أرشيف المقالات

نداء من منطقة القفقاز

مدة قراءة المادة : 65 دقائق .
نداء من منطقة القفقاز

فترة الاصدار: 19 يناير 2007، 20:11


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أمّا بعد :



فإنّ منطقة القفقاز من البلاد الإسلامية التي تقع تحت الاحتلال الروسي، وقد غفل المسلمون عن هذه المنطقة، وقصّروا في دعمها ونصرتها، سوى بعض المساعدات والمشاريع الخيرية من بعض الأفراد والمؤسسات الخيرية، مّما لا يسد ضرورات المنطقة وحاجاتها، وفي مقدمة هذه الضرورات دعوة المسلمين إلى دينهم، ونصرتهم في جهادهم لعدوهم الروسي، وإخراجه من بلادهم ، وقد بدأنا هذه الرسالة بنبذة تاريخية مختصرة عن المنطقة، ثمّ ذكرنا الطريق الذي ينصر به دين الله تعالى في هذه الأرض وغيرها من بلاد المسلمين المحتلة، فالطريق هو الدعوة إلى كتاب الله تعالى الذي به الهدى والرشاد، والجهاد الذي ينصر الكتاب ويحميه، كما جمع الله تعالى بينهما في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].


والطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة - كما أنّها تتميز بتمسكها بالكتاب والسنة - فهي كذلك تجاهد في سبيل الله بالنفس والمال وهو من صفاتها البارزة كما جاء هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث الطائفة المنصورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» ، وقال: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة» ، وقال: «من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» ، وقال: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، ظاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك».

تاريخ منطقة القفقاز (القفقاس)

بدأ دخول الإسلام منطقة القفقاز في السنة الثانية والعشرين من الهجرة في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال ابن كثير - رحمه الله -: "لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثم الري، وكان قد بعث بين يديه بكير بن عبد الله من همذان إلى أذربيجان، وأردفه بسماك بن خرشة، فلقي أسفندياذ بن الفرخزاذ بكيراً وأصحابه، قبل أن يقدم سماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بكير أسفندياذ، فقال له أسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ فقال: الصلح. قال: فأمسكني عندك. فأمسكه، ثمّ جعل يفتح بلداً بلداً وعتبة بن فرقد - أيضاً - يفتح معه بلداً بلداً في مقابلته من الجانب الآخر.
ثمّ جاء كتاب عمر بأن يتقدم بكير إلى الباب، وجعل سماك موضعه نائباً لعتبة بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد، وسلّم إليه بكير أسفندياذ، وسار - كما أمره عمر - إلى الباب.

قالوا: وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاد لعتبة بن فرقد فهزمه عتبه وهرب بهرام فلّما بلغ ذلك أسفندياذ وهو في الأسر عند بكير قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب.
فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم".


وعادت أذربيجان سلماً، وكتب بذلك عتبة وبكير إلى عمر، وبعثوا بالأخماس إليه.
وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لأهلها كتاب أمان وصلح.

قال ابن جرير: "وزعم سيف أنّه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب كتاباً بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو - الملقب بذي النور - وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة ويقال له - ذو النور أيضاً - وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان قد تقدمهم إلى الباب - وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة.
فساروا كما أمرهم عمر وعلى تعبئته، فلمّا انتهى مقدّم العساكر - وهو عبد الرحمن بن ربيعة - إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهر براز ملك أرمينية ....
فكتب شهر براز لعبد الرحمن واستأمنه فأمنّه عبد الرحمن بن ربيعة، فقدم عليه الملك، فأنهى إليه أن صغوه وأنّه مناصح للمسلمين فقال له: إن فوقي رجلاً فاذهب إليه.


فبعثه إلى سراقة بن عمرو أمير الجيش، فسأل من سراقة الأمان، فكتب إلى عمر فأجاز ما أعطاه من الأمان واستحسنه، فكتب له سراقة كتاباً بذلك. ثم بعث سراقة بكيراً .
وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة، إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية جبال اللان وتفليس وموتان، فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان، ومات في غضو ذلك أمير المسلمين هنالك، وهو سراقة بن عمرو ، واستخلف بعده عبد الرحمن ابن ربيعة".



وقال الشيخ محمود شاكر: "بلاد القفقاس هي البلاد الواقعة بين بحر الخزر في الشرق والبحر الأسود في الغرب بين نهر (ترك) ونهر (قوبان) في الشمال، ونهري (كورا) و(ريفون) في الجنوب، وتشكل جبال القوقاز العمود الفقري وتتجه من الجنوب الشرقي عند مدينة (باكو) أو شبه جزيرة (أبشيرون) إلى الشمال الغربي عند مضيق (كرش) بين بحري الأسود وآزوف، وتمتد هذه الجبال على طول 1200كم.
تبلغ مساحة المنطقة ما يقرب من نصف مليون كيلو متر مربع، وإن كانت صحراء القفقاس الشمالية تشغل أكثر من ثلث هذه المساحة وهي مرتبطة سياسياً الآن بالأجزاء الشمالية من المنطقة والتي لا تعد من بلاد القفقاس، أمّا التقسيمات الإدارية فيها فلا تزيد مساحتها على 324.200 كيلو متر مربع.


