أرشيف المقالات

تفسير الربع الأول من سورة سبأ

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
2سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] الربع الأول من سورة سبأ   • الآية 1، والآية 2: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته التي كلّها كمال، والشكر له على نِعَمِهِ الظاهرة والباطنة، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ مُلكًا وتدبيرًا وتصَرُّفاً وإحاطة، ﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ ﴾: أي له سبحانه الشكر في الآخرة (على إدخاله المؤمنين جنته)، إذ يَحمده أهل الجنة بقولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)، وبقولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)، ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ في فِعله، ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ بشؤون خلقه، الذي ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي يعلم كل ما يدخل في الأرض من الماء والأموات والكنوز وغير ذلك، ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ من النبات والمعادن والمياه، ﴿ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ من الأمطار والملائكة والكتب، ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ يعني: وما يصعد إليها من الملائكة وأعمال الخلق، ﴿ وَهُوَ ﴾سبحانه﴿ الرَّحِيمُ ﴾ الذي لا يعاجل مَن عَصاهُ بالعقوبة، ﴿ الْغَفُورُ ﴾ لذنوب التائبين إليه.
• الآية 3، والآية 4: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: ﴿ لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾: يعني لن تأتينا القيامة، ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾، وهذا إخبارٌ من اللهِ ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ ﴾أي الذي يعلم ما غاب عن حَوَاسّ الناس، و﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ ﴾ أي لا يغيب عن علمه ﴿ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ ﴿ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا ﴾ مُثبَت ﴿ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ أي في كتابٍ واضح، وهو اللوح المحفوظ،وسوف تأتيكم الساعة﴿ لِيَجْزِيَ ﴾ اللهُ ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ أي آمَنوا باللهِ وبرسوله وبكل ما أخبر به رسوله من الغيب ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ (فأدَّوا الفرائض والواجبات، وسارَعوا في النوافل والخيرات)، ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ وهو الجنة.
• الآية 5: ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا ﴾ يعني: وأما الذين اجتهدوا في إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا ﴿ مُعَاجِزِينَ ﴾ أي ظانّين أنهم يُعجزوننا، وأننا لن نَقدر على أخْذهم بالعذاب: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ أي لهم عذابٌ من أسوأ أنواع العذاب وأشَدّه ألمًا.
• الآية 6: ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ يعني: ويَعلم العلماء الراسخونَ من أهل الكتاب - كعبد الله ابن سَلام وأصحابه - أنّ ﴿ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي القرآن ﴿ هُوَ الْحَقَّ ﴾ ﴿ وَيَهْدِي ﴾ أي يُرشد الناس ﴿ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ ﴾: يعني إلى الإسلام، الذي هو طريقُ اللهِ العزيز (والعزيز هو الغالب الذي لا يَمنعه أحد مِن فِعل ما يريد) ﴿ الْحَمِيدِ ﴾ الذي يَستحق الحمد والثناء في كل حال، لِكَثرة نِعَمِه على مخلوقاته.   • الآية 7، والآية 8: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فيما بينهم - وهم يتحدثون في استهزاءٍ وسُخرية -: ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ ﴾ (يقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم) ﴿ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يعني يُخبركم أنكم إذا مِتُّم وتفرقتْ أجسامكم كُلَّ تفرُّق ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي ستُحيون وتُبعثون من قبوركم؟! ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾؟ ﴿ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ يعني أم هو مجنون لا يدري ما يقول؟ ﴿ بَلِ ﴾ يعني ليس الأمر كما يقولون، فمحمد أصدق الصادقين، وأعقل أهل الأرض، فقد كانوا يَشهدونَ له بالصدق والأمانة، ورَضوا بحُكمه عندما أرادوا إعادة بناء الكعبة - وذلك قبل بعْثَتِهِ -، ولكنّ ﴿ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ ﴾ الدائم في الآخرة (بسبب عِنادهم واستهزائهم)، ﴿ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴾ عن الصواب في الدنيا.
