده؛ لأن القاعدة: (الغالب كالمحقق)، فلما غلب على ظننا أنه لو صلى قائماً أو ركع أو سجد يصاب بالضرر والأذى، أو أن علاجه لا يتمكن منه الطبيب، فإنه حينئذٍ يعتبر هذا رخصة، كما لو كان مريضاً لا يطيق القيام والركوع والسجود.

وهذا قول جمع من السلف، وأُثر عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً روي عن ابن عباس أنه شدد في ذلك، حتى قالوا: إن سبب العمى الذي بلي به رضي الله عنه وأرضاه أنه نصحه الطبيب في علاجٍ وضعه له أن لا يسجد، فامتنع وسجد فكُفَّ بصره رضي الله عنـه وأرضاه، فهـذا مما ذكروه.

فالشاهد أنه كان بعض السلف يشدد في هذه المسألة ويقول: التداوي ليس كالمرض الذي يمنع. والصحيح أنه ينزل منزلة المرض المانع، وإنه إذا كان بالإنسان عملية جراحية، أو يتداوى من مرض في جوفه أو في صلبه أو في عينيه، أو نحو ذلك من الأمراض التي تكون في مواضع الجسم المختلفة، وقيل له: إنه لا يتم علاجك إلا إذا امتنعت من الركوع، أو امتنعت من السجود، أو امتنعت من القيام فإنه يمتنع، بشرط أن يكون الطبيب الذي يخبره عدلاً مسلماً.

والسبب في ذلك أنها أمور الديانات، وأمور الديانات لا يُجتزأ فيها إلا بشهادة الثقة العدل، وأما إذا كان غير ثقة وغير عدل فإنه يُنتقل إلى من هو أعدل منه.

فإذا وجد الطبيب المسلم الذي يشهد له بهذا فلا إشكال، وحينئذٍ إذا قال له الطبيب الكافر: ينبغي عليك أن تصلي مستلقياً. فإنه لا يسمع قوله حتى يشهد الطبيب المسلم؛ لأن وجود الطبيب المسلم يغني عن شهادة الكافر.

والسبب في ذلك أن الكافر لا يُوثق بقوله في الديانات، وقد كان بعض أئمة السلف رحمة الله عليهم -مثل الإمام أحمد رحمه الله- يستطب عند اليهودي والنصراني، فيقول الراوي: كان يستطبه بمعنى أنه يتعالج عنده ويعتمد على ما يصفه له من دواء.

فإذا نهاه عن أمر من أمور الديانة، كأن يقول له: لا تصم. أو: صلِّ قاعداً. لم يطع في ذلك لمكان التهمة، وهذا إذا لم يوجد المسلم، وإذا وجد المسلم فعلى حالتين:

الأولى: أن يوجد العدل وغير العدل، فحينئذٍ ينبغي اعتبار شهادة العدل دون غير العدل.

الثانية: أن لا يوجد العدل، بأن يكون الأطباء ليس فيهم مَن تتوفر فيه شروط الشهادة المعتبرة، فحينئذٍ يؤخذ بأمثلهم.

وهذه قاعدة قررها جمع من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن فرحون في تبصرة الحكام، حيث بين فيها أنه يرجع إلى الأمثل في مثل هذا إذا تعذر وجود العدل في أهل الصنعة.

فالقاضي لو احتاج إلى قول أهل الخبرة في الخصومات والنزاعات من مهندسين أو أطباء ولم يجد العدل فإنه يأخذ أمثلهم، وهو من وُجدت فيه صفات أفضل من غيره.

وعلى هذا فإما أن يوجد المسلم والكافر، فلا يجوز أن يقبل شهادة الكافر مع وجود شهادة المسلم، وإما أن لا يوجد الطبيب المسلم، كأن يكون هذا المرض الذي به لا يحسنه إلا طبيب كافر، أو في بلد ليس فيه إلا كفار، فحينئذٍ يأخذ بشهادة أمثلهم، وله أن يأخذ بذلك.

وهذه المسألة تكلم عليها الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام نفيس في الفتاوى المصرية، بيّن فيه رحمة الله عليه أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالكافر والمشرك إذا أُمنت منه المفسدة، وذكر لذلك الأدلة الصحيحة، ومنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً). وهو عبد الله بن أريقط، والحديث ثابت في الصحيحين، ووجه ذلك أنه مكَّنه من السير معهما في الهجرة، والهجرة يُسلك فيها مسالك وعرة، ومسالك لا يسلكها الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد التخفي عن العيون، ومع ذلك مكنه النبي صلى الله عليه وسلم من السير بهما لمكان الثقة.

وكذلك ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد، فقال: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمهم وكافرهم.

فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بأخبارهم مع أنهم مع الشرك والكفر، لكن علم فيهم الثقة والأمانة.

وكذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة ، وكان على دين قومه، ومع هذا قال: لم يمنعه الكفر أن يأمرهم أن يستطبوه.

فالشاهد من هذا كله أنه لا مانع من أخذ شهادة الطبيب الكافر إذا لم يوجد طبيب مسلم في هذا المرض الذي يحتاج المسلم لعلاجه، أو كان المسلم في بلد فيه كفار وأطباء كفار ولا يوجد المسلم فإنه يعمل بشهادتهم وقولهم.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3614 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3436 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3369 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3333 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3314 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3266 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3219 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3180 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع