أرشيف الشعر العربي

الحرية

الحرية

مدة قراءة القصيدة : 9 دقائق .

1

أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العتمة

مسرى ، وملعب الشمس مغنى .

أَتملَّى وجه الحقيقة أَيان

تراءَى ، وأَيَّ فعل تبنّى.

فأَحيك الرؤى ، روى العقل ، فكراً

يتجلَّى مع الزمان ، ويغنى :

أَيّ فكرٍ يؤرخ الناس أَجيالا

ويبني لغاية الكون معنى

ويردّ الفناءَ وهماً ، وطيفَ الحقّ

دنيا ، وقوةَ الشرِّ وَهْنا .

أَنا حرٌّ يا ربِّ ! ما أَنت حرٌّ ؟

ما وجودي ، تُرى ، إذا كنتَ عبدا :

شيمةُ الحرّ أَن يروّض أَحراراً

ويأْبى إلا التحرر مبدا .

"كن كما شئت" سنّة الله في الكون

تناهت إلى الخليقة عهدا.

"كن كما شئت" هكذا أَنت إِنسان

وكنْهُ الإنسان أَن لا يُحَدّا :

حدُّه - إن يُحدّ - حرّية تسمو

وتقتاده إلى الخير عمدا .

..

أَنا حرٌّ يا ربّ ! حرّيتي كنهي ،

أَرود الجمال فجراً وفجراً .

كُلُّ فجرٍ أَروده أَفرشُ الارض

ضحايا ، وأَفجُرُ الدمعَ بحرا.

فكأَني وُجدتُ كي أَجتلي كنهي

وأَجني حقي رويداً وقسرا ،

وكأَن التاريخ ساحةُ حربٍ

بين حرٍّ وبين من كان حرّا:

أَتُرى جوهرُ الخليقة حرّية أَولى

بمن فاز في النضال وأَحرى؟

..

أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العقلُ

جناحٌ وذروة الحق مرمى .

يا إلهي شدّدْ جناحي ، وزده

قوة منك ، فهو غضٌّ - ومهما

همَّ من نفسهِ وحلَّقَ أَجواءً

وطوّى من العلاءِ وضمّا ،

ولا تزالُ الرياحُ تلوي خوافيهِ

وتهوي بهِ إلى ما تَعمّى :

فيصيرُ الوجودُ غمرَ ظلامٍ ،

وتصير الحياة طيفاً ووهما.

..

يا إلهي شدِّدْ جناحي : فما يكفيه

علمٌ ، مهما تساميتُ علما .

أَنتَ أَدرى بهِ ، فلو ينفع العلمُ

لما زادتِ الخليقة إِثما ،

ولما جئتَ ههنا تفتدي العقلَ

وتروي أَنَّ المحبّةَ أَسمى .

هبهُ من عندكَ المحبّةَ يا ربَّ ،

وزوّدهُ بالمحبّة فهما :

فاذا بالرياحِ غيرُ رياحٍ

كلّما قارب الوصولَ ولمّا ...

..

ربِّ هبني محبّةً ، فبها أُدركُ

حريّتي وأَعرفُ نفسي.

أَنا ، إِن لا أُحبُّ ، ما نفع عقلي

لخلاصي ، وباطلٌ كلّ بأْسي.

فخلاصي ، أنا المسيَّرُ بالغيبِ ،

ومَن يومُهُ منوطٌ بأَمسِ ،

إِنما تمَّ بالمحبة والعقلِ ،

فلولاهما أَغوصُ برجسي :

نعمةٌ أَستحقها ، إِنْ أَنا آمنتُ

وطوَّعتُ للحقيقةِ حِسِّي .

..

أَنا حرٌّ يا رب ! في أَضلعي شوقٌ

إلى رؤية الحقيقة حرّا :

شاهدٌ ، إِن رأَيتُها ، معلنٌ عنها

صراحاً لدى الخليقةِ طرّا ،

مفتديها بالروحِ إِنْ رام عبدٌ

طمسَها خيفةً ، وجهلاً ، وغدرا .

ويح نفسي ، ما أَتعسَ الحقَّ في الدنيا

فكم مرةٍ يُباع ويُشرى:

كلُّ شيٍ ، لدى العبيدِ ، حلالٌ

غيرَ شيءٍ : قولُ الحقيقةِ جهرا .

***

2

إيهِ حريتي ! تذكرتُ بالأمس

صراعي مع الزمانِ وبؤسي :

أَنا في مصر بالعبودية عُمّدتُ ،

فشبَّت على المذلَّة نفسي .

وحسبتُ الخلودَ بالجسدِ الفاني

فعمّّرت بالجماجم رمسي

هَرَماً ، يسحق الفناءَ بكفَّيهِ

ويضحي مع البقاءِ ويمسي :

إِنَ من يطلب الخلود على الأَرض

كمن يُفرغُ البحار بكأْسِ.

وعلى شاطئ الفرات سأَلتُ النجمَ

عن حاضري وعن أَحلامي ،

أَغنم العيش برهةً قلَّ جدواها

وعزّت مصحوبةً بالسلام .

لا خلودٌ بعد الممات لنفسي ،

ومصيري مغلَّفٌ بالظلامِ

كنتُ عبداً للعيشِ ، للموتِ ، للشرِّ ،

وعبداً للخوف والآلام ،

أَجهلُ الله ، أَجهلُ الحبَّ والحقَّ ،

وحرّيتي من الأَوهامِ .

..

ويحَ أَشُّور ! كم سكبتُ بها الدمع ،

وغيّبت في ثراها النفوسا ،

رافعاً فوقها من المجدِ مُلكاً

يتحدّى - إذا تُطلُّ - الشموسا

أيُّّ ملكٍ على العبوديةِ العمياءِ

يُبنى ، وما أُذِلّ وديسا:

سلْ أَشوراً ، ورومةً ، والفراعينَ ،

وكسرى - سلْ نينوى ، والمجوسا ،

والأُولى طرّقت جيادُهُمُ البحرَ ،

وصبّت نعالها هندوسا .

..

أَيُّ ملكٍ كذاكَ يُبنى على القوّة

يبقى ، فلا يزول ويبلى :

أَين مجد العربان بعد ازدهارٍ

حطَّ في قمّة الجلال وحلّا ؟

أَين جنكيزُ فاتحُ الشرقِ والغربِ ،

نذيرُ الهلاك أَنَّى أَطلَّا ؟

أَين "تيمور" قاهراً ، والسلاطينُ

غزاةً ، "والبونابرتيّ" مولى ؟

هكذا يمّحي ظلام الليالي

ويفيءُ الصَّباحُ مهما تولَّى .

..

إيهِ حرّيتي ! تذكرتُ بالأَمس

صراعي مع الزمان ونصري:

أَنا في موطن الصنوبر والأَرز

تحرّّيتُ عن حقيقةِ أَمري.

فتحكمت بالطبيعةِ ، فانقادت

إلى فكرتي ، سريعاً ، وفكري .

فإِذا العقل سيِّدٌ ، والأَمانيُّ

حبالى بكلِّ حبٍّ وخير ،

وإِذا الله واحدٌ في ربى القدس ،

وحرٌّ يسير بي حيث أَدري.

..

يا لأَبرام ! يا للنبيّينَ من بعدُ

ولاةٌ على الحقيقة طفلَهْ .

سكبوا في سبيلها الدمَ والدمعَ ،

وعاشوا من أجلها العمرَ كلَهْ

لهمُ ، دون غيرهم ، شرف الوعدِ ،

وإِنْ أَنكروا ، لدنْ تمَّ ، فِعلهْ

واستعاضوا عن الحقيقةِ بالوهمِ

وبالعيشِ دونها والتعلَّه ،

واكتَفوا بالتراثِ من قبلُ ، واهاً

أَينَ شأْن التراث إِنْ ظَلَّ قبلهْ ؟

..

ما لحريتي على ملعب الإِغريق

تُسقى ، غداة تظمأُ ، سمّا .

أَيّ سمٍّ أَمدّ حرّية الفكر

بفيضٍ من الشجاعةٍ أَسمى :

شرفٌ من يناله يصحب الحقّ

ويُجزى من المحبة نعمى .

ذاك يومي ، نعمَّه ، ردّني حرّاً

أَرى غايتي من العمر وهما ،

إِنْ أَنا لا أَرود منتهلَ النور

وأَزداد للحقيقةِ فَهْما .

..

أيّ سمٍّ ، أَقول ، غلَّ يد الليل

وأَولى على الصباحِ الخلودا .

فإِذا بالأُلومب ملعب أَحرارٍ

تحدّوا على الزمان العبيدا :

ينشدون الجمال ، والعدل ، والخير ،

ولاءً ، ويحْطمون القيودا ،

رافعين اللواءَ في موكب الفكر

جنوداً ، وحاملين البنودا :

موكبٌ شيّد الحضارة من بعدُ ،

وأعلى إلى السماء الحدودا.

..

يا لفتحٍ للفكر فتح أَثينا ،

أَين منه فتح السيوف البواترْ ؟

تمَّحي دونه العروش ، ويفنى

كلّ طاغٍ على الشعوب وقاهرْ .

يا لفتحٍ للفكر ، مهّد للحقّ

سبيلاً ، وزفّ خير البشائر :

هوّذا الله عن خطاياي مصلوباً ،

يريني وجه المحبّة سافرْ :

فالتقى العالمان : الشرق والغرب ،

وشدّا على الوداد والأَواصرْ .

..

إِيه حرّيتي - إِذا تمّ نصري

بفداءٍ من المحبة سمْحِ ،

فتحررت من عبوديّة الشرِّ

وفازت على الطبيعة روحي -

فأَنا ما أَزال عبداً لنفسي ،

أَبتني من لذاذة الحسّ صرْحي ،

جائراً ، ظالماً ، أُكنِّن أَيامي

بدمعٍ ، من الشقاءِ ، وجرح .

فكأَنَّ البقاء غاية عمري

أَدّعيها ، إذا تضنّّ ، برمح .

..

أَنا في عالمٍ من الخوف والإرهاب

صنعُ الفناءِ ، صنعُ يديّا ،

زائعٍ يحسب المحبّة وهماً ،

والتفاني في خدمة الحق غيّا ،

جائعٍ ظنَّ قوته ثروة الأَرض ،

وما كان جوعه جسديّا .

فمضى في سبيلها يغرس الأَرض

حراباً ، ويستبيح البريّا :

إِنَّّه الملْك ، كم يدنِّس أَقداساً

ويمشي في مأْتم المرءِ حيّا.

..

أَين عهدٌ غيّبت حريتي فيه

بسجنٍ من التقاليد قاسي ،

أَخنق الفكر إِنْ تعدَّى حدوداً

رسمتها ، من قبلُ ، أَيدي الأُناسي

فالضحايا ، باسم الكنيسة والدين ،

ترامت مخنوقة الأَنفاس ،

تحمل النور في الليالي الدواجي

وتصبّ الزيوت في النبراس :

مأْتمٌ للظلام تلك الضحايا ،

وهي للنور أَبهج الأَعراس.

ذاك عهدٌ تصارع الفكر فيه

معَ سجّانه ، فنال انتصارا .

فأَطلَّت حريتي تنسج الفجر

رداءً ، على الورى ، وإِزارا ،

وعليها من الجلالة إِكليلٌ

تسامى ، فزيّن الأَحرار ،

ولديها شوق النفوس إلى الموت

فداءً عنها ، إِذا ما توارى .

واطمأَنَّت إلى يدٍ زندها غضٌّ ،

وترمي ، فتسحق الأَشرارا .

..

وغداً ، عندما تعود السيوفُ

القضْبُ منصورةً إلى الأَغماد ،

أَترى ينتهي صراعي مع الشرّ ،

فأَحيا حرّاً إلى الآباد :

أَصنع الخير ، أَنشد الحبّ والحقّ ،

وأَطوي الجمال ملءَ فؤادي ؟

نعمت لحظةٌ بها أَنا نفسي ،

لا كما شاءَ أَو أَبى أَسيادي :

مطمئنٌّ إلى غدٍ ، أَزرع الحسنى

وأَجني المنى على ميعاد .

***

3

يا بلادي حضنتِ ، من قبلُ ، أَمجاداً

وشيّدت في بناءِ الحضاره ،

تغمرين الأَمداءَ حباً وإِيماناً

وتعلين للجمال منارهْ :

فعلى كل قمةٍ منك شيءُ ،

والليالي تناقلتْ أَخباره.

أَيُّ فكرٍ في تربك السمح لم يزهر ،

فتجني يد الورى أَزهارهْ :

فازدهى عالم ، وكنتِ له الفتح ،

وجلَّى ، فكان غاركِ غاره .

يا بلادي ، وكمْ رفعت لواءً

سرمدياً في موكب الحريَّه :

منك لقيان هازئاً بالسلاطين

وحرباً على النفوس العتيَّه ،

يرسل القول في الوجوه ويعلي

الحق ، رغم الأّذى ورغم البليَّه .

منك أُولئك الذين "تآخوا

للصفا" في عقولهم والرويَّه ،

والأَولى قيل عنهم "اعتزلوا" الحق ،

وفي قولهم عمىً وأَذيَّه .

..

ذاك أمسٌ مضى ، وما ينفع الأَمس

إِذا لم يكن لدى اليوم حيَّا :

وأَبى الدهر أَن يجود ، فغامتْ

أَنجمٌ ، وارتمى جبين الثريَّا .

وامَّحتْ شعلةٌ ، فساد ظلامٌ

في بلادي ، وطأْطأَ الفكر عيَّا ،

يحمل القيد في يديه ويمشي

في عبودية الضلال شقيَّا :

موجةٌ أَسيويةٌ راعها النور

فأَرختْ حجابها البربريَّا .

..

يا بلادي سلمت ، ما زال لبنان

قويَّ العماد ، لما يذلا ،

شامخ الأنف ، رافع الرأْس ، حرّاً ،

هانئاً ، دون غيره ، مستقلاً ،

ينحر الظلمة العتيَّة بالنور

ويبقى لدى الصباح المطلا ،

موئلاً يلجأُ الأُباة إِليه ،

ويوافيه كل حرٍّ ومولى:

ما تراه إلا تفرَّد في الشرق

بأَسمى من البقاءِ وأَغلى !

..

يا بلادي ، أَودعت عندك آمالي

وأَسلمت في يديك القيادا !

أَنت للغير قوة تشهر السيف

وتبني ، على الفتوح ، العمادا -

يا بلادي ، وانت لي موطنٌ حرٌّ

تسامى محبةً ورشادا ،

يحضن الفكر عبقريا ويمشي

في ركاب الحياة أَنى تهادى :

يعربيَّ اللسان ، واليد ، والوجه ،

يولِّي شطرَ البحار الفؤادا.

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (يوسف الخال) .

الفجر الجديد

أهواكَ

هذه الأرض لي

الموكب

إلى سومي


ساهم - قرآن ١