أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
8 من الفن القصصي الحديث حينما كان طيباً!.
للكاتب الفرنسي هنري لفران بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي قالت مدام (دي برسي) وهي تحاور زوجها: (إذا كنت تبغي أن تلم بهذا الشأن، فألزم أذنك الإصغاء.

فسرده يعوزه الهدوء ريثما آتي عليه.
) فنبس زوجها في لهجة فيها شيء من الجفاء: (كمشيئتك.

أني إذن صاغ إلى حديثك!) فعاد صوتها يرن، وقد شابه الارتجاف كأنما ينم عن نفس مضطربة، قالت: (حسن!.

إن الحياة معك لا يمكن أن تدوم، وسأتجلد حتى الصباح.

إنك رجل شريف، لا شك في ذلك، ولا يمكنني أن ألصق بك عيباً، فأنت لم تعمل يوماً على المخاتلة والخداع.

أما أنا فلا أقل عنك إخلاصاً ووفاء مذ ذلك اليوم الذي وقفنا فيه أمام النفس يعقد لنا.

ولكنا أحسسنا بعد ذلك أن مشاربنا متباينة، وإني لأعلم أن ثمة أناس لا يقلون عنا تبايناً واختلافاً.

بيد أن حالتنا لا تطاق، فكل إيماءة مني تكدر صفاءك، وإني لموقنة أن هذا الشعور متبادل بيننا: عندما أتحدث يزعجك ذلك، وإذا ما ضحكت أنت تثير حنقي، وكذلك صمتنا يموج بالحقد والبغض.
هذا أمر لا يحق إغفاله، فأنت تورد ما لا أستطيعه، وإني لا أجد فيك بغيتي ومرامي، لأنك بهلق، لا تثبت لحديثي ولا تستلمح إشارتي، بل تعتقد أنني أنغص عليك عيشك في كل عمل آتيه، حتى وقع أقدامي وارتداء ثيابي! أليس هذا هو عين الحق؟ أني لألمح فيك - وأنا أتحدث الآن - نزعة إلى أن تهم بإلقائي من النافذة). فقال زوجها في غمغمة: (حسن! ماذا أيضاً؟!) - لقد انتهى بي الفكر إلى أنه يجب علينا أن يعيش كل منا على حدة.

ليس هذا بخطئي ولا بخطئك.

أنه خطؤنا معاً.

وعلى كل حال فهذه هي الحقيقة العارية عن كل لبس وريب، فكلانا لم يخلق لصاحبه، وربما كانت السعادة إذا ما انفصلنا.

ليس هناك م يمنع من انفصالنا كأصدقاء.

فما رزقنا الله طفلا نتنازع عليه، وكل منا له دخل يغنيه عن صاحبه - لن أنحى باللائمة عليك، فهذا هو السبيل الذي سلكه كل فرد من أفراد أهلك (آل برسي) من الأب إلى الابن، وكان والداك - كما أنبأتني - على غير وفاق، لم يفلحا في العيش معاً أكثر من أسبوعين، وهذه هي العلة في أنك الابن الوحيد لهما.

وأخيراً يجب علينا أن نقلب أوجه الرأي في الطريق اللائق إلى الانفصال! وكان (مسيو دي برسي) يتلقى ذلك السيل الجارف بهدوء وسكينة، ويهز كتفيه من حين إلى حين، أو يقلب شفتيه في زفرات تنم عن نفس مضطربة أو قلب مكلوم.

راح يقطع الغرفة في خطوات واسعة، ويداه معقودتان خلفه، كما كان يفعل (نابليون بونابرت) عندما تسير الأمور بما لا يشتهي.

وإذا ما كفت زوجته عن الحديث واجهها، وأخذ يصعد فيها طرفه في اضطراب من جرحت كبرياؤه ومست كرامته قائلا: أأفرغت جعبتك؟) - بلى، لقد أتيت على كل ما كان يجيش في نفسي - إذاً، كما تودين يا عزيزتي.

أنت ترغبين في الانفصال.
وسأجيبك إلى طلبتك، وسيعيش كل منا في عزلة عن الآخر - أنت حري بأن تفعل ما تراه! - شكراً.

ولكني أمنعك من الاتصال بغيري - إن هذا لا يدور بخلدي.

إذا ما انفصلنا فسأعيش لنفسي، ولن أجد في طلبة غيرك.

لقد كنت مخلصة لك في زواجي، وسأظل على إخلاصي في عزلتي.

