أظُنُّ الدَّهْرَ جاءَكَ مُستَثيراً
مدة
قراءة القصيدة :
5 دقائق
.
أظُنُّ الدَّهْرَ جاءَكَ مُستَثيراً | فقد أحقدتَهُ كرماً وخِيرا |
تَبِيتُ على نوائبِهِ مُعيناً | وتُضْحِي مِنْ حوادِثهِ مُجِيرا |
وتَصْرِفُ صرْفَهُ عنْ كُلِّ حُرٍّ | وتمنَعُ خطبَهُ منْ أنْ يَجُورا |
فكمْ أنقذْتَ منْ تلفٍ أخيذاً | وكمْ أطلقْتَ منْ عُدْمٍ أسيرا |
فلا عجبٌ وإنْ وافى بأوْفى الـ | ـفوادِحِ أن يسُوءَ وأنْ يسُورا |
وهلْ قصدَ الزَّمانُ سِوى كَرِيمٍ | حماهُ أنْ يضيمَ وأنْ يضِيرا |
وما زالتْ صُروفُ الدهْرِ تحدُو | إلى الأخيارِ شرّاً مُسْتَطِيراً |
تُسيءُ إلى ذَوِي الحُسنى وتحْبُو | مُقِيلَ عِثارِها الجَدَّ العَثُورا |
رَعى ذا المَجْدَ والشَّرَفَ الخَطِيرا | |
ولوْ دُفِعَ الحِمامُ بِعَزِّ قومٍ | لكُنْتَ أعَزَّ ذِي عِزٍّ نَصيرا |
هُوَ القدَرُ الَّذِي لمْ تَلْقَ خَلْقاً | على دَفْعٍ لَهُ أبَداً قَدِيرا |
سواءٌ منْ يقودُ إليهِ جيشاً | وَمَنْ يَحْدُو مِنَ الأقوامِ عِيرا |
ومَا ينَفَكُّ هذا الدَّهْرُ حتّى | يصيرَ إلى الفناءِ بِنا المصيرا |
فَيالِيَ مِنهُ صَوّالاً فتُوكا | ويالِيَ مِنهُ خلاّباً سَحُورا |
كذلكَ شيمة ُ الأيامِ فينا | تسُوءُ حقيقة ً وتسُرُّ زُورا |
وكَمْ سُكّانِ دُنْياً لَوْ أفاقُوا | لما سكنتْ قلوبُهُم الصدورا |
أهبَّ عليهِمُ الحدثانُ ريحاً | بكلِّ عجاجة ٍ تُغْري مُثِيرا |
تحدّاهُمْ كأنَّ عليهِ فيهِمْ | يميناً أوْ قضى بهمُ النُّذورا |
فيا عَيْشا مُنْحْناهُ خِداعاً | ويا دُنْيا صَحِبْناها غُرُورا |
ويا دَهْراً أهابَ بِنا رَداهُ | ليتْبِعَ أولاً منّا أخِيرا |
أما تنصدُّ ويحَكَ عنْ فَعالٍ | ذَمِيمٍ لا تَرى فِيهِ عَذِيرا |
سموتَ إلى سماءِ الفخْرِ حتّى | تَناوَلْتَ الهِلالَ المُسْتَنِيرا |
وطُفْتَ بِدوْحَة ِ العَلْياءِ حَتّى | خَلَسْتَ بِكَيْدِكَ الغُصْنَ النَّضِيرا |
كأنَّ أبا الغنائِمِ كانَ ممنْ | تَعُدُّ وفاتَهُ غُنْماً كبيرا |
كأنَّكَ كُنْتَ تَطْلُبهُ بِثأرٍ | غَشومٍ لا تَرى عَنهُ قُصُورا |
خَطَوْتَ العالَمِينَ إليهِ قَصْداً | كأنَّكَ قدْ سألْتَ بهِ خبيرا |
إلى أنْ أغمدَتْ كفّاكَ منهُ | حُساماً زانَ حامِلَهُ شَهِيرا |
مُصابٌ لَوْ تَحمَّلهُ ثَبِيرٌ | دَعا وَيْلاً وأتْبَعَها ثُبُورا |
يُذَكِّرُنِي سَدِيدَ المُلْكِ وَجْداً | وكُنْتِ لِمثِلهِ أبَداً ذَكُورا |
فَما أطفْأتَ مِنْ نارٍ لَهِيباً | إلى أنْ عُدْتَ تُذْكِيها سعيرا |
وما طالَ المدى فيسُوغَ عُذْرٌ | بأنْ يكْبُو الجوادُ وأنْ يَخُورا |
قَصَرْتَ مَداهُ حتّى كادَ يوْماً | بهِ أنْ يَسبِقُ النّاعِي البَشِيرا |
ولمْ يكْسُ الفتى كمداً طويلاً | كمفقُودٍ نضى عُمْراً قصِيرا |
ولمْ أجِدِ الكَبِيرَ الرُّزْءِ إلاّ | سَلِيلَ عُلاً فُجِعْتَ بهِ صَغِيرا |
على أنَّ الكِرامَ تُعدُّ ليثاً | هصُوراً منهُمُ الرشَأَ الغريرا |
ترى أيامهُمْ أعوامَ قومٍ | وَساعاتِ الفَتى مِنهُمْ شُهُورا |
فَلا يَبْعُدْ حَبيبٌ بانَ عَنّا | وإنْ كانَ البعادُ بهِ جَدِيرا |
وكيفَ دُنُوُّ منْ طوَتِ الليالِي | كَما تَطْوِي عَلى الظَّنِّ الضَّمِيرا |