• الآية 9: ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني ألم يروا أن السماء والأرض مُحيطتان بهم من جميع الجهات، فـ ﴿ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ﴾ كما فَعَلنا بقارون (بسبب تكذيبهم واستهزاءهم برسولنا)، ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ﴾ أي نُنزل عليهم قطعًا من العذاب (كما فَعَلنا بقوم شعيب)، فقد أمطرتْ السماء عليهم نارًا فأحرقتهم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الذي ذكرناه ﴿ لَآَيَةً ﴾ ظاهرة على قدرتنا عليهم ﴿ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ اي راجعٌ إلى ربه بالتوبة، مُقِرٌّ له بتوحيده، مُخلِصٌ له في عبادته (فهذا هو الذي يَنتفع بآيات ربه).
• الآية 10، والآية 11: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ﴾ (وهي النُبُوّة والمُلك، وكتاب الزَبور)، وقلنا للجبال: ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾ أي سَبِّحي معه إذا سبَّح اللهَ تعالى، ﴿ وَالطَّيْرَ ﴾ أيضاً أمَرناها أن تُسَبِّح معه، ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ (فكان كالعجين في يده، يتصرف فيه كيف يشاء)، وهذا تسخيرٌ لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماء، وأوحينا إليه ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾ أي اعمل دروعًا طويلة بهذا الحديد (تَستر المقاتل وتحميه من ضربة السيف)، ﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ أي قدِّر المسامير في حِلَق الدروع (يعني اجعل المسمار على قدر الحلقة)، فلا تجعل الحلقة صغيرة، فتَضْعُف الدروع عن الدفاع، ولا تجعلها كبيرة فتثقُل على لابسها، ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ أي اعمل يا داوود أنت وأهلك بطاعتي ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ لا يخفى عليَّ شيء من أعمالكم، وستجدون جزاءها في جنتي.
• الآية 12: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ﴾ أي سَخَّرنا لسليمان الريحَ، فكانَ ﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ﴾ أي جريانها من أول النهار إلى منتصفه مسيرة شهر بالسير المعتاد، ﴿ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾: أي جريانها من منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر (فبذلك كانت تقطع مسيرة شهرين في يوم واحد) ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾: أي جعلنا النحاس يسيل في يديه كما يسيل الماء، ليعمل به ما يشاء ﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي سَخّرنا له بعض الجن، يعملون أمامه وتحت رقابته، فكانوا يعملون له ما يشاء ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء، ﴿ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ يعني: ومَن يَضِلّ من هؤلاء الجن عمّا أمرناه به من طاعة سليمان: ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾: أي نُذِقه من عذاب النار المُستعِرة (أي الموقدة).
• الآية 13: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ ﴾: أي يعمل الجن لسليمان ما يشاء من مساجد للعبادة ﴿ وَتَمَاثِيلَ ﴾ من نحاس وزجاج (إذ لم تكن مُحَرَّمة في شريعتهم، ولكنها حُرِّمَتْ في شريعتنا سداً لباب الشرك، حتى لا تُعبَد كما عُبِدَت الأصنام)، ﴿ وَجِفَانٍ ﴾: أي قِصَاع (جمع قَصعة، وهي الإناء الذي يتسع لعدد من الأشخاص ليأكلوا فيه)، فكانوا يصنعون له قِصاع كبيرة ﴿ كَالْجَوَابِ ﴾ يعني بحجم الأحواض الكبيرة التي يُجبَى إليها الماء (أي يَجتمع فيها الماء)، ﴿ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾: أي قدور ثابتات (لا تتحرك من أماكنها لعِظَمهنّ)، (والقدور جمع قِدر، وهو الوعاء الذي يُطبَخُ فيه)، فكانَ يُطبَخ فيها في أماكنها (لضخامة حجمها)، وقلنا لآل داوود: ﴿ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾: أي اعملوا بطاعة ربكم، شُكرًا له على ما أعطاكم من النعم، ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ أي قليلٌ مِن عبادي مَن يَشكرني كثيراً ولا يغفلون عن شُكري (وكان داوود وآله من هذا القليل).
