1 |
أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العتمة |
مسرى ، وملعب الشمس مغنى . |
أَتملَّى وجه الحقيقة أَيان |
تراءَى ، وأَيَّ فعل تبنّى. |
فأَحيك الرؤى ، روى العقل ، فكراً |
يتجلَّى مع الزمان ، ويغنى : |
أَيّ فكرٍ يؤرخ الناس أَجيالا |
ويبني لغاية الكون معنى |
ويردّ الفناءَ وهماً ، وطيفَ الحقّ |
دنيا ، وقوةَ الشرِّ وَهْنا . |
أَنا حرٌّ يا ربِّ ! ما أَنت حرٌّ ؟ |
ما وجودي ، تُرى ، إذا كنتَ عبدا : |
شيمةُ الحرّ أَن يروّض أَحراراً |
ويأْبى إلا التحرر مبدا . |
"كن كما شئت" سنّة الله في الكون |
تناهت إلى الخليقة عهدا. |
"كن كما شئت" هكذا أَنت إِنسان |
وكنْهُ الإنسان أَن لا يُحَدّا : |
حدُّه - إن يُحدّ - حرّية تسمو |
وتقتاده إلى الخير عمدا . |
.. |
أَنا حرٌّ يا ربّ ! حرّيتي كنهي ، |
أَرود الجمال فجراً وفجراً . |
كُلُّ فجرٍ أَروده أَفرشُ الارض |
ضحايا ، وأَفجُرُ الدمعَ بحرا. |
فكأَني وُجدتُ كي أَجتلي كنهي |
وأَجني حقي رويداً وقسرا ، |
وكأَن التاريخ ساحةُ حربٍ |
بين حرٍّ وبين من كان حرّا: |
أَتُرى جوهرُ الخليقة حرّية أَولى |
بمن فاز في النضال وأَحرى؟ |
.. |
أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العقلُ |
جناحٌ وذروة الحق مرمى . |
يا إلهي شدّدْ جناحي ، وزده |
قوة منك ، فهو غضٌّ - ومهما |
همَّ من نفسهِ وحلَّقَ أَجواءً |
وطوّى من العلاءِ وضمّا ، |
ولا تزالُ الرياحُ تلوي خوافيهِ |
وتهوي بهِ إلى ما تَعمّى : |
فيصيرُ الوجودُ غمرَ ظلامٍ ، |
وتصير الحياة طيفاً ووهما. |
.. |
يا إلهي شدِّدْ جناحي : فما يكفيه |
علمٌ ، مهما تساميتُ علما . |
أَنتَ أَدرى بهِ ، فلو ينفع العلمُ |
لما زادتِ الخليقة إِثما ، |
ولما جئتَ ههنا تفتدي العقلَ |
وتروي أَنَّ المحبّةَ أَسمى . |
هبهُ من عندكَ المحبّةَ يا ربَّ ، |
وزوّدهُ بالمحبّة فهما : |
فاذا بالرياحِ غيرُ رياحٍ |
كلّما قارب الوصولَ ولمّا ... |
.. |
ربِّ هبني محبّةً ، فبها أُدركُ |
حريّتي وأَعرفُ نفسي. |
أَنا ، إِن لا أُحبُّ ، ما نفع عقلي |
لخلاصي ، وباطلٌ كلّ بأْسي. |
فخلاصي ، أنا المسيَّرُ بالغيبِ ، |
ومَن يومُهُ منوطٌ بأَمسِ ، |
إِنما تمَّ بالمحبة والعقلِ ، |
فلولاهما أَغوصُ برجسي : |
نعمةٌ أَستحقها ، إِنْ أَنا آمنتُ |
وطوَّعتُ للحقيقةِ حِسِّي . |
.. |
أَنا حرٌّ يا رب ! في أَضلعي شوقٌ |
إلى رؤية الحقيقة حرّا : |
شاهدٌ ، إِن رأَيتُها ، معلنٌ عنها |
