تقبلين من الفرح المرتجى |
تقبلين من الفرح المستحيل |
وتأتين كالضوء من عصبي |
تطلعين من القلب |
ينكشف العمر في عريه |
هيكلاً من عظام الأماني |
وزوبعة من شقاءْ |
تكشفين قصوري عن الحب |
بعدي عن الله |
عجزي عن الحلم والذكريات |
تجيئين ملء القلوب العريقة |
ملء العيون العتيقة |
لم تتركي فسحة للرغائب واللهو |
لم تتركي خفقة للّقاءْ |
غربتي كشفت وجهها |
فرأيتك كل الذي مرمر القلب |
لم أتحمل دفاعاً عن العشق |
أو عن طفولتنا |
ورأيتك: |
لم يضطهدني الطغاة لرأي |
ولم يأت خلفي الغزاة لأرض |
ولم تجرح القلب في لوعة هجرة الأصدقاءْ |
كنتِ خلف التوجع والدمع |
في الخوف كنتِ.. وكنتِ الشقاءْ |
ولكي أتقرب منك |
لكي أتلمس نبضك |
أو أتقرى ابتسامة عينيك |
كابدت هذا العناءْ |
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي |
ودمعيَ غالٍ |
تعملت كيف استوى الدمع بالدم |
أعبد من سفح الدمع والدم كرمى لها |
فضح الدم حقدي |
فلا عفو عمن أباحوا دمائي |
ولا عفو عمن أباحوا البكاءْ |
قلت: قلبيَ يقفز |
ينذر بالشر |
قلبي تعلق مرتعداً |
عند أول هذا السواد |
الذي يملأ الأفق |
قلت: جبيني على وشك الإنكفاءْ |
والعواصف إذ تعتريني تبددني |
وأنا أتماسك في ذكرياتك |
هَدَّأتني |
لم تكن غيمة تتجمع سوداء في الغرب |
كي ترتمي مطراً |
فالغيوم التي اعتدتها أصبحت ناشفه |
والرياح استكانت |
فلم تأتنا نذر العاصفه |
قلتِ لي: |
إنها الطير |
في رهبة الأفق سوداء |
والناس ترقبها |
أقبلت كالشحوب الذي يعتريني |
إذا ما ارتعدتِ على ذكرهم نازفه |
ما الذي سوف يأتي؟ |
ترنحتُ.. أمسكتِني |
وتوجعتُ.. أسكنتِني |
واندحرتُ.. فأرجعتِني |
كانت الطير في رهبة الأفق سوداءَ |
جاءت كعتم يفاجئ عند الظهيرةِ |
غطت سماءَ المدينة |
واصطدم الخلق بالخلق |
فالضوء يسودُّ |
والقلب يسودُّ |
والمدن المتسعيذة مشلولة واقفه |
وصلت زعقة |
وتلاها عويل |
تغير نبض السماءْ |
ذهل الخلق |
وابتدأتْ هجماتُ الطيور |
وراحت مناقيرها تنتقي في الزحام |
فرائسها الراجفه |
خفت ملء عظامي وأوردتي |
أقبلت هجرة راودتني |
هممت بها |
غير أني رأيتك، |
قلت: معاذَ هوانا |
رجعت أسلّم عمري |
وأخلع خوفي |
أواجه نبض نهايتنا |
خفت أن تفقديني |
وخفت إذا شدني الخوف صوب الأمان |
إذا لفني الذعر بين المنافي |
بأن لا ألاقيكِ عند المساءْ |
حينما شبَّ بين القلوب هروبٌ |
تشبثت باسمكِ |
أطبقت قلبي على نظرتيك |
لأجلك أبقى |
وتطبق حولي مصيدة الطير |
أبقى لديكِ |
ولستِ معي |
أتمسك بالبرق من ذكرياتك في حلكي |
أتعلق بالماء، يندفع السيل |
أنشدّ للضوء، يندلع الليل |
أنشدّ نحو التراب، يثور العجاج |
بلاد تفور |
وأخرى تغور |
وشمس تغيب وراء الطيور |
أطارد خيط شعاع |
تسرب ما بين طير وطير |
وأغمض عينيّ |
ألقي بنفسيَ ما بين عينيك |
علّي ألامس نبضاً من العاطفه |
تترامى حواليّ نظرات ذعر |
تشتّت جمع تراخى على دفء ذاك الصباح |
وتاه الذين استراحوا على خوفنا |
اتسعت للسيول البراري |
فجاءت تعربد فيهم مبدّدةً جارفه |
فزع البعض للحلم: |
فالطير تأكل خبز الرؤوس |
استعاذ التقي بأربابه: |
تلك من غامض العلم |
قال الجياع: |
ذنوبٌ تطارِدُ |
قال الجناة: |
انفروا، |
تلك طير أبابيل |
ثم انطوى الأثرياء على نهبهم |
وانطوى الفقراء على جوعهم |
يلهثون عياءْ |
