تفسير سورة النحل (13)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [النحل:67-70].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه السورة عرفتم أنها تسمى سورة النحل؛ وذلك لذكر النحل فيها كما سمعتم أثناء ترتيل الآيات، وسميت كذلك بسورة النعم لكثرة ما ذكر تعالى من نعمه على عباده. ‏

ذكر نعمة اللبن ودلالتها على قدرة الله

بالأمس كنا مع هذه النعمة: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66] أليست هذه من أجل النعم؟ من خلق الإبل والبقر والغنم والماعز؟ أليس الله، من خلق لهم النباتات والأعشاب التي يأكلونها ليعيشوا عليها؟ أليس الله؟ هل هناك من يقول: أبي أو أمي؟

وكون هذا الطعام يتحول إلى لبن خالص سائغ للشاربين؛ يد من تفعل هذا؟ من يقدر على هذا؟ الزبل يتحول إلى لبن سائغ للشاربين، من يفعل هذا؟ الله، إذاً: لا إله إلا الله، والله الذي لا إله غيره لا يوجد من يستحق أن يعبد إلا الله؛ إذ هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، وإليه مصير ومرجع كل شيء، فلم يعرضون عنه ويتكبرون؟ ولا يركعون له ولا يسجدون؟ لم يجحدونه ويكذبون؟ لم يحاربون المؤمنين والمسلمين؟ والله ما ذلك إلا لضلالهم وفساد قلوبهم من جراء الشرك والكفر والعياذ بالله تعالى.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً تجتازون بها بحر الشرك والباطل إلى شاطئ التوحيد والحق، تأملوا فقط.

عظيم قدرة الله تعالى ومنته على عباده بخلق ثمرات النخيل والأعناب

وهذه نعمة ثانية: يقول تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ [النحل:67] النخل معروف، والجمع نخيل، وهو ما ينتج التمر والرطب والبسر على اختلاف أنواعه وألوانه، والعنب معروف، والجمع أعناب، فهذا النخيل والعنب وهذه الأشياء من أوجدها؟ هل هناك من يقول: أبي أو أمي أو زوجتي أو بني عمي؟ لا أحد؛ لأن الله هو الخالق لها، هو الذي خلقها وجعل فيها هذا النعيم، فكيف لا يحمد الله ولا يشكر؟ كيف لا يؤمن به؟ كيف لا يطاع ولا يعبد؟

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا أي: خمراً وَرِزْقًا حَسَنًا أي: أن بعضها يؤكل رزقًا، وبعضها يصنع منه السكر أي: الخمر.

هذه نعمة من نعم الله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:67]، من خلق العنب يرحمكم الله؟ من أوجد فيه ذاك الحب وتلك الحلاوة وذلك الماء؟ أليس الله؟ هل هناك من يقول: اللات أو عيسى أو مريم ، أو عزير، أو فلان أو فلان؟ لا يقدر أحد أن يقول ذلك، فلم يبق إلا كلمة: الله خالق كل شيء، فيجب أن يُعبد هو ولا يعبد غيره، لم يعبدون الأولياء والقبور والصالحين؟ لم يعبدون عيسى بن مريم نبي الله ورسوله، وأمه العذراء البتول سيدة نساء العالم؟ يعبدونهما ويعلقون الصلبان في أعناقهم؛ لأنهم لا عقول لهم.

قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:67]، إن في ذلك الذي ذكرنا آية دالة على وجود الله وأنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا الذي نزل عليه هذا القرآن رسول الله، وأن البعث الآخر حق من أجل الجزاء على الكسب والعمل في هذه الحياة.

مراحل تحريم الخمر في الآيات القرآنية

وهنا أعلمكم أن هذه السورة مكية نزلت بمكة المكرمة قبل هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانت الخمر مباحة عند العرب، وكان القمار كذلك مباحًا، ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة حرم الله ما فيه ضرر على عباده، ومن جملة ذلك الخمر، وفيها ثلاث آيات والرابعة تعلن عن حرمتها والامتناع عنها:

أول الآيات هي هذه المكية التي يمتن الله علينا فيها بهذه النعمة فيقول عز وجل: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ [النحل:67] أي: من التمر والعنب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا أي: خمراً، وَرِزْقًا حَسَنًا تأكلونه، هذا امتنان بنعمة من نعمه على عباده، فلنقل: الحمد لله ولا نعبد إلا الله.