وتشكل الأجزاء الواقعة إلى شمال خط ذرا جبال القوقاز ما يقرب من ثلث هذه المساحة (111.800كم²) الأجزاء الشمالية يدين معظم أهلها بالإسلام، أمّا الأجزاء الجنوبية فالأقسام الشرقية منها (أذربيجان) والأقسام (آجاريا وأبخازيا) مسلمة، أمّا الجهات الوسطى فأكثرية سكانها من النصارى (الكرج والأرمن).
يعد الإسلام في الأجزاء الشمالية منها حديث العهد إذ انتشر أيّام العثمانيين باستثناء المناطق الشرقية (داغستان) التي عمها الإسلام منذ أيّام الراشدين.
وأمّا الأجزاء الجنوبية فالمناطق الشرقية منها (أذربيجان) انتشر فيها الإسلام منذ أيّام الراشدين، وكذا حالة المسلمين الذين يعيشون بين النصارى في المناطق الوسطى على حين أنّ الجهات الغربية تعد تابعة للأجزاء الشمالية انتشر فيها الإسلام أيّام العثمانيين".


إنّ طبيعة البلاد الجبلية قد جعلتها موطناً لكثير من الشعوب المختلفة، إذ أقام بعضها بقصد الغلبة على المنطقة وما حولها، واستقر فيها جماعات رغبة في التجارة لأنّها إحدى الطرق الرئيسية بين الشمال والجنوب، وممراتها محدودة تضطر القوافل إلى أن تسلكها، والتجأت إليها أقوام فراراً من جيرانها وتحصنت في مواقعها المنيعة، وكثيراً ما كانت شعوبها تمتنع عن غيرها من الدول القوية التي تقوم بالقرب منها، أمّا في أرضها فلم تنشأ حكومات كبيرة، لطبيعة أرضها المجزأة، وشعوبها المفرقة.
وهذا ما أطمع فيها، فقد غزاها الآشوريون والكلدانيون، والمصريون القدماء، وخضعت لبيزنطة فانتشرت النصرانية في جنوبها.


وأكثر مناطقها تعرض للغزو ما كان في الجنوب، لأنّ أكثر المناطق المعمورة يومذاك كانت في الجنوب والجنوب الغربي، وفيها قامت الدول القوية والإمبراطوريات، فقد امتلكت الصين أقسامها الجنوبية، وهي نفسها كانت موضع النزاع بين الفرس والرومان.
ولمّا كانت مناطقها منعزلة بعضها عن بعض بسبب الجبال المنفصلة بعضها عن بعض بالأودية لذا فقد كثرت شعوبها وتعددت قبائلها إذ استقلت كل جماعة في بقعة جبلية، وانعزلت عن غيرها، ولهذا فقد احتفظت كل مجموعة بلغتها وعاداتها وبقيت محافظة عليها ولا تزال إلى الآن.
وتعود هذه الجماعات إلى أصول مختلفة، وترجع اللغات إلى أرومات متباينة.


أضحت الأجزاء الجنوبية والشرقية جزاءاً من ديار الإسلام منذ عهد الفتوحات الأولى، إذ فتح سراقة بن عمرو أذربيجان، واتجه نحو الشمال، وكان على مقدمة جيشه عبد الرحمن بن ربيعة الذي سار نحو (باب الأبواب) أمّا على ميسرته فقد كان حبيب بن مسلمة، فدخل بلاد الكرج وأرمينيا حوالي عام 22هـ، في أواخر أيّام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأوّل أيّام الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وإذا كانت الأجزاء الشرقية قد تمكن فيها الإسلام ودخلته قبائل منها، مثل لقوموق، وداغستان فإنّ المناطق الجنوبية قد كان انتشاره فيها بطيئاً، لتمكن النصرانية، وطبيعة البلاد الجبلية فقد اعتصم عدد من السكان في مواقع منيعة، ولأنّ الروم كان يحرضونهم باستمرار ضد المسلمين، ويدعونهم إلى المقاومة، ويمدونهم بكل متطلباتهم من سلاح وغذاء ومقاتلين أحياناً، وفي نفسه يجب ألاّ ننسى ما كانت تعاني الدولة الإسلامية يومذاك من خلافات وفتن أقضّت مضاجع أبنائها، وحدّت من انتشار عقيدتها، فكان سكان جنوب بلاد القفقاس (الكرج والأرمن) كلّما استعرت نار الخلافات بالدولة الإسلامية خلعوا الطاعة، وأعلنوا العصيان، وأظهروا التبعية للروم، وكلما هدأت حدة الخلافات واتجه المسلمون نحو الفتح، وبدت قوتهم خنع سكان جنوب القفقاس وأبدوا الطاعة، وطلبوا العفو .


