عنوان الفتوى : موقف الموظف من زملائه الذين يغتابون غيرهم

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

أعمل في مكتب به ستة من الموظفين، وكلنا في مكان واحد لا تفصل بيننا حواجز أو حائط، ولكن كل واحد لديه طاولة يجلس عليها ليؤدي عمله. وللأسف كثيرا ما يغتابون الناس، وطول اليوم يتحدثون عن هذا أو هذا، بل وأحيانا يوقعوني معهم في الغيبة ولا أنتبه إلا بعد فوات الأوان، وأحيانا أتذكر فأنبههم إلي أن هذا حرام ولكنهم سرعان ما يعودون. ماذا أفعل؟ مع العلم أني لا أستطيع نصحهم كل ما اغتابوا أحدا لأن هذا يحدث كثيرا بصورة لا تتوقعها إلا أني لن أتوقف عن نصحهم بين الحين والآخر، ولكن رغما عني أسمعهم وهم يغتابون الناس وأنكر بقلبي وأبقي صامتا، وكذلك لا أستطيع الخروج وترك المكتب كل ما اغتابوا أحدا لأن هذا مكان عملي ولي عمل أؤديه، ولو فعلت سأكون طول اليوم خارج مكان عملي بسبب أنهم لا يتوقفون عن ذلك إلا في بعض الأحيان. فهل يكون علي إثم في هذه الحالة؟وماذا أفعل؟ أرجوك يا شيخ أجبني إجابة خاصة ولا تحولني لفتوى أخرى فأمري خطير جدا.

مدة قراءة الإجابة : 5 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا شك في تحريم الغيبة وأنها من الذنوب العظيمة الموجبة لسخط الله عز وجل، وحسبك في ذمها وتحريمها قول الله عز وجل: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً. {الحجرات:12}.

والأحاديثُ في تحريم الغيبة وذم فاعلها كثيرة جدا، ومن ثم نص كثيرٌ من أهل العلم على أن الغيبة من الكبائر، قال ابن عبد القوي في منظومة الآداب:

وقد قيل صُغرى غيبة ونميمةٌ     وكلتاهما كبرى على نص أحمدِ

 

إذا تبين هذا، فإن المستمع للغيبة شريكٌ في الإثم ما لم يُنكر، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. {النساء: 140}.

فالواجبُ عليك أن تُناصح من يغتاب الناس بحضرتك، وتذكرهم بخطورة هذا الذنب وعاقبته الوخيمة، ولا تمل من مناصحتهم، ونهيهم عن ذلك المنكر، بل افعل ذلك حسب الاستطاعة، واتبع في ذلك الوسائل الممكنة، ومن أنفع ذلك أن تغير دفة الحديث إلى وجهة أخرى، فتجتهد في تعليمهم شيئاً من العلم النافع، أو تذكيرهم بأسماء الرب وصفاته ووعده ووعيده، وأحكامه التي شرعها لعباده، فإن ذلك أنفع ما يتحدث فيه الناس وتُقضى فيه المجالس، ونحنُ نظن أنك إن فعلت هذا مع الاجتهاد في الدعاء لهم بالهداية، فإنهم سينتصحون بإذن الله، فإن لم يتيسر شيء من ذلك، ولم ينتصحوا بنصحك، فإياك ومشاركتهم فيما هم فيه، فإنهم بذلك يجرونك إلى الهاوية، واجتهد أنت في أن تؤثر فيهم، ولا تدع لهم الفرصة ليؤثروا فيك.

ويجبُ عليك مفارقة هذا المجلس، إن عجزت عن إنكار المنكر وتغييره.

قال النووي رحمه الله:

اعلم أنه ينبغي لمن سمع غِيبةَ مسلم أن يردّها ويزجرَ قائلَها، فإن لم ينزجرْ بالكلام زجرَه بيده، فإن لم يستطع باليدِ ولا باللسان فارقَ ذلكَ المجلس. انتهى.

فإن لم تستطع مفارقة المجلس لما ذكرت من الأعذار ولا إنكار المنكر بلسانك، فأضعفُ الإيمان أن تبقى منكراً له، كارها له بقلبك، فإذا أنكرت المنكر بقلبك مع العجز عن تغييره، أو القيام من المجلس أجزأ ذلك عنك، قال الغزالي في الإحياء:

فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه. انتهى.

وعليك أن تجتهد في الإعراض عنهم بسمعك وقلبك، إذا كانت حالهم ما ذُكر حتى تصون نفسك من شر مخالطتهم، واشغل نفسك بما ينفعك مما يصدك عن سماع غيبتهم من الإكباب على عملك، وعليك بذكر الله، وتلاوة القرآن أو سماعه، أو سماع شيءٍ من الدروس أو المحاضرات النافعة إذا لم يكن في ذلك إضرارٌ بالعمل.

ونحنُ نسوق إليك هذه النصيحة الذهبية من الإمام ابن القيم رحمه الله، ينصحُ بها من يُخالط الناس في فضول المباحات، وهي أولى أن توجه لمن يُخالطهم في المنكر ولا يستطيع تغييره، قال رحمه الله:

وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه، ويشجع نفسه ويقوي قلبه، ولا يلتفت إلى الوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك بأن هذا رياء، ومحبة لإظهار علمك وحالك ونحو ذلك، فليحاربه وليستغن بالله ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه، فإن أعجزته المقادير عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضرا غائبا، قريبا بعيدا، نائما يقظانا، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية، وما أصعب هذا وأشقه على النفوس وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى، ويديم اللجأ إليه، ويلقي نفسه على بابه طريحا ذليلا، ولا يعين على هذا إلا محبة صادقة، والذكر الدائم بالقلب واللسان. انتهى.

ونسأل الله أن يهدينا وإياك سواء السبيل.

والله أعلم.