ثم آية النساء وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، كان أحدهم إذا شرب الخمر وسكر يدخل يصلي فما يعرف كيف يصلي، فحرم الله عليهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، إذاً فلا بد أن يبتعدوا عنها في الأوقات التي فيها صلاة، فيشربون الخمر بعد صلاة الصبح، ويشربونها بعد العشاء، أما أوقات الصلاة فلا يجوز ذلك.

وبالطبع حدث كلام: كيف نصنع؟ كيف نشرب؟ كيف نترك؟ فنزلت آية البقرة؛ لأن التساؤلات كثرت، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] والمراد من الميسر: القمار؛ إذ كان أهل مكة أغنياء، وكانوا تجارًا يقضون أوقاتهم في القمار للهو، حتى اعتاده العرب هنا وهناك، فلما نزلت هذه الآية اضطربت لها نفوس المؤمنين، وكان عمر يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً؛ لأن هذه الآيات ما حرمتها تحريماً قطعياً، بل قالت: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219].

وأخيراً نزلت آية سورة المائدة، وفيها يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:90] يا من آمنتم بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً! اعلموا أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس، وسخ، قذر من عمل الشيطان، إذاً: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. ثم قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] قال عمر : انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا. ومن ثم أصبح من يشرب الخمر يجلد ثمانين جلدة، كحد القذف، فالذي يقذف مؤمناً أو مؤمنة ويقول: فعل فاحشة كذا، ولم يأت بأربعة شهداء؛ يجلد على ظهره ثمانين جلدة، حد حده الله عز وجل.

علة تحريم الخمر

والشاهد عندنا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، وبين العلة فقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ ، الشيطان هو الذي يقود إلى المزناة، إلى المخمرة، إلى دار الربا، إلى التلصص، إلى الإجرام، إلى الكذب، إلى الخيانة.. هذا والله هو الشيطان، أما حلف لربكم وقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] اللهم اجعلنا منهم، إذاً: فهو الذي يقود إلى الشر والخبث والفساد في الأرض، ويريد من الناس أن يلعبوا القمار وأن يشربوا الخمر، وقد بين تعالى ما يترتب على القمار، فقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91] هذا أول خطر يجب أن نتجنبه، فلا تصح العداوة بين المؤمنين، ولا تجوز أبداً، بل عليهم أن يتحابوا ويتعاونوا كأمة واحدة، فالخمر والقمار يزينهما الشيطان ويحسنهما ويحث ويدعو إليهما من أجل إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وإذا أصبح المسلمون يتعادون ويتباغضون فكيف يحملون راية لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ كيف ينشرون دعوة الإسلام؟ ولذا لما حصل هذا سقطت راية لا إله إلا الله ومُزقت.

والشاهد عندنا: بيان العلة التي يريد الشيطان أن نقع فيها: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]؛ لأنه إذا اجتمع جماعة وشربوا الخمر وسكروا فممكن أن يتضاربوا، أو يقتل بعضهم بعضاً، والميسر كذلك؛ لأن كل واحد يحاول أن يربح ولا يخسر، فربما يضرب بعضهم بعضاً أو يقتل بعضهم بعضاً، أو على الأقل ينتشر بينهم الكره والبغض، فلا يحب أخٌ أخاه ولا ينظر إليه.

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91] أسألكم بالله: هل الجماعة التي تجتمع على القمار يسبحون الله تعالى؟ بالطبع لا؛ لأن هؤلاء يخرج وقت الصلاة وما يشعرون، تنتهي الصلاة وينتهي وقتها وهم مكبون على القمار واللعب، وأي شيء يصرف عن ذكر الله فهو حرام، أي شيء يصرفك عن ذكر الله وعن عبادته فهو ممنوع؛ لأنك خلقت للعبادة، وأي شيء يمنع عنها فهو باطل ومحرم.

إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]، ثانياً: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا يا ربنا. والله إنهم أراقوا الخمر في الأزقة الضيقة -قبل هذا العمران- حتى جرت بالخمر، كانوا يدخرونها في القلال والقرب ويعتقونها، فلما فرض الله هذا وحرم الخمر والميسر جرت أزقة المدينة بالخمر.

ورضي الله عن عمر ، فقد قال: انتهينا.. انتهينا؛ لأنه قضى فترة وهو يقول: يا ربنا بين لنا في الخمر بياناً شافياً.. اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يشفي صدورنا؛ لأن كوننا لا نقرب الصلاة ونحن سكارى نعم، لكن هذا فيه حرج وتعب.

هكذا يقول تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أي: من ذلك الثمر سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا السكر: الخمر.

ولنعلم أن عمر وقف وخطب الناس، وقال: الخمر ليس مقصوراً على التمر والعنب، بل كل مادة توجد فيها هي محرمة، حتى لا يقول قائل: الخمر في التمر والعنب فقط، بل توجد في أشياء أخر، المهم أن كل مسكر حرام، هذه القاعدة العامة: كل مسكر حرام، حتى ولو كان الزبدة واللبن، أي شيء يفسد عقلك ويخبّله فتصبح وأنت تهرف بما لا تعرف فهو محرم؛ لأن كل مسكر حرام.

انتفاع العقلاء بآيات الله تعالى في ثمرات النخيل والأعناب الدالة على عظيم قدرته

والآية هذه ذكرت النخيل والأعناب هنا من باب الامتنان بالنعم الدالة على المنعم جل جلاله وعظم سلطانه، فمن فعل هذا سواه؟ (( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً )) أوضح من الشمس دالة على وجود الله وعلى علمه وقدرته ورحمته بعباده، ووجوب عبادته وحده دون من سواه، هذه هي الآية: العلامة البارزة الدالة على الشيء، ولكن من أهلها؟ من الذين يشاهدونها وينتفعون بها؟ العقلاء، أما الذين لا عقول لهم تعقلهم عن الباطل والشر والكفر والفساد فهم لا يجدون فيها آية ولا في غيرها، صم بكم عمي فهم لا يبصرون ولا يعقلون.

بالأمس كنا مع هذه النعمة: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66] أليست هذه من أجل النعم؟ من خلق الإبل والبقر والغنم والماعز؟ أليس الله، من خلق لهم النباتات والأعشاب التي يأكلونها ليعيشوا عليها؟ أليس الله؟ هل هناك من يقول: أبي أو أمي؟

وكون هذا الطعام يتحول إلى لبن خالص سائغ للشاربين؛ يد من تفعل هذا؟ من يقدر على هذا؟ الزبل يتحول إلى لبن سائغ للشاربين، من يفعل هذا؟ الله، إذاً: لا إله إلا الله، والله الذي لا إله غيره لا يوجد من يستحق أن يعبد إلا الله؛ إذ هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، وإليه مصير ومرجع كل شيء، فلم يعرضون عنه ويتكبرون؟ ولا يركعون له ولا يسجدون؟ لم يجحدونه ويكذبون؟ لم يحاربون المؤمنين والمسلمين؟ والله ما ذلك إلا لضلالهم وفساد قلوبهم من جراء الشرك والكفر والعياذ بالله تعالى.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً تجتازون بها بحر الشرك والباطل إلى شاطئ التوحيد والحق، تأملوا فقط.