فيا رامِيهِ عنْ قوسِ المنايا | أصَبْتَ بواحدٍ عدداً كَثِيرا |
ويا راجِيهِ يَجْعَلُهُ ظَهيراً | نَبا بكَ حادِثٌ قطَعَ الظُّهُورا |
ويا حاثِيَ الترابِ عليهِ مهلاً | كَسفْتَ بَهاءَهُ ذاكَ البَهيرا |
فلو أنِّي استطعتُ حملْتُ عنْهُ | ثقيلَ الترْبِ والخطْبَ الكَبيرا |
أصُونُ جمالَهُ وأجِلُّ منْهُ | جَبِينَ البَدْرِ أنْ يُمْسِي عَفِيرا |
بِنَفْسِي نازِحٌ بِالغَيْبِ دانٍ | يُجاوِرُ مَعْشراً حُضُورا |
أقامَ بِحَيْثُ لا يهْوى مُقاماً | ولاَ يَبْغِي إلى جِهة ٍ مَسِيرا |
ولا هَجْراً يَوَدُّ وَلا وِصالاً | ولا بَرْداً يُحِسُّ ولا هَجِيرا |
أقُولُ سقى محلَّتَهُ غمامٌ | يَمُرُّ بِها مِراراً لا مُرُورا |
وروَّضَ ساحتيهِ كأنَّ وشياً | يَحُلُّ بِها وَدِيباجاً نَشِيرا |
إذا خطَرَ النسيمُ عليهِ أهْدى | إلى زُوارِهِ أرَجاً عطِيرا |
وما أرَبِي لَهُ في ماءِ مُزْنٍ | وقدْ ودَّعْتُ منْهُ حيّاً مطيرا |
ولَوْلا عادَة ُ السُّقْيا بِغَيْثٍ | إذاً لسقيتُهُ الدرَّ النثِيرا |
وقلَّ لقدرِهِ منِّي وقلَّتْ | لَهُ زُهْرُ الكواكِبِ أنْ تَغُورا |
أحِنُّ إلى الصَّعيدِ كأنَّ فيهِ | شِفاي إذا مَرَرْتُ بهِ حَسِيرا |
وأستافُ الثَّرى مَذْ حَلَّ فِيهِ | وأُلْصِقُهُ الترائبَ والنُّحُورا |
ولَوْلا قَبْرُهُ ما كُنْتُ يَوْماً | لألْثِمَهُ وأعْتَنِقَ القُبُورا |
عليكَ بأدْمُعٍ آلينَ ألاّ | يغِضْنَ ولوْ أفضْنَ دماً غزيرا |
يزُرنكَ مُسعِداتٍ مُنجداتٍ | رواحاً بالتفجُّعِ أوْ بُكورا |
فأولى مَنْ يُقاسِمُكَ الأسى فِي | خطوبِكَ منْ تُقاسِمُهُ السرورا |
ولا تعلقْ بصبرٍ بعدَ بدْرٍ | ذَمَمْنا الصَّبْرَ عَنهُ والصَّبُورا |
وإنْ قالُوا استرَدَّ الدَّهْرُ مِنهُ | مُعاراً كيْفَ تَمْنَعُهُ المُعِيرا |
فَلِمْ أعْطاكَهُ نَجْماً خَفِيّاً | وعادَ لأخْذهِ قَمَراً مُنِيرا |
أبا الذوادِ ما كبدٌ أُذِيبَتْ | بِشافِيَة ٍ وَلا قَلْبٌ أُطِيرا |
فهلْ لكَ أنْ تُراقِبَ فيهِ يوماً | يُوَفّى الصّابِرُونَ بهِ الأُجورا |
ولوْلاَ أنْ أخافَ اللَّهَ مِنْ أنْ | يرانِي بعدَ إيمانٍ كَفُورا |
لَما عَزَّيْتُ قَلْبَكَ عَنْ حَبِيبٍ | وكُنْتُ بِأنْ أُحَرِّقَهُ بَصِيرا |
ولمْ نعهدكَ في سرّاءِ حالٍ | ولا ضَرّائِها إلاّ شَكُورا |
فصَبْراً للمُلِمِّ وإنْ أصَبْنا | جَناحَ الصَّبْرِ مُنهاضاً كَسِيرا |
ألمْ تعلمْ وكانَ أبُوكَ ممنْ | إذا خطَبَ العُلى أغْلى المُهُورا |
بأنكُمُ أطَبُّ بكُلِّ أمْرٍ | إذا ما ضيعَ الناسُ الأمُورا |
وأيُّ الخطْبِ ينقُصُ منْ عُلاكُمْ | وأيُّ النزفِ ينتزِحُ البُحُورا |
وأيُّ عَواصِفِ الأرْواحِ يَوْماً | تَهُبُّ فَتُفْلِقُ الطَّوْدَ الوَقُورا |
وإنكَ شائدٌ وأخُوكَ مجداً | سيخلُدُ ذكرُهُ حسناً أثِيرا |
إذا وُقِّيتُما مِنْ كُلِّ خَطْبٍ | فَما نَبْغِي عَلى زَمَنٍ ظَهِيرا |
وما القَمَرانِ إذْ سَعِدا وَتَمّا | بأبْهَرَ منكُما في الفَضْلِ نُورا |
أرانِي لا أسُومُ الصَّبْرَ قَلْبِي | فأُدْرِكَهُ يَسِيراً أوْ عَسِيرا |
كأنِّي مُبتَغِ لَكُما شَبيهاً | بهِ أوْ مُدَّعٍ لَكُما نَظِيرا |
فلا أخلى الزمانُ لكُمْ محلاً | وَلا عَدِمَتْ سَماؤُكُمُ البُدُورا |