• الآية 14: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ﴾ يعني: فلمّا قضينا على سليمان بالموت: ﴿ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ﴾ أي: ما دَلَّ الجنُ على موته إلا "الأرَضَةُ" وهي تأكل عصاه التي كان متكئًا عليها ﴿ فَلَمَّا خَرَّ ﴾ يعني: فلما سقط جسده الميت على الأرض: ﴿ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ ﴾ أي علمتْ الجن حينئذٍ ﴿ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ﴾: يعني إنهم لو كانوا يعلمون الغيب - كما يكذبون على الناس - لَعَلموا بموت سليمان، و﴿ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ أي ما أقاموا في الأعمال الشاقة في خدمة سليمان؛ ظنا منهم أنه من الأحياء. ♦ وفي هذا إبطالٌ لِمَا يعتقده بعض الناس من أن الجن يعلمون الغيب ثم يُخبرون به الساحر ليُخبر به الناس، وهذا خطأ، وإنما الذي يَحدث أن القرين الذي مع الساحر يعرف المعلومات من قرين الشخص الذي أتى إلى الساحر، ثم يخبره بها، فيقول الساحر لهذا الشخص: (إن اسمك كذا، واسم أمك كذا، وقد أتيتَ إليَّ بسبب كذا وكذا).   • من الآية 15 إلى الآية 19: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ﴾ بـ "اليمن" ﴿ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ ﴾ عظيمة تدل على قدرة الله تعالى، وإنعامه على عباده، وهي: ﴿ جَنَّتَانِ ﴾ أي بُستانان عظيمان ﴿ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ يعني: جنة عن يمين الوادي، وأخرى عن شماله (كلها فواكه وخُضَر، تسقى بماء سَدّ "مأرِب")، وقالت لهم رُسُلهم: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ﴾ ﴿ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ نعمه عليكم، فهذه بلدتكم ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ أي كريمة التربة، حَسَنة الهواء، بعيدة عن الأوباء ﴿ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ يَغفر ذنوبكم متى تُبتم إليه من ذنوبكم واستغفرتم، ﴿ فَأَعْرَضُوا ﴾ عن أمْر الله وشُكره وكذَّبوا رُسُله ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾ (وهو السيل الجارف الشديد الذي خرَّب السَدّ وأغرق البُستانين) ﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ ﴾ المُثمرتين: ﴿ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ ﴾ يعني صاحبتَي ﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ (وهو الثمر المُرّ الكريه الطعم)، ﴿ وَأَثْلٍ ﴾ (وهو نوع من الشجر لا ثمر له)، ﴿ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ يعني: وقليل من شجر النَّبْق (كثير الشوك)،﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ﴾: يعني ذلك التبديل من الخير إلى الشر بسبب كُفرهم، وعدم شكرهم لنِعَم ربهم، ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ يعني: وهل نُعاقب بهذا العقاب الشديد إلا الجَحود المُبالِغ في الكفر؟! والجواب: نعم، فإنه يُجازَى بمِثل فِعله.   ♦ ثم ذَكَرَ سبحانه بعض النعم الأخرى التي أعطاها لأهل سبأ قبل هَدْم السد وتفرقهم في البلاد، فقال: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ أي جعلنا بين قبيلة سبأ وبين قرى الشام: ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ أي مُدنًا متصلة يَرى بعضها بعضاً من على المرتفعات، ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ﴾: أي جعلنا المسافات بين كل مدينة وأخرى متقاربة (بحيث يخرج المسافر بلا ماء أو طعام، فيستريح أثناء سفره في مدينةٍ ما (يأكل فيها ويشرب)، ثم يُكمِل سَفَره، فإذا جاء الليل، فإنه ينام في مدينة أخرى، حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريدها)، وقلنا لهم: ﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ﴾: يعني سيروا في تلك القرى في أيِّ وقتٍ شئتم مِن ليلٍ أو نهار، آمنينَ لا تخافونَ عدوًّا ولا جوعًا ولا عطشًا.