أستميحك دمعة حزن |
أنا كنت حذرتهم |
قلت: لا توقظوا طير هذا الزمان |
البراءة ليست بجوع قديم |
وليست بخوف قديم |
ولكنهم سرقوا كلماتي |
رموني بها |
كلما شئت أن أتذمر |
واجهت شكواي فوق شفاه اللصوص |
وإن شئت أن أتوجع |
تسبقني صرخاتي من الطغمة السالفه |
قلت: أرقبهم شامتاً |
فالطيور التي أيقظوها تمزقهم |
والذنوب التي أدمنوها تطاردهم |
رحت أرقب من جندلته الطيور |
ولكنني كنت أرقب مقتله شامتاً |
والبقيةُ مندهشون |
يراؤون أن ذهلوا |
حينما انفرز الخلق طائفة طائفه |
وأنا أتساءل في حرقتي: |
ما الذي كان يمنع أن يتحول جوعي إلى طائفه؟! |
ما الذي منع الفقر أن يتجول للبحث عن وجهه |
في القرى والحواري |
وبين ضجيج المصانع |
مَن شاغل الجائعين عن التخمة الهمجية؟ |
مَن صدهم عن صراخ تقال به التهمة الأبدية: |
" ما أشبع المتخمين سوى جوعنا." |
مِن أولي الأمر جاءت قوائمنا: |
نحن للحرب |
تبقى الدكاكين للباعة |
السجن للمتوجع |
كيف تكون القصور لهم |
وتعشّش فيها الطيور |
تهيج الطيور التي أطلقوها |
وتنقضُّ تخطئهم |
وتصيب مقاتلنا؟ |
ويباغتني الله في نعمة |
تنتقي صفوة القوم |
كيف أصدق أن لدى الله نبع حنان |
ولا يتطلع يوماً إلى قهرنا؟ |
لا يرى البشر الساكنين زرائب؟ |
والآكلاتِ بأثدائهن بلا شبع |
حيث صنعة عهر |
أمانٌ من الفقر |
والموتُ جوعاً |
وكيف تغافل كي لا يرى الآكلين النفايات |
في مدن من مناسف |
لا يسند القلب في ضعفه |
تحت عبء الهموم |
إلهي الذي قيل لي إنه صاغني مثله |
كنت أرغب لو صغته شبهي |
كنت أسكنته وطناً |
يتفنن كيف سيبكيه في كل يوم |
يشكّك في خلقه |
ويطالبه أن يصفق للظلم |
يجبره أن يحب العدو |
وأن يتقلص خوفاً أمام الجنود |
وأن يتجاهل كيف تضيق عليه الحدود |
وكنت أطالبه أن يحب بلاداً تجاهره كرهها |
ثم تمنعه لقمة بكرامته |
وأطالبه أن يحب بلاداً تفاخره عريها |
فتبارك هذا الإله |
الذي كان ييرفض أن يتمرغ في عيشنا |
لم يكن يتقن اللعب فوق المزابل |
لم يعرف السير في قسوة الوعر |
لم يعرف النوع جوعاً |
ولم يعطنا ما يواجه هذا البلاءْ |
ها هو الله يأتي أخيراً |
على هيئة الطير |
ينقر أرواحنا |
كيف لم نره أمس |
حين قضينا طوى ليلة نتضور |
كيف توارى عن الحلم |
لم يأت في لقمة أو رغيف |
وكيف مضى دون أن نتعلم |
كيف نصفّي الحساب |
وأمسكتِني |
قلتِ لي: الله يرزق |
يجزي الثواب لعبد صبور |
ولكنه الله أنسى بنيه العقاب |
فلا تحسبيه علينا |
ولا تحسبينا عليه |
ابحثي عن سماء بها الله |
فالله لم يتحدر إلى الأرض |
أو فابحثي عنه في وصفه: |
لم يكن غير رب غني |
فروحي إلى الأغنياء تريه |
لقد أيقظوا فتنة تفلق القلب |
صاغوه فيها رصاصاً |
ودارت حواليهمُ غابة |
لم تكن غير أعناق أموالهم |
فإلى أي رب سيلجأ أبناؤه الفقراءْ؟ |
أتظل الحياة الشحيحة فيهم |
تقطر محسوبة بالدقائق حتى تجف |
إذا انقضت الطير في زعقة خاطفه؟ |
أتلفت نحو بلادي.. وأجهش |
ما همني سمع الله هذا النشيج إذن؟ |
أم تصامم؟ |
إن كان لا يتنازل أن يمسح الدمع |
أو أن يهدئ في ليلة وجعي |
أتلفت نحو بلادي.. وأجهش: |
كانت بلاديَ ملأى بزغردة وزهور وماء |
وكانت بلاديَ ملأى بنا |
كان قلبيَ ملآن بالأمل الطفل: |
أن يتحول جوعي إلى طائفه. |
منعوه |
وقد أيقظوا قبل وعيي الطيور |
وكانت تحصنهم دون علمي القصور |
وطولب أطفالنا أن يسيحوا الدماء |
راحت الطير تزعق |
راحت تحلق حتى تذوب مع العتم |
تنقض صاعقة |
والعراة الحفاة ينخّهخم ذنب أسيادهم |
يتلمّس كلٌّ على رأسه |
يتجمع والذعر يدفعه نحو مقبرة |
ويضيع الأمان |
فيبرق شكٌّ على كل وجه |
يهيم المطاردَ |
يطلب ملجأه في السجون |
ويسطع خوف من الأعين الحمر |
يركض في كل قلب وجيب |
فلا قفص الصدر يحمي |
ولا الحرس الهمجي |
ولا صلوات الدعاءْ |
سألوا الله عن علة الأمر |
لم يستمع |
ثم في ليلة، |
كان أفقرهم خائفاً من عيون الطيور |
رأى الله في طلعة للهلال |
فقال: إذن.. ذاك ربي يطاردني |
سوف يفضحني |
كيف يبقى إلهي مضيئاً |
وكل الذي في حياتيَ عتم |
وضوء الطغاة وراء حصون مدججة |
سورتها الديانات بالصلوات |
وكانت قرابينها بشراً أبرياءْ |
والقرى تتوجع مذعورة |
تتهيأ أن تتلقف |
من غامض القتل أبناءها في التوابيت |
ترقب آفاقها بعيون مجرحة |
تتوقع صرخات أبنائها |
مثلما يتوقع أبناؤها هجمات الطيور |
فيغلق كلٌّ نوافذه |
يفتح القلب للذعر |
ينكر قرع الصديق على الباب |
ينكر زغردة الشمس فوق النوافذ |
يلطأ تحت اللحاف |
يشكُّ بهمس الرياح |
ويرهب شدو البلابل |
يخلي المسامع |
يخلي الحدائق حتى من الزقزقات |
ولا ستر في عربدات الخواطر |
إلا وشاح من الذعر |
توق إلى هرب |
وتفجع أم بذاكرة الخوف |
إذ تتشظى دعاءً |
وتنهار من عجزها بالبكاءْ |
الطيور تحوّم مثل صدى يطلب الثأر |
هل كان رائدها جائعاً يتمرد |
أم متخماً يتبرد بالدم |
هل هذه الرفرفات عيون |
يعشعش في حمر أجفانها رمد |
أم ترى أمة تترمد |
فالسوق ضارية |
والدكاكين تعرض ما يستجد |
قميصاً لعثمان |
سيف علي |
دماً للحسين |
وتختلط الصرخات: |
نداء التجارة |
في شهقات الدعارة |
في صلوات العبادة |
في صرخات المطاردة الراعفه |
أنتِ أبقيتني |
فاشرحي ليَ ما الفائده؟ |
أتراني بقيت على زمني شاهداً |
أم تراني بقيت على وطني شاهده؟ |
ولماذا أطارد في حضنك البكر |
تذبحني بغتة في ظلال ابتسامتك البارده |
بين حشد من الأشقياء |
وفي لهب الذعر أبحث عنك |
أقول: سلمنا معاً |
أو أقول: سلمت بنا |
غير أني أتوه وراءك |
تحت ظلال الطيور |
وتحت ظلال السيوف |
وفي زعقات الطيور |
ولسع السياط |
وبين حفيف الجناح |
وبين فحيح الجناةِ |
أتى الموت يجتاح |
يشهر في أرضنا منجله |
فبدأت غنائي |
أردد اسمك تحت المقاصل |
لكنهم حولوك إلى مقصله |
وأظل ألوب عليك |
كلما أتلمس بقيا من العمر |
بقيا من الحلم |
أخطو عنيداً |
أكابر خوفي وجوعي ويأسي |
وأعلن عن حبنا المتنمّر رغم الوباءْ |
وأناديك |
لا تسمع الأرض |
لا تستجيب السماءْ |
وأناديك بين هدير الدماء |
فلا تسمعين النداءْ |
غير أني أنادي.. أنادي.. أنادي |
لتبقى بلادي بلادي |
وأعرف لون ترابك |
إذ يرفض الدم حتى يسيل |
ويجتمع الدم والدم |
ثم تعربد هذي الدماء سيولاً |
فتملأ وجه الفضاءْ |
ولأني أضعتك مائدة للّئام |
ولم ألق وجهك طائفه للجياع |
سألقاك في كل جوع جديد |
وألقاك في ما نزفنا دماءْ |
حينما أتلفت أبكي |
فأعرف أين اختفيت |
ويعرف قلبك أبناءه |
نتلفت للفجر |
ينفجر الفرح المتوهج فينا بكاءْ |
يفضح الدمع أحقادنا |
ثم لا عفو عمن أباحوا البكاء |
يفضح الدم أشلاءنا |
ثم لا عفو عمن أباحوا الدماء. |
____________ |
من ديوان: للخوف كل الزمان |