وهذه نعمة ثانية: يقول تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ [النحل:67] النخل معروف، والجمع نخيل، وهو ما ينتج التمر والرطب والبسر على اختلاف أنواعه وألوانه، والعنب معروف، والجمع أعناب، فهذا النخيل والعنب وهذه الأشياء من أوجدها؟ هل هناك من يقول: أبي أو أمي أو زوجتي أو بني عمي؟ لا أحد؛ لأن الله هو الخالق لها، هو الذي خلقها وجعل فيها هذا النعيم، فكيف لا يحمد الله ولا يشكر؟ كيف لا يؤمن به؟ كيف لا يطاع ولا يعبد؟

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا أي: خمراً وَرِزْقًا حَسَنًا أي: أن بعضها يؤكل رزقًا، وبعضها يصنع منه السكر أي: الخمر.

هذه نعمة من نعم الله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:67]، من خلق العنب يرحمكم الله؟ من أوجد فيه ذاك الحب وتلك الحلاوة وذلك الماء؟ أليس الله؟ هل هناك من يقول: اللات أو عيسى أو مريم ، أو عزير، أو فلان أو فلان؟ لا يقدر أحد أن يقول ذلك، فلم يبق إلا كلمة: الله خالق كل شيء، فيجب أن يُعبد هو ولا يعبد غيره، لم يعبدون الأولياء والقبور والصالحين؟ لم يعبدون عيسى بن مريم نبي الله ورسوله، وأمه العذراء البتول سيدة نساء العالم؟ يعبدونهما ويعلقون الصلبان في أعناقهم؛ لأنهم لا عقول لهم.

قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:67]، إن في ذلك الذي ذكرنا آية دالة على وجود الله وأنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا الذي نزل عليه هذا القرآن رسول الله، وأن البعث الآخر حق من أجل الجزاء على الكسب والعمل في هذه الحياة.

وهنا أعلمكم أن هذه السورة مكية نزلت بمكة المكرمة قبل هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانت الخمر مباحة عند العرب، وكان القمار كذلك مباحًا، ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة حرم الله ما فيه ضرر على عباده، ومن جملة ذلك الخمر، وفيها ثلاث آيات والرابعة تعلن عن حرمتها والامتناع عنها:

أول الآيات هي هذه المكية التي يمتن الله علينا فيها بهذه النعمة فيقول عز وجل: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ [النحل:67] أي: من التمر والعنب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا أي: خمراً، وَرِزْقًا حَسَنًا تأكلونه، هذا امتنان بنعمة من نعمه على عباده، فلنقل: الحمد لله ولا نعبد إلا الله.

ثم آية النساء وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، كان أحدهم إذا شرب الخمر وسكر يدخل يصلي فما يعرف كيف يصلي، فحرم الله عليهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، إذاً فلا بد أن يبتعدوا عنها في الأوقات التي فيها صلاة، فيشربون الخمر بعد صلاة الصبح، ويشربونها بعد العشاء، أما أوقات الصلاة فلا يجوز ذلك.

وبالطبع حدث كلام: كيف نصنع؟ كيف نشرب؟ كيف نترك؟ فنزلت آية البقرة؛ لأن التساؤلات كثرت، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] والمراد من الميسر: القمار؛ إذ كان أهل مكة أغنياء، وكانوا تجارًا يقضون أوقاتهم في القمار للهو، حتى اعتاده العرب هنا وهناك، فلما نزلت هذه الآية اضطربت لها نفوس المؤمنين، وكان عمر يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً؛ لأن هذه الآيات ما حرمتها تحريماً قطعياً، بل قالت: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219].

وأخيراً نزلت آية سورة المائدة، وفيها يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:90] يا من آمنتم بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً! اعلموا أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس، وسخ، قذر من عمل الشيطان، إذاً: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. ثم قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] قال عمر : انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا. ومن ثم أصبح من يشرب الخمر يجلد ثمانين جلدة، كحد القذف، فالذي يقذف مؤمناً أو مؤمنة ويقول: فعل فاحشة كذا، ولم يأت بأربعة شهداء؛ يجلد على ظهره ثمانين جلدة، حد حده الله عز وجل.