مع الأسف كثيراً ما عاد هذا العفو على المسلمين بالضرر والوبال! تغلب عليهم الرحمة ويصدقون خصمهم ويعطون الأمان، ثمّ يتكرر العصيان وطلب العفو وهذا كلّه جعل انتشار الإسلام في المناطق الجنوبية قليلاً.
أمّا الأجزاء الشمالية فقد بقيت بعيدة عن أيدي الفاتحين مدة طويلة من الزمن لتوقف الفتوحات وضعف الدولة الإسلامية وانقسامها، ولذا بقي السكان على وثنيتهم.


حكم بنو ساج الأجزاء الشرقية منذ عام 277 هـ بعد أن انقسمت الدولة الإسلامية وذهب ريحها.
ثمّ تقدم البيزنطيون عام 329هـ، وبعدها أعلن الكرج الانفصال ودخلوا مدينة (تفليس) عام 417هـ، وهم من أتباع الديانة النصرانية، واستمر ذلك حتى جاء السلاجقة عام 475هـ وفتحوا المنطقة، ودخل ألب أرسلان بلاد الكرج عام 465هـ.


جاء جنكيز خان قائد المغول فسيطر على المنطقة كلّها، وعندما قسم دولته كانت بلاد القفقاس من نصيب ولده الكبير جوجي، وكانوا على الوثنية فلم يتبدل شيء، فلمّا أسلم مغول الشمال دخلوا في صراع مع أبناء عمومتهم مغول الدولة الإلخانية الوثنية فلم يكن هناك مجال لانتشار الإسلام، وخاصة أنّ مغول الشمال لا يزالون في بداية إسلامهم، ولا يملكون الحماسة اللازمة للدعوة كما أنّه ليس لديهم الفقه الكافي للعمل، ثمّ لم يلبث أمرهم أن ضعف، وتجزأت دولتهم، حتى احتل تيمور لنك المنطقة، وهو وإن كان ينتمي إلى الإسلام فإنّه لا يعرف منه سوى التبعية، وكان طاغيةً جباراً لا يروي ظمأه سوى رؤية الجثث المبعثرة في العراء أو أكوام الجماجم الملقاة أمام فسطاطه، ولا يمكن لمثل هذا أن يكون فيه أي خير لدينه، بل يعد منفّراً، ويكفي سلوكه وسلوك قادته أن يكون وسيلة كره للإسلام وأهله، ويبعد أكثر مّما يقرّب، وتجعل الوثنيين في منأى عن الإسلام.


وعاد الضعف إلى دولة مغول الشمال وزاد انقسامها وتفرقها، وقام الروس يحاربونها حتى إذا سيطروا على بلاد التتار الشرقية وجهوا جهودهم نحو القرم فأحس عندها العثمانيون بخطورة الموقف فنزلوا إلى بلاد (القرم) وعدوها جزءاً من دولتهم، ثمّ بدؤوا العمل في بلاد (القفقاز)، فاحتلوا بلاد (الكرج) عام 985هـ وبلاد (شروان) ومنها انتقلوا إلى بلاد (داغستان) فاحتلوها عام 991هـ واستمر توسعهم حتى عام 1094هـ حتى شمل بلاد (القفقاس) كلّها وإن كان هذا التوسع بين مد وجزر بين العثمانيين والصفويين، ومع نزول العثمانيين في تلك الجهات بدأ الإسلام ينتشر بين السكان، وكان لهذا أثره الواسع لصالح العثمانيين إذ وقف السكان المسلمون بجانبهم ضد الصفويين الشيعة وضد الروس النصارى.
وفي الوقت نفسه فقد استفاد الروس من الصراع بين العثمانيين والصفويين فتدخلوا بين السكان وساعدهم على ذلك (الكرج) الذين كانوا على ديانتهم.


ابتدأ نفوذ الروس يدخل إلى المنطقة منذ التوجه إلى (القرم) والانتهاء من بلاد التتار الشرقية، ومراسلة الشاه الصفوي طهماسب للقيصر الروسي إيفان الرهيب ومحاولة التفاهم معه حيث شعر القيصر بأهمية بلاد القفقاس له، إذ بعد دخول استرجان عام 961هـ تقدم الروس في الصحراء شمال القفقاس (دشت القفجاق)، وأصبحوا على حدود بلاد القوموق، والشاشان، والبلكار، الأديغة.


وعندما ضعف أمر الصفويين، وكان العثمانيون قد ضعفوا أيضاً وكلاهما يدخل في صراع مع الآخر عندها تقدم بطرس الأكبر قيصر روسيا، واحتل بلاد داغستان وسواحل الخزر الغربية، وإنقاذاً لجزء من هذه البلاد تقدم العثمانيون ودخلوا أرمينيا، وبلاد الكرج، غير أن حاكم منطقة (رشت) الصفوي استنجد بالقيصر الروسي بطرس الأكبر ضد العثمانيين فأسرع لنجدته وتنازل الشاه الصفوي طهماسب الثاني للروس عن داغستان، وشروان بل وعن (جيلان) و (مازندران).
استقلت بلاد (قبرطاي) عام 1152هـ إثر معاهدة بلغراد بين العثمانيين والصليبيين، وبهذا الاستقلال عن العثمانيين بدأ الوهن يتسرب إلى النفوس والضعف يدخل المنطقة وبعد مدة سيطر الروس على الأطراف الشمالية لبلاد القفقاس.