أليس هذا ما ترمي إليه؟! - لا، ليس هذا كل ما أود، فينبغي أن يعرف كلانا مصير صاحبه! - مصير صاحبه! أننا نعلمه جيداً، راحة وهدوء، ثم طعن في العمر، وأخيراً المقبرة حيث المثوى الأخير. - ليس هذا! دعيني أتحدث! كل منا حر في اختياره مصيره، ولكن هناك أمر يجب ألا نغفله، فيحسن بنا أن نجعل هذا الانفصال بيننا فقط، ويخيل إلي أنك تحبذين ذلك! - حسن، ولكن هذا السر لا يلبث أن يذاع في النهاية! - ليس طفرة واحدة، فيخف وقعه ووطأته، ولهذا يجمل بي أن أقول: أنه ينبغي أن ندر الرماد في أعين الأصدقاء، لكي لا ندع لهم مجالا للظنة والريب، فقالت الزوجة وقد اعتصمت رأسها بين يديها: (وكيف السبيل إلى ذلك؟!) - ما دمت قد صممت على الرحيل في الغد، فلا يحسن بك أن تذهبي إلى أصحابك وأقرانك في الريف أو في الخارج، ارحلي إلى بريطانيا، هه.
.
ارحلي إلى (مينو) فامكثي هناك فترة لا يحد الضجر بها إلى نفسك سبيلا.

إلبثني شهرين إذا أمكنك ذلك.

و (مدام بنارد) - مدبرة قصرنا الريفي الذي نشأت فيه أن خلفني والداي - ستقوم على خدمتك والعناية بأمرك ما وسعها ذلك.

أرجو أن تخبريها بحضوري على الدوام - هذا لا تفكر في أن تأتيه؟.
- بلى، ولكن يجب أن تخبريها، وهذا المكان يشيع فيه الجمال والإبداع في التنسيق على مبعدة فرسخين من (جوراند) وعاصمة (باتر).

وأعتقد أن قدميك لم تطأ هذه البقاع.

مراتها مدرج طفولتي ومهد صباي.

أنها تفوق بريطانيا حسناً وروعة.

فلا تجعلي هذه الفرصة تمضي دون انتهازها! - لقد حدثتني في لباقة وهدوء، وإني لا أود أن أغادر بيتك هذا على سوء.

أبرق إلى (مدام بنارد)، فسأرحل إلى (مينو) وسأمكث شهرين! - شكراً.

سعدت مساء! - لا، بل قل وداعاً.

أنه فراق بيني وبينك! ولم يرتعد صوتهما في هذا الوداع الأخير.

ولكن قلبيهما.

قلبيهما المعذبين.

كانا يخفقان ويرددان: (أهذا حق؟! هل قطعت كل رابطة بيننا؟ أيفارق كل منا صاحبه؟ سنرى أيتها الفتاة.

سنرى أيها الفتى! أقبل شهر مايو، وهبت نسمات الربيع على الكون رخاء سجسجاً واتخذت (مدام دي برسي) أهبتها للرحيل إلى (مينو) في عدوة يوم أضحيان.

والشمس تدلف في خمول، ولم نبلغ حرارتها أوجها بعد.

بدا الساحل في فتنة وروعة لا تدانيها روعة.

كأنه يبسم للشعاع والصبح الوليد.

والأمواج تداعب بيانه في رقة وهي تتسابق إليه كالطفل يهرع متعثراً إلى ذراعي أمه.

وتناثرت الحضرة في كل مكان.

والرمال تبرق صفحتها كالدر المنثور.
أنه لجو صحو يحلو لمن يبغي الهدوء والجمال.
قضت (مدام دي برسي) أيامها الأول في تعرف محيطها الجديد.
كانت سكناها في حجرة ذات جدر مكسوة بستائر صفراء مزركشة.

وتطل هذه الحجرة على مناظر رائعة.

فإلى اليمين السهل الفسيح وقد تناثرت فيه الصخور والنواتئ.

والشجيرات ذات العطر والبهاء، والى اليسار يبصر المرء دغلا من الأشجار (الصنوبرية) السامقة تصفر بين جذوعها الريح فكأنها عزيف الجن والأرض العراء.
أرسلت (مدام دي برسي) طرفاً شارداً إلى أمتعتها المبعثرة والى تلك الحجرة المنسقة.

فراحت تفكر جاهدة في تدبير غرفتها على نسق يلذ لها أن تراه.
إن الطبيعة لتقدم إلى أولئك اللائى يجتزن - مثل (مدام دي برسي) الأزمات الزوجية أجل المنافع.

فالهدوء والسكينة والطمأنينة تعيد إلى نفوسهن شيئاً من المحبة والشوق إلى أزواجهن بعد انفصالهن، وتسكن في قلوبهن ذلك الخاطر الحزين الذي طالما يطوف بهن.
جلست (مدام دي برسي) تطوف الخواطر بخيالها.

