عنوان الفتوى : هل للدولة تقييد المباح أو منعه أو الإلزام به

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل يجوز تحديد سن الزواج وإجبار الأسر على ذلك ؟هل يمكن منع الوالدين من تشغيل الأطفال تحت سن معينة للمصلحة ؟مدى شرعية منع العقوبة البدنية للأطفال والزوجات للمصلحة؟

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فإنه يجوز لولي المرأة أن يزوجها وهي صغيرة بحسب ما يراه هو من مصلحتها.
ويجوز لولي الطفل أن يستعمله في عمل يناسبه، ولا يشق عليه.
ويجوز للرجل أن يؤدب زوجته بالضرب إذا تعين طريقاً إلى التخلص من نشوزها، بعد أخذه بالوسيلتين قبله، حسب الترتيب الوارد في قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) [النساء: 34].
ويجوز -كذلك- تأديب الولد بالضرب إذا تعين هو الآخر وسيلة إلى تقويمه، بشرط أن يكون الضرب في الكل غير مبرح، لا يكسر عظماً، ولا يشين جارحة، وأن يتقي فيه الوجه، وأن لا يكون في حال غضب من المؤدِّب، وألا يأخذ طابع التشفي والانتقام.
وأما أن تأتي جهة فتمنع هذه المباحات بتشريع عام، أو تقيدها متذرعة بما يسمى بالمصلحة العامة، فإن هذا أمر لا يجوز، بل هو منكر عظيم لما فيه من تحريم ما أحل الله ورسوله، وإيجاب ما لم يوجبه الله ورسوله، وإلزام الناس بذلك، وعقابهم على مخالفته.
ولقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من حرم ما أحل الله، فقال: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) [يونس: 59].
وقال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) [الشورى: 21].
فالحاصل أنه لا يجوز لجهة أن تحرم بعض المباح عموماً، أو أن تعلق فعله على إذنها وترخيصها، وإنما دلت الأدلة الشرعية التفصيلية على أنه يجوز لولي أمر المسلمين الإلزام بفرد من أفراد المباح مؤقتاً، أو المنع منه كذلك بشرط أن لا يكون عاماً لكل الناس، وأن يكون مخصوصاً بحال معينة وفق الضوابط التالية:
أولاً: أن يكون فعل المباح مؤدياً إلى ضرر أو حرام، فلمن له ولاية: منع حصول الضرر، أو المحرم، وذلك نحو أن يكون شخص مريضاً بالجذام، أو بالإيدز مثلاً، فيمنع من الزواج لمنع نقل العدوى إلى غيره، ومنع ضعيف البصر من قيادة المركبات في الطرق للضرر الحاصل من ذلك، وهذا كله يندرج تحت القاعدة الشرعية: منع الضرر والإضرار، وقاعدة: منع ما يوصل إلى الحرام، نحو المنع في أول الإسلام من سب آلهة المشركين إذا ظن أنهم يسبون الله عدواً بغير علم.
وموضوع الضرر أو المحرم أمر يمكن إدراكه والتحقق من واقعه، وليس أمراً مبهماً كالمصلحة العامة، ولهذا إذا تدخلت الدولة لمنع ضرر أو محرم يجب منعه شرعاً، فإنه يتحتم عليها إثبات الدليل على وجود الضرر أو الحرام، حتى يكون عملها وفق الشرع في ذلك.
ثانياً: أن يكون أمر المباح متعلقاً بشؤون الدولة الخاصة، كشؤون جيشها وموظفيها، فلها أن تلزم أو تمنع من يتعلق به ذلك من موظفيها وجنودها وعمالها لتحقيق مقصد شرعي، نحو إلزام الموظفين بدوام معلوم، وإلزام الجيش بلباس معين ونحوه، ولقد ثبت مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حيث منعوا عمالهم من قبول الهدايا، وإن كانت الهدايا في أصلها مباحة لهم.
ثالثاً: تنظيم المرافق والأموال العامة التي يشترك فيها المسلمون، حيث ثبت بالسنة أن ما كان من مرافق المسلمين فإنهم يشتركون فيه نحو الماء والكلأ والنار والطرق العامة، وما كان من الأموال العامة كالفيء والغنائم، فإن تنظيمه متروك للدولة لتحقيق المقصد الشرعي بعدم اختصاص أحد دون أحد فيه، وتحقيق صلاح المسلمين بتوزيعه، ولها عندئذ الإلزام أو المنع من بعض أفراد المباح على الوجه الشرعي، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم حمى البقيع، واسترجع إقطاع أبيض بن جمال لمنجم الملح لحاجة الناس إليه، ووزع أموال حنين على المهاجرين لفقرهم، وعلى المؤلفة قلوبهم دون الأنصار رضي الله عنهم جميعاً، وأمر بجعل الطريق سبعة أذرع لتنظيم السير فيه، وقضى بحكمه في السيل بأن يرسل الأعلى على الأسفل. وحمى عمر رضي الله عنه الشرف والربذة. إلى غير ذلك من أمثلة تدل على أن للإمام أو الدولة التدخل لتنظيم المرافق والأموال العامة التي يشترك فيها المسلمون، لتحقيق مقصد الشرع في ذلك.
رابعاً: تنفيذ فروض الكفاية المنوطة بالدولة، حيث جعل الشرع تنفيذ بعض فروض الكفاية منوطاً بالدولة، كجمع الزكاة والجهاد ونحو ذلك، فللدولة حينئذ وضع تنظيم بالمنع والإلزام لمن يتعلق بهم ذلك، فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الاكتتاب للجهاد، وألزم من اكتتب بالحضور وعدم التغيب إلا أن يؤذن له. وكان عثمان رضي الله عنه يحدد شهراً معيناً لجمع الزكاة كما ورد بالموطأ. ولهذا ما كان من فروض الكفاية المنوطة بالدولة فلها تنظيمه بالإلزام أو المنع، لتحقيق إقامته وفق الشرع.
أما إذا كان فرض الكفاية لا يتعلق بالدولة، نحو الاجتهاد في استنباط الأحكام، فليس للدولة عند ذلك التدخل أو منع المجتهدين أو إلزامهم.
وعليه، فلا يجوز للدولة تحريم المباح، أو إيجاب فعله، أو تقييده بإذنها كتشريع عام، وإنما يجوز لها التدخل بالمنع، أو الإلزام في بعض أفراد المباح، وفي حالات مخصوصة بهدف تحقيق مقصد شرعي من ذلك وبالضوابط التي سبق بيانها، لأن الإباحة حكم من خالق العباد وربهم، ومتى ثبت بالدليل الشرعي إباحة الفعل، فليس لمخلوق المنع، أو الإلزام به على وجه العموم والإطلاق. والله أعلم.