ثمّ إنّ القيصر الروسي الجديد بول الذي خلف القيصرة كاترين الثانية رأى أن يخرج من بلاد الكرج إذ لا فائدة من مساعدتهم ثم عدل عن رأية، وهاجم المنطقة وضمها إليه، وهذا ما أجبر القائد الداغستاني عمر خان على مهاجمة الروس في بلاد الكرج ودعمه العثمانيون، كما ساعده الشاشان ولكنّه فشل في هذا الهجوم، فابتلع الروس بلاد الكرج عام 1215هـ وعدوها جزءاً من أرضهم.
ولم يلبثوا أن تقدموا في بلاد شروان وأذربيجان عام 1228هـ، وكانوا إثر كل انتصار يحققونه على العثمانيين أو على الفرس يضمون جزءاً من بلاد القفقاس فهم في توسع دائم وزيادة مستمرة في قوتهم، والمسلمون في تأخر وضعف.


وجد المسلمون بلاد القفقاس أنفسهم وحيدين في هذا الميدان لأنّ العثمانيين والفرس يتراجعون باستمرار، ولهذا فإنّه يجب الاعتماد على الله وإعداد النفس، ومن هذا المنطلق بدؤوا يهيئون أوضاعهم الداخلية حتى إذا تمّ ما أرادوا ألّفوا حكومة عام 1241هـ في بلاد الداغستان على رأسها العلماء، وبرز بينهم الشيخ شامل الذي أرسل العلماء إلى المناطق الأخرى لاستنهاض الهمم، وبدأ القتال عام 1256هـ بين الشيخ شامل وبين الروس.


بدأ الشيخ شامل خطته بالهجوم على الروس واستمر عشر سنوات في هجومه مستفيداً من انشغال الروس بحرب القرم، فاضطروا أن ينسحبوا من عدة مناطق، فلما انتهت حرب القرم عام 1275هـ حشدت روسيا جيشاً لا قبل له به إذ يزيد على ثلاثمائة ألف مقاتل، وبدأت الهجوم على بلاد (الشراكسة) واكتسحت البلاد جزءاً بعد آخر وبدأت بأبشع الأعمال الوحشية لتخيف السكان فيتركوا ديارهم، ويصل الرعب إلى المناطق الأخرى فيدب الذعر وتضعف المعنويات وبدأت أفواج الشركس، والشاشان، والداغستان تغادر ديارها نتيجة الوحشية الروسية وتتجه نحو البلاد العثمانية فنقلتهم الدولة إلى أوروبا إلى خط النّار ليؤدوا دورهم لمّا عرف عنهم من شجاعة وتضحية، غير أنّ الدول الأوربية النصرانية قد أدركت دور هؤلاء القفقاسيين فألزمت الدولة العثمانية في مؤتمر برلين عام 1295هـ على نقلهم ثانية من جهات القتال، فأخذتهم الدولة من ميدان المعارك ووزعتهم على هامش الصحاري والبوادي ليردوا غارات البدو عن المدن والحضر في بلاد الشام والعراق.
وأُسر الشيخ شامل عام 1281هـ وتفرقت الجيوش القفقاسية، ودخلت روسيا المنطقة وابتلعتها وبدأت تمارس أنواع الاضطهاد لكل الجماعات التي نالت على أيديها من الهزائم ما نالت، لذا تكررت هجرات السكان إثر هذه السياسية الروسية الحاقدة.


وصل الروس بعد السيطرة على هذه المناطق إلى جهات جبلية تصعب فيها العمليات العسكرية، ويصعب فيها التقدم، وخاصة أنّ سكانها من المسلمين الذين يمكنهم أن يدافعوا عن بلادهم بشكل عنيف، إضافة إلى اقتراب الروس من قلب العالم الإسلامي، وهذا لا يهمهم الآن، أو لا يريدون الدخول مع أهله في حرب صليبية طويلة الأمد ربّما تكون في غير صالحهم أو - على الأقل - لا يدرون نتائجها، وإنّما يريدون قبل هذا تقوية دولتهم في التوسع، واحتلال المراكز الحساسة وإيجاد المواقع التي يمكنهم الدفاع عنها، لذا كان عليهم أن يتوجهوا إلى ناحيتين اثنتين :

أولاهما: نحو تركستان والشرق.

والثانية: العمل للسيطرة على المضائق العثمانية (البوسفور والدردنيل) ما داموا قد وصلوا إلى بقاع جبلية حصينة يمكنهم أن يثبتوا فيها أمام خصومهم إذا ما داهمهم (العثمانيون أو الفرس).