صراحاً لدى الخليقةِ طرّا ، |
مفتديها بالروحِ إِنْ رام عبدٌ |
طمسَها خيفةً ، وجهلاً ، وغدرا . |
ويح نفسي ، ما أَتعسَ الحقَّ في الدنيا |
فكم مرةٍ يُباع ويُشرى: |
كلُّ شيٍ ، لدى العبيدِ ، حلالٌ |
غيرَ شيءٍ : قولُ الحقيقةِ جهرا . |
*** |
2 |
إيهِ حريتي ! تذكرتُ بالأمس |
صراعي مع الزمانِ وبؤسي : |
أَنا في مصر بالعبودية عُمّدتُ ، |
فشبَّت على المذلَّة نفسي . |
وحسبتُ الخلودَ بالجسدِ الفاني |
فعمّّرت بالجماجم رمسي |
هَرَماً ، يسحق الفناءَ بكفَّيهِ |
ويضحي مع البقاءِ ويمسي : |
إِنَ من يطلب الخلود على الأَرض |
كمن يُفرغُ البحار بكأْسِ. |
وعلى شاطئ الفرات سأَلتُ النجمَ |
عن حاضري وعن أَحلامي ، |
أَغنم العيش برهةً قلَّ جدواها |
وعزّت مصحوبةً بالسلام . |
لا خلودٌ بعد الممات لنفسي ، |
ومصيري مغلَّفٌ بالظلامِ |
كنتُ عبداً للعيشِ ، للموتِ ، للشرِّ ، |
وعبداً للخوف والآلام ، |
أَجهلُ الله ، أَجهلُ الحبَّ والحقَّ ، |
وحرّيتي من الأَوهامِ . |
.. |
ويحَ أَشُّور ! كم سكبتُ بها الدمع ، |
وغيّبت في ثراها النفوسا ، |
رافعاً فوقها من المجدِ مُلكاً |
يتحدّى - إذا تُطلُّ - الشموسا |
أيُّّ ملكٍ على العبوديةِ العمياءِ |
يُبنى ، وما أُذِلّ وديسا: |
سلْ أَشوراً ، ورومةً ، والفراعينَ ، |
وكسرى - سلْ نينوى ، والمجوسا ، |
والأُولى طرّقت جيادُهُمُ البحرَ ، |
وصبّت نعالها هندوسا . |
.. |
أَيُّ ملكٍ كذاكَ يُبنى على القوّة |
يبقى ، فلا يزول ويبلى : |
أَين مجد العربان بعد ازدهارٍ |
حطَّ في قمّة الجلال وحلّا ؟ |
أَين جنكيزُ فاتحُ الشرقِ والغربِ ، |
نذيرُ الهلاك أَنَّى أَطلَّا ؟ |
أَين "تيمور" قاهراً ، والسلاطينُ |
غزاةً ، "والبونابرتيّ" مولى ؟ |
هكذا يمّحي ظلام الليالي |
ويفيءُ الصَّباحُ مهما تولَّى . |
.. |
إيهِ حرّيتي ! تذكرتُ بالأَمس |
صراعي مع الزمان ونصري: |
أَنا في موطن الصنوبر والأَرز |
تحرّّيتُ عن حقيقةِ أَمري. |
فتحكمت بالطبيعةِ ، فانقادت |
إلى فكرتي ، سريعاً ، وفكري . |
فإِذا العقل سيِّدٌ ، والأَمانيُّ |
حبالى بكلِّ حبٍّ وخير ، |
وإِذا الله واحدٌ في ربى القدس ، |
وحرٌّ يسير بي حيث أَدري. |
.. |
يا لأَبرام ! يا للنبيّينَ من بعدُ |
ولاةٌ على الحقيقة طفلَهْ . |
سكبوا في سبيلها الدمَ والدمعَ ، |
وعاشوا من أجلها العمرَ كلَهْ |
لهمُ ، دون غيرهم ، شرف الوعدِ ، |
وإِنْ أَنكروا ، لدنْ تمَّ ، فِعلهْ |
واستعاضوا عن الحقيقةِ بالوهمِ |
وبالعيشِ دونها والتعلَّه ، |