♦ ولكنهم طَغَوا، ومَلُّوا من الراحة والأمن وطِيب العيش﴿ فَقَالُوا ﴾: ﴿ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾: أي اجعل قُرانا متباعدة، ليَبعُد سفرنا بينها، فلا نجد قرى عامرة في طريقنا، ﴿ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ بكفرهم، فأهلكناهم بإرسال السيل وتخريب السد، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾: أي قصصاً يَحكيها مَن بعدهم لتكون عبرةً لهم، ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾: أي شَرّدناهم وفَرَّقناهم كل تفريق بعد أن خُرِّبتْ بلادهم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي فيما حدث لأهل "سبأ" ﴿ لَآَيَاتٍ ﴾ أي عِبَر عظيمة (على إعطاء النعم وسَلْبها)، وقوله تعالى: ﴿ لِكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ أي كثير الصبر على طاعة الله، وعن مَعاصِيه، وعلى أقداره، ﴿ شَكُورٍ ﴾ أي قائم بحقوق الله تعالى، يَشكره على نِعَمِه حتى لا تُسلَبَ منه، (وقد خَصَّ اللهُ الصابرينَ الشاكرينَ بالذِكر؛ لأنهم هم الذين يَعتبرون بآياته ولا يَغْفُلون عنها).
• الآية 20، والآية 21: ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ أي صَدَقَ ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إضلالهم ﴿ فَاتَّبَعُوهُ ﴾ أي أطاعوه وعصوا ربهم ﴿ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (فإنهم ثَبَتوا على طاعة الله تعالى، واعتصموا بالله منه)، ﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ﴾: أي لم يكن لإبليس قهر على هؤلاء الكفار ليكفروا، ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ ﴾ يعني: لكننا أذنّا له في إضلالهم بالتزيين والوسواس، لنعلم علماً ظاهراً للخلق مَن يؤمن بالآخرة (فيَصبر على الطاعات ويَجتنب الشهوات)، فينجو من النار ويدخل الجنة ﴿ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ (فيكفر بها رغم قوة الأدلة) ﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ إذ يعلم سبحانه ما تخفيه صدور الخلق من الإيمان والشك، ثم يُجازي كُلاً بما يستحق.
• الآية 22: ﴿ قُلِ ﴾ أيها الرسول لمُشرِكي قومك: ﴿ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ (من الأصنام والملائكة والبشر)، واقصدوهم في قضاء حوائجكم، فإنهم لن يجيبوكم، لأنهم ﴿ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ (والمقصود أنهم لا يَملكون شيئاً من ذلك ملكاً تاماً دونَ أن يشاركهم فيها أحد)، ﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ﴾ يعني: ولا يشتركون معه سبحانه في ملك شيء في السماوات والأرض، لأن الكون كله ملكٌ لله وحده، ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾: يعني ليس هناك مُعِينٌ لله تعالى من معبوداتكم الباطلة على خَلْق شيء (حتى لا يُقال: إنه سبحانه يَحتاج إليهم، فلذلك سيَقبل شفاعتهم لكم)، بل اللهُ سبحانه هو المتفرد بالخلق، فلذلك لا يستحق العبادة غيره.
• الآية 23: ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ ﴾: أي لا تنفع شفاعة الشافع عند الله تعالى ﴿ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ في الشفاعة (ولمن ارتضى سبحانه أن يُشفَع له من أهل التوحيد).   ♦ ثم بيَّنَ سبحانه كيفية الشفاعة يوم القيامة، وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة، عندما يسأل ربه الشفاعة، يُجيبه الله تعالى، فيُصاب الشافع بخوفٍ شديد من عظمة الله وجلاله وسماع كلامه، حتى يصيبه ما يُشبه الإغماء، ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ﴾: يعني إذا زال الخوف عن قلوبهم، سألوا الملائكة، فـ ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ﴾ عندما طلبنا منه الشفاعة؟، ﴿ قَالُوا ﴾ أي قالت الملائكة لهم: ﴿ الْحَقَّ ﴾ أي قَبِلَ شفاعتكم، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ بذاته وقهره وعلوِّ قدْره، ﴿ الْكَبِيرُ ﴾في ذاته وصفاته (فهو أكبر وأعظم من كلِّ شيء).


[*] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة. واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن