عمرٌ طويناه
مدة
قراءة القصيدة :
5 دقائق
.
ألقيت في افتتاح ملتقى الإبداع بميسان حيث استقبلته مدينته بعد نصف قرنٍ من الغياب | |
.... | |
كالنَّهرِ جاء ولكنْ... دون شطآنِ | ينسابُ... يعثرُ أذيالاً بأردانِ |
مُجلَّلاً بنَديفِ الشَّيب.. مُحتضِناً | في قلبِهِ الشمسَ فجراً وَسْطَ دُخّانِ |
روحاً مهوّمةً في شكلِ إنسانِ | يكاد يذرفُ دمعاً خَطْوهُ الواني |
يطوي إليكِ مدى ستّين موحشةً | ترى عرَفتِهِ يا شطآن ميسانِ؟! |
* | |
كان الهوى يومها أوجاعَ أغنيةٍ | أنغامُها أدمعٌ تجري بألحانِ |
تمرُّ بالهور.. بالبرديِّ.. توقظُهُ | وتنتقي قصَباً من كلِّ شريانِ |
تُحيلُهُ نايَ عشقٍ فوق شاطئها | ومطبجاً باكياً في الشاطئ الثاني |
وكنتُ طفلاً غزيرَ الشَّعر، فاحمَهُ | فعدتُ والشَّيب أرعاهُ ويرعاني |
ترى تذكَّرتنِي شطآنَ ميسانِ؟! | |
* | |
تركتُ فوق (علي الغربي) أعزَّ هوىً | كنتُ ابنَ عشرٍ، فهل .. يا كلَّ إنسان |
سمعتمو بابنِ عشرٍ من هواهُ بكى؟ | الآن أُقسمُ أنّ الحبَّ أبكاني! |
مَن ذا يُصدّقُ أنّ القاطنين هنا | في عمر عشرٍ لهم أوجاعُ فرسانِ! |
وأنّهم يفهمون الحبَّ مُذْ وُلدوا | فهم سكارى بهِ من دون بُهتانِ |
وهم يُحيلونَهُ دمعاً وأغنيةً | تسري مع الريح من سَهرى لسَهرانِ!. |
(مَسعود).. ما قلتَ لي (وين الوَعَد) أبداً | لو قلتَها مرةً قطَّعتُ أرساني |
وجئتُ أركضُ للكحلاء داليةً | بلا فروعٍ، وقلبي بين أحضاني! |
وأنتِ يا (مَجَرَ) الأحباب.. فيكِ لنا | جَدٌّ رضعنا الهوى في بيتِهِ الهاني |
ردّي لنا أيَّ شيءٍ من ملامحِهِ | من ذلك البيت.. من سيباطِهِ الحاني |
يا ما رجَفنا على أغصانِ سدرتِهِ | مُذ قيلَ إنَّ عليها وَكرَ ثعبانِ |
للآن والنَّبقُ فيها ملءَ ذاكرتي | يشدّني نحوَهُ، والخوفُ يَنهاني! |
* | |
يا ذكرياتُ اصفحي عنّا فإنَّ بنا | طفولةً لم تَزل في سجنِ سَجّانِ |
عمرٌ طويناهُ، لم نعرفُ طفولتَنا | من فَرطِ قَهرٍ بنا، أو فرطِ حرمانِ |
* | |
أو فرطِ زهوٍ يُخلِّينا نقول لـهُ | أبا فلانٍ.. وهوْ في عامِهِ الثاني! |
ويصبحُ الطفلُ، ما زال الحليبُ على | شفاهِهِ، رجلاً يمشي بميزانِ! |
(شَطَّ العمارةِ).. هل مازال موقعُنا | عليك نعرفُهُ من دون برهانِ؟ |
وفي (السريَّةِ) هل ظلَّت منازلُنا | أم مالَها الدهرُ أركاناً لأركانِ؟ |
و(الفيصليَّةُ).. هل مدَّ الزمانُ يداً | إلى أساتذتي فيها وأقراني؟ |
مَن ظلَّ منهم؟.. ومن أودى؟.. وأيُّ يدٍ | إذا مدَدتُ يديَّ الآن تلقاني؟! |
* | |
يا (أنورَ بنَ خليلٍ) طالَ موقفُنا | و(كاظمٌ) ما رأيناهُ إلى الآنِ |
تُرى تناسى (أبو أحلام) موعدَنا | من فرطِ رَفضٍ بهِ، أم فرطِ إذعانِ؟ |
أم أنَّنا يا صديقَ العمر.. خلَّفَنا | طولُ السُّرى بين مدفونٍ ودَفّانِ؟! |
