شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم - (12) خُلق الزهد
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الزهد خُلق محمود يتصف به كل من أراد الآخرة وسعى لها، ولم يجعل الدنيا همه ولا مبلغ علمه، وهذا ليس معناه أن نزهد في خيرات الله ونعمه إذا ما جاءتنا بطريقٍ حلال، ولا أن نلبس المهلهل والبالي المتسخ، فالله جميل يحب الجمال، وسبحانه يحب أن يرى نعمته على عبده فقال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].ونعم الله لا تعد ولا تحصى، فالصحة نعمة، والزواج والأبناء نعمة، والطعام، والملبس، والسكن و..
و..
و...، نعم كثيرة لم نؤمر أن نزهد فيها، فسبحانه وتعالى قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف من الآية:32]، لكن الزهد يكون فيما زاد عن احيتاجاتنا الضرورية، وأن لا يتعلق القلب بالدنيا ونعيمها، فقِصر الأمل والعمل للآخرة ذلك هو الزهد..
غير أن الزهد سبب للمحبة في الدنيا والآخرة، فقد جاءَ رجلٌ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسولَ اللهِ! دُلَّني على عَملٍ إذا أنا عمِلتُه أحبَّني اللهُ وأحبَّني النَّاسُ؟ قال: «ازهَد في الدُّنيا يحبَّكَ اللهُ، وازهَدْ في ما عندَ النَّاسِ يحبَّكَ النَّاسُ» (صححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح:5115).
وخير من زهد على وجه الأرض هو معلمنا وقدوتنا صلوات ربي عليه، كيف لا وقد قيل له: «إن شئتَ أعطيْنَاكَ من خزائِنِ الأرضِ ومفاتِيحِها ما لم يُعْطَ نبيٌّ، ولا نعطِهَا أحدًا بعدَكَ، ولا يُنقِصُكَ ذلك مما لك عند اللهِ شيئًا، وإن شئتَ جمعتُها لكَ في الآخرةِ، فقال: اجمعوهَا لي في الآخرةِ» فأنزل الله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} [الفرقان:10]، (فتح القدير:94/9).
فصلوات ربي عليه زهد في هذا النعيم كله وطلب أن يجمع له في الآخرة!
وكان يمكث بالشهر والشهرين لا يوقد في بيته نارًا، تقول عن ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها: "إن كنا آل َمحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لنمكثُ شهرًا ما نستوقد بنارٍ، إن هو إلا التمرُ والماءُ" (صحيح مسلم:2972)، وفي روايات أخرى بالثلاث أهلة، وقال أبو هريرة: "والذي نفسُ أبي هريرة بيدِه! ما شبِع نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأهلُه ثلاثةَ أيامٍ تباعًا من خبزِ حنطةٍ، حتى فارق الدُّنيا" (صحيح مسلم:2976).
وكان صلوات ربي عليه لا ينام على فراش لين، -لا أقول فراش من حرير وريش نعام، بل مجرد فراش لين يريح الإنسان في نومه وجلوسه-، بل كان نومه صلوات ربي عليه على حصير يؤثر في جسده الشريف، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث طويل: "...وإنَّهُ لعَلى حَصِيرٍ ما بينَهُ وبينَهُ شيءٌ، وتحتَ رأسِهِ وسادةٌ من أَدَمٍ حشوُهَا ليفٌ، وإنَّ عندَ رجليْهِ قَرْظًا مصْبُوبًا، وعندَ رأسهَ أَهَبٌ معلقةٌ، فرأيتُ أثرَ الحصيرِ في جَنْبِهِ فبكيتُ، فقالَ: «ما يُبْكِيكَ؟»، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فيمَا همَا فيهِ، وأنتَ رسولُ اللهِ فقالَ: «أمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهمْ الدنيا ولنَا الآخرةُ» (صحيح البخاري:4913).
يؤثر الحصير في جسده الشريف ويضع رأسه على وسادة من ليف وهو الذي إن أراد الذهب والفضة لأتاه الله منها الجبال..
فأين نحن الآن منه عليه الصلاة والسلام؟! لقد أخذتنا الدنيا الفانية وألهتنا عن الدار الباقية، وهذا ما كان يخشاه المصطفى صلوات ربي عليه على أمته..لقد خاف علينا الحبيب من الدنيا والتعلق بها، لم يخف علينا من الفقر! فقال عليه الصلاة والسلام: «..واللهِ لا الفقرُ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسَطَ عليكمُ الدنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم فتَنَافسوها كما تَنَافسوها، وتُهْلِككم كما أهلكتهم» (صحيح البخاري:3158).
للأسف هذا حالنا اليوم إلا من رحم ربي.
وبالرغم من هذا الزهد العظيم الذي عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه صلوات ربي عليه كان يلبس الجديد من الثياب، ويتزين للوفود وفي الجمع والأعياد..
فلنهتدي بهديه ولنتعلم زهده، ذلك الزهد الذي لا يحرم الإنسان من نعم وطيبات ما أنزل الله، ولكنه زهد مقنن لا يجعل قلب الإنسان معلق بالدنيا، وفي نفس الوقت يتذوق من حلوها قبل مرها، فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.