واكتَفوا بالتراثِ من قبلُ ، واهاً |
أَينَ شأْن التراث إِنْ ظَلَّ قبلهْ ؟ |
.. |
ما لحريتي على ملعب الإِغريق |
تُسقى ، غداة تظمأُ ، سمّا . |
أَيّ سمٍّ أَمدّ حرّية الفكر |
بفيضٍ من الشجاعةٍ أَسمى : |
شرفٌ من يناله يصحب الحقّ |
ويُجزى من المحبة نعمى . |
ذاك يومي ، نعمَّه ، ردّني حرّاً |
أَرى غايتي من العمر وهما ، |
إِنْ أَنا لا أَرود منتهلَ النور |
وأَزداد للحقيقةِ فَهْما . |
.. |
أيّ سمٍّ ، أَقول ، غلَّ يد الليل |
وأَولى على الصباحِ الخلودا . |
فإِذا بالأُلومب ملعب أَحرارٍ |
تحدّوا على الزمان العبيدا : |
ينشدون الجمال ، والعدل ، والخير ، |
ولاءً ، ويحْطمون القيودا ، |
رافعين اللواءَ في موكب الفكر |
جنوداً ، وحاملين البنودا : |
موكبٌ شيّد الحضارة من بعدُ ، |
وأعلى إلى السماء الحدودا. |
.. |
يا لفتحٍ للفكر فتح أَثينا ، |
أَين منه فتح السيوف البواترْ ؟ |
تمَّحي دونه العروش ، ويفنى |
كلّ طاغٍ على الشعوب وقاهرْ . |
يا لفتحٍ للفكر ، مهّد للحقّ |
سبيلاً ، وزفّ خير البشائر : |
هوّذا الله عن خطاياي مصلوباً ، |
يريني وجه المحبّة سافرْ : |
فالتقى العالمان : الشرق والغرب ، |
وشدّا على الوداد والأَواصرْ . |
.. |
إِيه حرّيتي - إِذا تمّ نصري |
بفداءٍ من المحبة سمْحِ ، |
فتحررت من عبوديّة الشرِّ |
وفازت على الطبيعة روحي - |
فأَنا ما أَزال عبداً لنفسي ، |
أَبتني من لذاذة الحسّ صرْحي ، |
جائراً ، ظالماً ، أُكنِّن أَيامي |
بدمعٍ ، من الشقاءِ ، وجرح . |
فكأَنَّ البقاء غاية عمري |
أَدّعيها ، إذا تضنّّ ، برمح . |
.. |
أَنا في عالمٍ من الخوف والإرهاب |
صنعُ الفناءِ ، صنعُ يديّا ، |
زائعٍ يحسب المحبّة وهماً ، |
والتفاني في خدمة الحق غيّا ، |
جائعٍ ظنَّ قوته ثروة الأَرض ، |
وما كان جوعه جسديّا . |
فمضى في سبيلها يغرس الأَرض |
حراباً ، ويستبيح البريّا : |
إِنَّّه الملْك ، كم يدنِّس أَقداساً |
ويمشي في مأْتم المرءِ حيّا. |
.. |
أَين عهدٌ غيّبت حريتي فيه |
بسجنٍ من التقاليد قاسي ، |
أَخنق الفكر إِنْ تعدَّى حدوداً |
رسمتها ، من قبلُ ، أَيدي الأُناسي |
فالضحايا ، باسم الكنيسة والدين ، |
ترامت مخنوقة الأَنفاس ، |
تحمل النور في الليالي الدواجي |
وتصبّ الزيوت في النبراس : |
مأْتمٌ للظلام تلك الضحايا ، |
وهي للنور أَبهج الأَعراس. |
ذاك عهدٌ تصارع الفكر فيه |
معَ سجّانه ، فنال انتصارا . |
فأَطلَّت حريتي تنسج الفجر |
رداءً ، على الورى ، وإِزارا ، |
