المبادرة نصحا للأمة
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
المبادرة نصحاً للأمةكان العلماء يبادرون بإخراج مؤلفاتهم، وقد يُعجّلون بذكر فوائد مهمة قبل الوصول إلى موضعِها المُناسب بها، حبّاً للفائدة، وحرصاً على وصولها إلى الطالبين، وخوفاً مِن كتمِ العلم، أو ضياعهِ بعارضِ الموتِ أو المرضِ.
وقد جاء في "الوسيط" للإمام الواحدي (ت: 468) في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ [آل عمران: 114]: "يُبادرونها خوفَ الفوتِ بالموت"[1].
وجاء في "نظم الدُّرر" للإمام البقاعي (ت: 885) في تفسير ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ﴾ [الأنعام: 135]: "أي على مكانتي وبقدر استطاعتي، قبلَ الفوتِ بحادثِ الموت"[2]:
وهذه نصوصٌ رأيتُها في هذا الشأن:
1- قال الخليفةُ الناصرُ العباسي (ت:622) في مقدمة كتابه "روح العارفين مِنْ كلام سيد المرسلين"[3] -وأظنُّ الكلامَ لمَنْ خرَّج له هذه الأحاديث من العلماء، ولعل المعنى منه والصياغة لغيره-:
"ولما كانت الأحاديثُ النبوية، والآثار المروية عن سيد البرية، مما لا تُنزَفُ باستنفادِ الأعمارِ بحارُها، ولا يُدرَكُ على اختلافِ الليلِ والنهارِ قرارُها، وكان الأمل يُخافُ أنْ يسبقَه هادمُ اللذات، ولا يُؤمنُ عليه الفوات، بادرنا إلى مسابقة الأجل، وانتهاز فرصة المهل، فأفردنا مِنْ جملة ما يختصُّ بروایتنا، ويدخلُ تحت إجازتنا، طرفاً وجيزاً بطرقه المعروفة، وأسانيده المشهورة؛ ليكون هادياً بأنواره المتلألئةِ الإشراق، إلى مناهجِ الفوزِ ومكارمِ الأخلاق".
2- وقال العلامة الأديب المؤرِّخ ياقوت الحموي (ت: 626) في مقدمة كتابه "معجم البلدان"[4]: "ولمّا تطاولتْ في جمع هذا الكتابِ الأعوام، وترادفتْ في تحصيل فوائدهِ الشهورُ والأيام، ولم أنتهِ منه إلى غايةٍ أرضاها، وأقفْ على غلوةٍ مع تواتر الرّشق فأقول: هيَ إيّاها.
ورأيتُ تعثّرَ قمرِ ليل الشباب بأذيال كسوفِ شمسِ المشيبِ وانهزامه، وولوجِ ربيعِ العُمر على قيظ انقضائه بأمارات الهرم وانهدامه.
وقفتُ هاهنا راجياً فيه نيل الأمنيّة، بإهداءِ عروسه إلى الخُطاب قبل المنيّة.
وخشيتُ بغتةَ الموت، فبادرتُ بإبرازه الفوت.
على أنني مِن اقتحامِ ليلِ المنيّةِ عليّ قبلَ تبلّجِ فجرهِ على الآفاق لجدُّ حذر، ومِنْ فلولِ حدِّ الحرصِ لعدم المُحرّضِ عليه والراغبِ فيه منتظر.
فكيف ثقتي بجيشِ عمرٍ قد بيّتته مِنْ كتائبِ الأمراضِ المُبهمة حواطمُ المقانب، أو أركنُ إِلى إصباحِ ليلٍ اعترَضتني فيه العوارضُ مِنْ كلِّ جانب؟".
3- وقال الإمامُ أبو شامة المقدسي (ت: 665) في كتابه "خُطبة الكتاب المُؤمّل في الردِّ إلى الأمر الأول"[5] في سياق مسألةٍ: "وسيأتي تقريرُ ذلك -إنْ شاء اللهُ تعالى- في موضعه، وإنما قدَّمتُه هنا خوفاً مِن اخترام المنيّة قبل الوصول إليه، لأنّه في أواخرِ الكتاب".
4- وقال الإمامُ النووي (ت: 676) في "المجموع= شرح المُهذَّب"[6]: "وقصدتُ ببيان هذه الأحرف تعجيلَ فائدةٍ لمُطالعِ هذا الكتاب، فربّما أدركتني الوفاةُ أو غيرُها من القاطعات قبل وصولها، ورأيتُها مهمةً لا يَستغني مشتغلٌ بـ "المُهذَّب" عن معرفتها، وأسألُ اللهَ خاتمةَ الخير واللطف، وبالله التوفيق".
فمن كان يعملُ في كتابٍ أو بحثٍ، أو لديه فكرة معينة تنفع الناس فليبادرْ مستعينًا بالله تعالى- إلى إنجاز ذلك، وفي ذلك صدقة جارية، وأعظمْ بها مِنْ محفِّز.
[1] الوسيط (1/ 481).
[2] نظم الدرر (7/ 277).
[3] ص 31.
[4] (1/ 13).
[5] ص116.
[6] (1/ 71).