والشاهد عندنا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، وبين العلة فقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ ، الشيطان هو الذي يقود إلى المزناة، إلى المخمرة، إلى دار الربا، إلى التلصص، إلى الإجرام، إلى الكذب، إلى الخيانة.. هذا والله هو الشيطان، أما حلف لربكم وقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] اللهم اجعلنا منهم، إذاً: فهو الذي يقود إلى الشر والخبث والفساد في الأرض، ويريد من الناس أن يلعبوا القمار وأن يشربوا الخمر، وقد بين تعالى ما يترتب على القمار، فقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91] هذا أول خطر يجب أن نتجنبه، فلا تصح العداوة بين المؤمنين، ولا تجوز أبداً، بل عليهم أن يتحابوا ويتعاونوا كأمة واحدة، فالخمر والقمار يزينهما الشيطان ويحسنهما ويحث ويدعو إليهما من أجل إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وإذا أصبح المسلمون يتعادون ويتباغضون فكيف يحملون راية لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ كيف ينشرون دعوة الإسلام؟ ولذا لما حصل هذا سقطت راية لا إله إلا الله ومُزقت.

والشاهد عندنا: بيان العلة التي يريد الشيطان أن نقع فيها: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]؛ لأنه إذا اجتمع جماعة وشربوا الخمر وسكروا فممكن أن يتضاربوا، أو يقتل بعضهم بعضاً، والميسر كذلك؛ لأن كل واحد يحاول أن يربح ولا يخسر، فربما يضرب بعضهم بعضاً أو يقتل بعضهم بعضاً، أو على الأقل ينتشر بينهم الكره والبغض، فلا يحب أخٌ أخاه ولا ينظر إليه.

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91] أسألكم بالله: هل الجماعة التي تجتمع على القمار يسبحون الله تعالى؟ بالطبع لا؛ لأن هؤلاء يخرج وقت الصلاة وما يشعرون، تنتهي الصلاة وينتهي وقتها وهم مكبون على القمار واللعب، وأي شيء يصرف عن ذكر الله فهو حرام، أي شيء يصرفك عن ذكر الله وعن عبادته فهو ممنوع؛ لأنك خلقت للعبادة، وأي شيء يمنع عنها فهو باطل ومحرم.

إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]، ثانياً: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا يا ربنا. والله إنهم أراقوا الخمر في الأزقة الضيقة -قبل هذا العمران- حتى جرت بالخمر، كانوا يدخرونها في القلال والقرب ويعتقونها، فلما فرض الله هذا وحرم الخمر والميسر جرت أزقة المدينة بالخمر.

ورضي الله عن عمر ، فقد قال: انتهينا.. انتهينا؛ لأنه قضى فترة وهو يقول: يا ربنا بين لنا في الخمر بياناً شافياً.. اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يشفي صدورنا؛ لأن كوننا لا نقرب الصلاة ونحن سكارى نعم، لكن هذا فيه حرج وتعب.

هكذا يقول تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أي: من ذلك الثمر سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا السكر: الخمر.

ولنعلم أن عمر وقف وخطب الناس، وقال: الخمر ليس مقصوراً على التمر والعنب، بل كل مادة توجد فيها هي محرمة، حتى لا يقول قائل: الخمر في التمر والعنب فقط، بل توجد في أشياء أخر، المهم أن كل مسكر حرام، هذه القاعدة العامة: كل مسكر حرام، حتى ولو كان الزبدة واللبن، أي شيء يفسد عقلك ويخبّله فتصبح وأنت تهرف بما لا تعرف فهو محرم؛ لأن كل مسكر حرام.




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النحل (25) 4585 استماع
تفسير سورة النحل (4) 4007 استماع
تفسير سورة إبراهيم (9) 3687 استماع
تفسير سورة الحجر (12) 3606 استماع
تفسير سورة النحل (3) 3503 استماع
تفسير سورة إبراهيم (12) 3462 استماع
تفسير سورة النحل (16) 3358 استماع
تفسير سورة النحل (1) 3225 استماع
تفسير سورة الحجر (6) 3155 استماع
تفسير سورة النحل (8) 3055 استماع