وعليها من الجلالة إِكليلٌ |
تسامى ، فزيّن الأَحرار ، |
ولديها شوق النفوس إلى الموت |
فداءً عنها ، إِذا ما توارى . |
واطمأَنَّت إلى يدٍ زندها غضٌّ ، |
وترمي ، فتسحق الأَشرارا . |
.. |
وغداً ، عندما تعود السيوفُ |
القضْبُ منصورةً إلى الأَغماد ، |
أَترى ينتهي صراعي مع الشرّ ، |
فأَحيا حرّاً إلى الآباد : |
أَصنع الخير ، أَنشد الحبّ والحقّ ، |
وأَطوي الجمال ملءَ فؤادي ؟ |
نعمت لحظةٌ بها أَنا نفسي ، |
لا كما شاءَ أَو أَبى أَسيادي : |
مطمئنٌّ إلى غدٍ ، أَزرع الحسنى |
وأَجني المنى على ميعاد . |
*** |
3 |
يا بلادي حضنتِ ، من قبلُ ، أَمجاداً |
وشيّدت في بناءِ الحضاره ، |
تغمرين الأَمداءَ حباً وإِيماناً |
وتعلين للجمال منارهْ : |
فعلى كل قمةٍ منك شيءُ ، |
والليالي تناقلتْ أَخباره. |
أَيُّ فكرٍ في تربك السمح لم يزهر ، |
فتجني يد الورى أَزهارهْ : |
فازدهى عالم ، وكنتِ له الفتح ، |
وجلَّى ، فكان غاركِ غاره . |
يا بلادي ، وكمْ رفعت لواءً |
سرمدياً في موكب الحريَّه : |
منك لقيان هازئاً بالسلاطين |
وحرباً على النفوس العتيَّه ، |
يرسل القول في الوجوه ويعلي |
الحق ، رغم الأّذى ورغم البليَّه . |
منك أُولئك الذين "تآخوا |
للصفا" في عقولهم والرويَّه ، |
والأَولى قيل عنهم "اعتزلوا" الحق ، |
وفي قولهم عمىً وأَذيَّه . |
.. |
ذاك أمسٌ مضى ، وما ينفع الأَمس |
إِذا لم يكن لدى اليوم حيَّا : |
وأَبى الدهر أَن يجود ، فغامتْ |
أَنجمٌ ، وارتمى جبين الثريَّا . |
وامَّحتْ شعلةٌ ، فساد ظلامٌ |
في بلادي ، وطأْطأَ الفكر عيَّا ، |
يحمل القيد في يديه ويمشي |
في عبودية الضلال شقيَّا : |
موجةٌ أَسيويةٌ راعها النور |
فأَرختْ حجابها البربريَّا . |
.. |
يا بلادي سلمت ، ما زال لبنان |
قويَّ العماد ، لما يذلا ، |
شامخ الأنف ، رافع الرأْس ، حرّاً ، |
هانئاً ، دون غيره ، مستقلاً ، |
ينحر الظلمة العتيَّة بالنور |
ويبقى لدى الصباح المطلا ، |
موئلاً يلجأُ الأُباة إِليه ، |
ويوافيه كل حرٍّ ومولى: |
ما تراه إلا تفرَّد في الشرق |
بأَسمى من البقاءِ وأَغلى ! |
.. |
يا بلادي ، أَودعت عندك آمالي |
وأَسلمت في يديك القيادا ! |
أَنت للغير قوة تشهر السيف |
وتبني ، على الفتوح ، العمادا - |
يا بلادي ، وانت لي موطنٌ حرٌّ |
تسامى محبةً ورشادا ، |
يحضن الفكر عبقريا ويمشي |
في ركاب الحياة أَنى تهادى : |
يعربيَّ اللسان ، واليد ، والوجه ، |
يولِّي شطرَ البحار الفؤادا. |