وتعد الذكريات إلى نفسها.

فراحت تذكر أيام الطفولة البريئة الطاهرة ولعبها العديدة، ثم عندما بدأت عيناها تنظر إلى الحياة.

وأول ثوب طويل لها.

وأول رقصة رقصتها.

ثم عندما كانت عذراء قبل زواجها؛ وأخيراً تلك الحياة الزوجية.

كانت حياتها تنساب في غير تعثر، فما كانت تحفل بالقصص والفجاءات، ولا الحزن والمرح.

وإنما كانت تسير سيراً عادياً تحدده عناية الله. ومذ تسع سنوات كانت تأوي إلى مضجعها والأمل يداعب نفسها للغد القريب.

وغابت التسع سنوات سراعاً، وهاهي ذي تعاني المرارة والألم.

كانت تبغض زوجها وكذلك هو.
وكثيراً ما كانت تبدي هذا البغض في أعمالها.

أما هو فكان يبدي استياءه عند سيرها.

أو ينفر من حديثها.

بل يتبرم به.

كانت أخلاقهما متباينة متنافرة.
ما كان زوجها بالرجل المرح الذي تصبو إليه النساء.

بل كان جامداً عزوفاً عن المجتمع.

ولكن فيه فطنة وحدة ذكاء مع سمو في الخلق وجلال في الخلال.

ذو قلب مخلص حنون هادئ.

بيد أنها تأبى أن تعاشره لاعتزاله المجتمع ونفوره منه، بينما كان في ريعان الحياة.

وكانت تحس أن السعادة ستواتيها رويداً في عزلتها هذه.
رضيت (مدام دي برسي) بصحبة (مدام بنارد) المدبرة الكهلة التي أقامت في القصر منذ بنائه.

وكانت موضع تبجيل الجميع.

فلم تكن بالخادمة.

لقد ربت (مسيو دي برسي) وعنيت بنشأته.

وما لبثت أن توثقت عروة المودة بين (مدام دي برسي) وبينها.

لأن هذه العجوز كانت مع شعرها الأبيض وثوبها البسيط الأسود ذات روح طيبة مرحة ونفس مجربة مدبرة.
نهضت (مدام دي برسي) مع السيدة العجوز لتتجول في أنحاء القصر فقادتها إلى غرفة بالطابق الثالث.

وقالت وهي تدفع بابها: (إني أرجو أن أطلعك على كل ما كان يمت إلى زوجك العزيز (مسيو دي برسي) في صباه؛ فهذه هي غرفة لعبه ونومه) وجذبت باباً لصوان عتيق مكتظ باللعب المختلفة وقالت: (هذه كانت لعبه عندما كان لا يزال دارجاً صغيراً). ثم راحت تستعيد أغوار الماضي السحيق وتقول في صوت خفيض: (انظري، يا سيدتي.

لقد كانت له عروس صغيرة يعبث بها ويقبلها ويقول: سيأتي اليوم الذي أتزوجك فيه يا عروستي.
لقد كان على خطأ بلا شك، فعنده اليوم زوجة ما كان يخطر له أن يقترن بها) فلم تنبس (مدام دي برسي) ببنت شفة!.
.
وعادت (مدام بنارد) تقول (إن هذا يثير كوامن نفسك بلا شك!) - (نعم.

يا مدام بنارد!) فتمادت السيدة العجوز في عرض كل ما كان يخص (مسيو دي برسي) في غرفة نومه.

وكانت كثيراً ما يتشعب بها الفكر فتذكر اسمه القديم (لويس) فتعجبت (مدام دي برسي) من جهلها بهذا الاسم مع زواجها بصاحبه.
.
ثم شاهدت غرفة دراسته وكتبه وكراساته، وتناولت (مدام دي برسي) إحداها من المرأة العجوز التي كانت تقول في شوق وشغف (انظري!.
.
كم كان خطه جميلا عندما كان صبياً.
) وقرأت (مدام دي برسي) في إحدى الصفحات عبارة بخط كبير (أين هو الحب؟!) ثم قالت (أود أن أخرج لأتنسم الهواء، فإني اشعر بدوار.
) مضتا في صمت إلى الحديقة.

وكان نسيم البحر يلطف من جوها ويصفر في أنحاء الغابة الصنوبرية.
وراحت السحب تمضي على مهل في صفحة السماء.
بلغت المرأتان شفير بحيرة تسبح في مائها الأزرق السابي بجعتان ناصعتا البياض تسميان: (جوبتر) و (جالو).

فغمغمت مدام بنارد قائلة: (هذه هي البحيرة التي كان يقطعها سابحاً بزورقه.

عندما كان صبياً.

وقد كادت أن تطويه يوماً في مائها.

أني لأذكر هذا اليوم طيلة حياتي).
وأدركتا نهاية المزرعة حيث كان ثمة مقعد قديم دارس نمت عليه الحشائش وكسته الأزهار.

قالت مدام بنارد: (هذا مقعده حيث كان يجلس للقراءة.
) وفي جولتهما مرتا بفسيح من الأرض الخضراء، فارتفع صوت (مدام بنارد) قائلة: هذه هي الحديقة التي كان يفضلها ويقوم فيها برياضته.
). وعندما مرتا باصطبل للخيل.

علقت فيه السروج والمواتر والسموط قالت مادم بنارد: (كان يقطن هنا بونيفاك!) - (ومن بنويفاك هذا!؟.) - (فرسه الصغير.
) وتنقلا من مكان إلى آخر حتى أتمتا سياحتهما وشاهدتا صحن الدار والحدائق والأدغال والريف المحيط بالقصر والطريق وفروعه وكل ما كان يخص (لويس) من أماكن كان يرتع فيها لاعباً أو لاهياً، ويجلس فيها قارئاً أو كاتباً.
كانت آثاره في كل مكان، فما تقدمت (مدام دي برسي) خطوة حتى بصرت بأثر جديد ينم عن زوجها إبان صباه.

وقد لوحته الشمس ودرسه صرف الدهر.
فلما انقضت الجولة وآواتهما الدار من جديد.

قصدا البهو حيث جلستا في فرجة شرفة تطل على البحر بأمواجه الراقصة.
وراحت مدام بنارد تسرد قصة (مسيو دي برسي) في طفولته وصباه في لهجة صادقة مخلصة: (لعلك تدرين أن والديه كانا على قسط وافر من الغرابة.

ولكنني أدرى منك بذلك.

قلما اتفقا على شيء.

ولم يكن أحدهما غريباً عن الآخر، ولكن أخلاقهما كانت غريبة حتى أنهما عاشا منفردين طيلة زواجهما الذي لم يجتمعا فيه إلا أياماً معدودة.

فإذا حضر الوالد إلى هنا، كان على المرأة أن تغادر القصر على الفور.
.
كان كل منهما مشغوفاً بسيدي (مسيو لويس) فهو ابنهما الوحيد.

فضلا أن يدعاه هنا في كنف.

فقمت أرعاه وأحدب عليه ما وسعني.

فكان لي كل شيء في هذه الدنيا.

وقضى والداه نحبهما وما زال في المهد صبياً.

فحزن عليهما هذا التعس الشقي وكأنه يعرفهما حق المعرفة، ولو أني قضيت لما بكي على بكاءه عليهما مع أني ربيته ورعيته أني أحيطك علماً بذلك يا سيدتي لكي تكوني على بينة من الأمر إذا لم يكن قد أفضى إليك به.

وينبغي عليك أن تشفقي عليه فهو شقي تعس، وأحياناً تضطرب أعصابه فيثور ويهيج ويخرج عن طوره وهدوئه؛ وما هذا بذنبه.

ولكن يرجع إلى والديه، وإسراع المنية إليهما وهو لا يزال المهد.

فلو أنه عاش في طفولة غير هذه الطفولة.

لكان رجلا آخر.
). طفقت هذه الذكريات تنساب من ثغر مدام بنارد في إسهاب وإطناب.

حتى أقبل المساء إلى الكون، واخذ الشفق ينشر في الأفق رداءه الأرجواني الرائع.

وحينئذ سألت (مدام دي برسي) عن مصباح يمزق تلك العتمة التي بدأت تثقل وتقتم.

أما (مدام بنارد) فلم تلمح تلك الدمعات التي تألقت على وجنتي مدام دي برسي فجففتهما في سكون.
وأخيرا وجهت (مدام دي برسي) الحديث إلى المرأة العجوز وهي تنهض قائلة (يسرني ويبهجني ما تحدثت به عن زوجي العزيز يا مدام بنارد.
) وضغطت على يدها في تأثر.

فعجبت مدام بنارد لهذا التأثر، ولم يكن هذا آخر عجبا إذ أن (مدام دي برسي) بعثت معها ببرقية لترسلها من مكتب (جوراند) إلى باريس.
ولم تكن تدري ما احتوته هذه البرقية.

ولكن علمت أنها وصلت باريس هذا المساء وحضر (مسيو دي برسي) في اليوم التالي (طنطا) مصطفى جميل مرسي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