ويا (لميعةُ) يا أزهى بيادرِها | يا زرعَ بيتي، ويا قنديلَ جيراني |
يا أطوَلَ النَّخلِ في ميسانَ أجمَعِها | ويا أعزَّ الحَلا في تمر ميسانِ! |
يا بنتَ خاليَ.. ما أبقى الزمانُ لنا | ممّا حدَوناهُ من ركبٍ وأظعانِ؟ |
تُرى أأنبأكِ العرّافُ ليلَتَها | أنّا سنصبحُ في الستيّن سيّانِ |
أنا هنا بين أهلي شبهُ مغتربٍ | وأنتِ فردٌ بلا أهلٍ وأوطانِ! |
يا رحمةَ الله في من لستُ أبصرُهُ | لكنّهُ الآن في قلبي ووجداني! |
يا رحمةَ الله في من لستُ أسمعُهُ | لكنْ يظلُّ صداهُ ملءَ آذاني! |
* | |
عفوَ العمارةِ أنّي يومَ فرحتِها | أمرُّ فيها بأوجاعي وأحزاني |
وكانت انتظرَتْ من فرعِ دوحَتِها | أن يقرعَ الشِّعرَ أوزاناً بأوزانِ |
لكنّه العمر.. ناعورُ السّنين لـهُ | دلوٌ بقلبي، ودلوٌ بين أجفاني! |
* | |
ميسان... يا وسعَهُ زهوي بميسانِ | الماءُ مائيَ، والبستانُ بستاني |
والأهلُ أهليَ حتى أنَّ أبعَدَهم | أدنى لقلبيَ من أهلي وإخواني! |
ما كان لي أن يَرفَّ الشعرُ في شفتي | لو لم تكن سُفُني منها وسَفّاني! |
هي العمارةُ، فجرُ العمر.. مُرضِعَتي | وما أزال رضيعاً حين تَنخاني! |
تكادُ تهوي على أقدامِها شفتي | أُمّي.. ورَبَّةُ إنجيلي وقرآني! |
وأكرمُ ا لناسِ أهلوها وجيرَتُها | وأصدَقُ الناس هم في كلِّ ميدانِ |
نُبلاً، وطيبةَ نفسٍ، وانفتاحَ يدٍ | وخيرُها أنَّهم جذعي وأغصاني! |
وهم ملاجئُ روحي كلَّما اغترَبتْ | وهم مياهي.. وهم زرعي وبنياني |
القادسيةُ كانوا خيرَ ذادتِها | وخيرَ من توَّجوها بالدمِ القاني |
في (الشّيب)، في (الفكَّةِ) الغراء.. وقفَتُهُم | تبقى منارَ شجاعاتٍ وشجعانِ |
وما تزال لـ (تسواهن) هلاهلُها | والهور مازال محروساً بعلوانِ! |
* | |
يا أمَّ روحي، وقد أحيَيتِ قافيتي | بما أعَدتِ لها مِن زهوها الفاني |
وعُدتِ ستّين عاماً بي.. وها أنذا | طفلٌ إليكِ حَبا في عامة الثاني! |
________________ | |
هوامش: | |
علي الغربي، والمجر : من أقضية محافظة ميسان. | |
مسعود : هو مسعود عمارتلي. مغني العمارة الشهير.. وأشهر أغانيه (وين رايح وين.. وين الوعد وين). | |
السيباط : سرير يُرفع بعمودين.. وهو مشهور في العمارة. | |
المطبج : مزمار مزدوج يُصنع من القصب. | |
السرية : محلة في العمارة عاش فيها الشاعر طفولته. | |
الفيصلية : مدرسته الابتدائية التي درس فيها. | |
أنور خليل، وكاظم التميمي: من أشهر شعراء العمارة.. توفيّا. | |
لميعة : لميعة عباس عمارة. الشاعرة المشهورة.. وفي البيت إشارة إلى ديوانها (لو أنبأني العراف). | |
الشيب والفكة : موقعان في العمارة دارت فيهما أشرس المعارك بين العراقيين والإيرانيين. | |
تسواهن : بطلة الأهوار المشهورة. |