كان يمكن للروس أن يتوقفوا عند ذرا جبال القوقاز فهي أقوى الموانع الطبيعية بالنسبة لهم، ويمكنهم أن يقيموا عليها القلاع التي تقيهم شر الجوار، وربّما كان هذا تفكير بعض قياصرتهم وقادتهم فقد وصلوا إليها واحتلوا البقاع المفتوحة قبلها والتي لم تكن صالحة لإقامة حدود دفاعية فيها تذود عن الروس خطر الخصوم صحراء القفجاق، وسهول القوموق، وسهول بلاد الأنغوش، وبلاد الأديغة، إذ هي على اتصال مباشر بسهول بلاد التتار (حوض نهر الفولغا)، والسهول الروسية، وسهول أوكرانيا، وسهول القوزاق.
غير أن الذي جعلهم يتقدمون خطوة أخرى أو يغيرون مخططاتهم، في خط الدفاع إنّما كان وجود النصارى الكرج والأرمن، فهم من رعاياهم حسب اعتقادهم، وخوفاً أن ينتقم منهم الذين يحكمونهم سواءً أكانوا عثمانيين أم فرساً فيما إذا اضطهد الروس المسلمين الذين يعيشون تحت سيطرتهم وهذا ما هو مقرر مسبقاً، إذ أنّ الحقد يغلي في نفوسهم بشكل عنيف. وإضافة إلى ذلك فإنّ الروس قد رغبوا في أن يكون الكرج والأرمن ضمن حدود دولتهم لأنّهم مقاتلون أشد لطبيعة بلادهم الجبلية فهم يشبهون السكان الذين يجاورونهم، فهم من ناحية يسكنون مناطق الحدود التي يمكن أن تتعرض لغارات أو غزو سكان المناطق الجبلية الذين يعيشون بالقرب منهم، ومن ناحية أخرى يخشى مسلمو شمال القفقاس على هذه الحالة من القيام بحركات لأنّهم بين ناري نصرانيين: نار الروس من الشمال ونار الأرمن والكرج من الجنوب.
وكذلك لو كان مسلمو شمال القفقاس هم سكان الحدود لأمكنهم أن يكونوا على صلة قوية ومتينة بالمسلمين في البلدان المجاورة (الدولة العثمانية والدولة الفارسية).

وكل شعب من شعوب منطقة القفقاس ينضوي تحته عدد من الشعوب أو القبائل، فالشعب الداغستاني يضم الأور وهم أكبر شعبوب داغستان، وحيث يبلغ عددهم سبعمائة ألف، والقوموق، والنوغاي، والدرقين، واللزكي.
والشعب الشيشاني ويضم القبائل الشيشانية، وبلاد الأنغوش وتضم القبائل الأنغوشية، وبلاد الشركس ويسمون (الأديغة) وهم مجموعة من القبائل أو الشعوب منها : القبرطاي، والأبخاز، والأبزاخ.


وبعد الحرب العالمية الثانية هَجَّرَ استالين شعب الشيشان والأنغوش إلى سيبيريا بتهمة مساعدة الألمان ومات في الطريق مئات الآلاف، حيث كان التهجير في وقت الشتاء، وبعد سنوات أذن لهم بالعودة إلى ديارهم.

وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، أعلنت دولة الشيشان استقلالها، وقد قوبل هذا الاستقلال بالرفض من الحكومة الروسية، وبعد ثلاث سنوات دخلت الجيوش الروسية الشيشان ودارت معارك طاحنة، وسجل الشعب الشيشاني بطولات رائعة، وخرج الجيش الروسي بعد سنتين يجر أذيال الهزيمة.
وهي الهزيمة التي قضت على هيبة روسيا العسكرية.


وقد أكدت هذه الحرب أنّ المسلمين إذا اتخذوا أسباب القوة بقد طاقتهم، وجاهدوا وصبروا، أنّ الجيوش الكافرة المزودة بأقوى الأسلحة والعتاد لن تستطيع الصمود أمامهم بإذن الله.
وروسيا تعاني اليوم من مشاكل سياسية واقتصادية فقد كان الدولار يعادل سبعة روبلات، وأمّا اليوم فيعادل أربعة وعشرين ألف روبل، وقد أثر هذا على قوة روسيا العسكرية.

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله تعالى هي مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام في إصلاح النّاس، وردهم إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فهي المعلم البارز الذي يسترشد به الضالون ويتذكر به الغافلون، وقد انتدب الله تعالى الأمة المسلمة لهذه الوظيفة التي بها تنال خيريتها على الأمم فقال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [سورة آل عمران: 110] وأمر أن يبلغ دينه للنّاس، ولا يكتم منه شيئاً، وأن يصدع بكلمة الحق، وأن يسلك سبيل الحكمة في ذلك، وأن تبين الإسلام رسالة الإسلام صافية نقية من كدر التحريف والظلام الكتمان فقال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف: 108]، وقال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل :125]، وقال تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [ سورة الحجر 89-94]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت: 33]، وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [سورة البقرة: 159-160].


وأوّل ما يجب أن يدعى إليه النّاس هو توحيد الله تعالى، بأن يفرد بالعبادة كالدعاء والذبح والنذر وغيرها من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، وبيان أولوية دعوة النّاس إلى التوحيد في الأمور التالية:

الأول: أن الله أنزل القرآن الكريم ليعبد وحده لا شريك له قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ(2)} [سورة هود: 1-2].


فآيات القرآن محكمة في لفظها مفصلة في معناها من عند الله تعالى الحكيم في أقواله وأفعاله الخبير الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ، أي نزل القرآن ليعبد الله وحده لا شريك له.
وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} [سورة النحل:2]، والروح هو الوحي تنزل به الملائكة من عند الله تعالى على الأنبياء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [سورة الشورى: 52]، وقوله تعالى: {أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} أي لينذروا بالتوحيد، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء:25].


الثاني: أنّ التوحيد هو أول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء:25].
وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف : 59]، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ..} [الأعراف : 65]، فأجابوه: {..أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا..} [الأعراف:70].
وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [الزخرف:43-45]، وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 64-66].


وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له «إنّك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أو ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاّ الله» وفي رواية: «إلى أن يوحدوا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ...
»
.


الثالث: أنّ عبادة الله وحده لا شريك له هي الغاية التي لأجلها خلق الله الجن والإنس قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات:56-58]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب .
وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم فهو خالقهم ورازقهم".


فالتوحيد هو حق الخالق تبارك وتعالى على عباده المخلوقين كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلاّ مؤخرة الرحل، فقال: يا معاذ بن جبل قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك.
ثمّ سار ساعة.
ثمّ قال: يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله و سعديك.
ثم سار ساعة.
ثمّ قال يا معاذ بن جبل قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركو به شيئاً.
ثمّ سار ساعة ثمّ قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: ألاّ يعذبهم»
.

الرابع: أنّ عبادة الله وحده لا شريك له وإخلاص الدين له هو معنى لا إله إلاّ الله فإنّ هذه الشهادة تتضمن نفياً وإثباتاً (فلا إله) نفي الألوهية عن غير الله وهذا هو الكفر بالطاغوت و(إلاّ الله) إثبات الألوهية لله وهو الإيمان بالله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة : 256]، والعروة الوثقى هي "لا إله إلاّ الله".
والطاغوت هو كل ما تجاوز حده من معبود أو متبوع أو مطاع، والكفر به يقتضي ترك عبادته والبراءة منه ومعاداته وتحذير النّاس منه، فالكفر بالطاغوت - وهو أحد ركني الشهادة - يوجب تحذير النّاس من الشرك، وإعلان البراءة من الشرك وأهله، ودليل هذا قول الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ..} [الممتحنة:4].


فقدم البراءة من المشركين قبل شركهم تنبيهاً إلى وجوب البراءة من المشركين وشركهم، فإن من النّاس يتبرأ من الشرك ولا يتبرأ من المشركين بل يواليهم، وأعظم من هذا من لم يتبرأ من المشركين وشركهم بحجة جمع الكلمة وتوحيد الصف.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ{26} إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28)} [الزخرف: 26-28]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلاّ الله أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه السلام {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عز وجل {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} : "يعني لا إله إلاّ الله لا يزال في ذريته من يقولها".

الخامس: أنّ الشرك سبب لحبوط الأعمال، فلا تنفع معه كثرة العبادات ولا المسابقة في المندوبات قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فالآية تعم حبوط الأعمال جميعها مع الشرك وهذا مّما أوحاه الله تعالى إلى سائر أنبياءه.


السادس: أنّ الشرك يخلد صاحبه في النّار إن لم يتب قال تعالى: {..إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].


السابع: قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55 ]، وعد الله المؤمنين إذا حققوا الإيمان وقاموا بالأعمال الصالحات وأخلصوا دينهم لله فلم يشركوا به شيئاً، في أي نوع من أنواع العبادة من دعاء وتوكل أو تحكيم أو غير ذلك من صنوف العبادة، وعدهم أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم خلفاء يحكمون البلاد ويقودون العباد ويمكن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وهو الإسلام، فيقيمون شعائره وأحكامه في أنفسهم وفي غيرهم ويبدلهم من بعد الاستضعاف والخوف والقلة أمناً وقوة.
ووعده تبارك وتعالى بالاستخلاف والتمكين والأمن وقد تحقق لهذه الأمة في صدرها تحققاً تاماً لأنّها وفت بشرط الاستخلاف والتمكين والأمن وهو الإيمان والعمل الصالح، ووعدُ الله باقي إلى يوم القيامة فمتى حققت الأمة هذا الشرط، وهو الإيمان والعمل الصالح وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، حقق الله تعالى لها ما وعدها من الاستخلاف والتمكين والأمن، ومتى ما تخلت الأمة الإسلامية عن بعض شرعاها، وضعفت عن حمل رسالتها، وحادت عن منهجها، فقد حكمت على نفسها بالضعف والخوف وتكالب الأعداء وتداعي الأمم، التي تنهبُ خيراتها وتحتل أراضيها.

ومنطقة القفقاز التي أمضت تحت الحكم الشيوعي قرابة السبعين سنة ..
سعى الروس فيها إلى إبعاد المسلمين عن عقيدتهم، وإخراجهم من دينهم فنشروا الإلحاد والكفر، وأصبح تعلم الإسلام جريمة يعاقب عليه، كما قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة :217].


كما كان للطرق الصوفية الأثر السيئ في نشر بعض البدع الشركية كالاستغاثة بالأولياء، وفي صد بعض النّاس عن دعوة التوحيد ودعاته، ورغم ظلمات الإلحاد والجهل التي خيمت على المنطقة، ورغم الحصار الروسي المضروب حول المنطقة أمام الدعاة والأعمال الخيرية والدعوية، إلاّ أن دعوة التوحيد بدأت تشرق بنورها في المنطقة وبدأ الشباب يعودون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ينهلون من معينهما الصافي.

والإصلاح الكبير في المنطقة، يحتاج إلى التفاتة جادة من الأمة لهذه المنطقة تتضافر في الجهود وتوضع فيها الخطط الدعوية المناسبة الحكيمة.

الإعداد والجهاد في سبيل الله

إنّ من سنن الله تعالى التدافع بين الحق والباطل قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة : 251]، بما شرع لهم من أساليب الدفع، ومنها فريضة الجهاد في سبيل الله، فإنّ قوام الدين بالكتاب الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، وبالجهاد الذي ينصر الكتاب ويحمي الشريعة، وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
قال السعدي رحمه الله: "يقول تعالىcolor=FF0000]{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}[/color] وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيقته {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب، التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم، وإلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
{وَالْمِيزَانَ} وهو العدل في الأقوال والأفعال.
وذلك {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} قياماً بدين الله، وتحصيلاً لمصالحه التي لا يمكن حصرها وعدها.
هذا دليل على أنّ الرسل متفقون في قاعدة الشرع، وهو القيام بالقسط، وإن اختلفت صور العدل، بحسب الأزمنة والأحوال.
{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} من آلات الحرب كالسلاح والدروع وغير ذلك.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف، حتى أنّه قل أن يوجد شيء إلاّ وهو يحتاج إلى الحديد {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من ينصره، وينصر رسله في حال الغيب.
{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي لا يعجزه شيء، ولا يفوته هارب.
ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد، الذي منه الآلات القوية، ومن قوته وعزته أنّه قادر على الانتصار من أعدائه، ولكنّه يبتلي أولياءه بأعدائه، ليعلم من ينصره بالغيب.
وقرن تعالى بهذا الموضع بين الكتاب والحديد، لأنّ بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي كلته: بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان، والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامه بالعد والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله".


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين - هما سبيل المغضوب عليهم والضالين.
الأولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليه اليهود. وإنّما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيله.
فإنّ قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر، كما ذكره الله تعالى.
فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى، ولطلب ما عنده، مستعيناً بالله في ذلك".

وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، يأمر الله تعالى بإعداد العدة وبذل الوسع في ذلك باتخاذ القوة وتحصيل أسبابها من رباط الخيل وهذا مما يحصل به إرهاب الأعداء في ذلك الزمان والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيجب على الأمة أن تتخذ من العدة والسلاح في هذا الزمان ما يحصل به إرهاب الأعداء.
ولمّا كان الإعداد من صناعة للسلاح وتجهيز للغزاة، وتحصيل لوسائل القوة والإعداد يتطلب جهاداً بالمال قال الله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} .

قال الشيخ السعدي رحمه الله: " {وَأَعِدُّواْ} لأعدائكم الكفار، الساعين في هلاككم، وإبطال دينكم، {مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} أي: كل ما تقدرون عليه، من العقلية والبدنية، وأنواع الأسلحة ونحو ذلك، مّما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق والطائرات الجوية، والمراكب البرية، والقلاع، والخنادق، وآلات الدفاع، والرأي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتعَلُّم الرمي والشجاعة والتدبير.


ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ القوة الرمي» ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته.
فإذا كان شيء موجوداً أكثر إرهاباً منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية بها أشد، كانت مأموراً بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنّها إذا لم توجد إلاّ بتعليم الصناعة، وجب ذلك لأنّ (ما لا يتم الواجب إلاّ به، فهو واجب)".


وعن عقبة بن عامررضي الله عنه قال سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «ألا إنّ القوة الرمي ..
ألا إنّ القوة الرمي ..
ألا إنّ القوة الرمي»
، وقال صلى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأس همه» .
وعن فقيم اللخمي قال لقبة بن عامر: "تختلف بين هذين الغَرَضين وأنت كبير يشق عليك".
قال عقبة: "لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه".
قال الحارث: أحد الرواة . فقلت لابن شماسة: راويه عن فقيم، وما ذاك.
قال: إنّه قال: «من علم الرمي ثم تركه، فليس منا، أو قد عصى».
وقال صلى الله عليه وسلم: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً» .


ومن الإعداد: تحريض المسلمين على الجهاد في سبيل الله كما قال تعالى:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء : 84]، وتربية الأجيال المسلمة على العزة والشجاعة والقوة ، من خلال وسائل الدعوة ودور التربية والتعليم، وأن يُذكّر المسلمون بفضائل الجهاد ويُرغّبوا فيه فإنّ الله تعالى نفى تسوية القاعدين بالمجاهدين فقال تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96)} [النساء: 95-96].
وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(22)} [التوبة : 19-22].


وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله rصلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل.
قال: «إيمان بالله ورسوله» .
قيل ثم ماذا.
قال: «الجهاد في سبيل الله» .
قيل ثم ماذا.
قال: «حج مبرور» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي النّاس أفضل.
قال: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ».
قال: ثم مَنْ.
قال: «رجل معتزل في شِعب من الشعاب يعبد ربّه، ويدع النّاس من شره».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً قال: يا رسول الله دلَّني على عمل يعدل الجهاد.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا أجده.
ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر»
.
قال الرجل: ومن يستطيع ذلك ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ في الجنّة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «مقام الرجل في الصف أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة». وقال صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل». قال النحاس: "وفي هذا الحديث دليل واضح على أنّ إقامة المرابط يوماً واحداً بأرض الرباط على الثغور، أفضل من الإقامة ألف يوم فيما سواه من المنازل، ولو كانت مكة أو المدينة أو بيت المقدس".


ومن الإعداد أن يحوّل الكلام النظري إلى واقع عملي، تزكى فيه النفوس، وتنمى فيه القدرات والمهارات القتالية من خلال التدريب والتمرين، فإنّ الخوف من حمل السلاح، وعد الصبر على مشقة القتال إنّما يزول بالممارسة والمعالجة الطويلة حتى يصبح حمل السلاح والصبر على الجهاد أمراً مألوفاً.
وما الشعوب المترفة التي ألفت حياة الدعة والتنعم وسكنت إلى الراحة، ولم تترب على الصبر والقوة ولم تعتد خشونة العيش، فإنّها تكون صيداً سهلاً وغنيمة باردةً لأعدائها فلا تتحمل الصعاب ولا تقوى على مقاومة الأعداء قال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ..} [التوبة :42].
وقال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة :81].


ورغم أنّ فريضة الإعداد واجبة على المسلمين بما يحصل به من إرهاب الأعداء ودفع كيدهم وعدوانهم على بلاد الإسلام، وحماية الثغور، وإقامة الدين والجهاد في سبيل الله فقد تخاذل كثير من الأمة عن هذه الفريضة تخاذلاً مذلاً، وتركوا قضايا الأمة إلى الكفار، يفصلون فيها ويقتسمون أرضي الأمة وخيراتها ، كما هو مشاهد اليوم في فلسطين وكوسوفو ومنطقة القفقاز وغيرها، وكل هذا الكيد والعدوان على الأمة الإسلامية يتم باسم السلام والأمن، وأي جهاد للدفاع عن الإسلام والمسلمين فهو إرهاب ممنوع، وقد انخدع بتلبيسهم الماكر وقلبه للحقائق وتسميتهم الأسماء بغير اسمها بعض المسلمين، فقابلوا احتلال الكفار لبلاد المسلمين، ومحاربتهم عقيدتهم واغتصابهم ثوراتهم، بالدعوة إلى السماحة وأنّ دين الإسلام هو دين السماحة وهي كلمة حق أريد بها باطل، حين يقابل بها الأعداء المغتصبون الذين يجب جهادهم، وإظهار القوة وإعداد العدة لاستئصال شرهم وبغيهم قال تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} [التوبة :13-15].


أو بدعوا الاعتراف من هيئة الأمم وأخذ الإذن منها، والرجوع و التحاكم إليها في مشروعية الجهاد بالنفس والمال، وهذا من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى بالكفر به فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 60]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم داء هذه الأمة وضعفها ودواءه وقوتها بياناً شافياً، في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».
وقال صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل يا رسول الله أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب أعدائكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت» ، وفي رواية «قالوا : وما الوهن يا رسول الله قال: حبكم للدنيا وكراهيتكم للقتال» .


فتسليط الذل على هذه الأمة، عقوبة لها لارتكابها المحرمات كالربا وركونها إلى الدنيا وانشغالها بها وتركها الجهاد في سبيل الله، ولا ينزع هذا الذل والضعف وتكالب الأعداء عليها إلاّ برجوعها إلى الجهاد في سبيل الله وزهدها بالدنيا.
قال ابن النحاس رحمه الله: "إذا ترك النّاس الجهاد، وأقبلوا على الزرع ونحوه، تسلط العدو عليهم، لعدم تأهبهم له، وعدم استعدادهم لمواجهته، ولرضاهم بما هم فيه من الأسباب الدنيوية، ولذلك يوقع الله بهم الذل والهوان عقوبة لهم، لا يتخلصون منه حتى يرجعوا إلى أداء ما أوجبه الله عليهم، من جهاد الكفار، وإقامة الدين، ونصرة الإسلام وأهله".

فالحياة الكاملة الكريمة في الدنيا، وحياة النعيم الخالد في الآخرة، إنّما تنال بطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ..} [الأنفال :24]. قال عروة بن الزبير في الآية: " أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم".


وقد اتفق العلماء على أنّ الكفار إذا دخلوا بلاد الإسلام فإنّ الجهاد في هذه الحالة يصبح فرض عين لا يجوز التخلف عنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمّا قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان". وقال: "وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنّه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنّه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ونصوص أحمد صريحة بهذا".


وقال القرطبي: "إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعُقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كلٌ على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له، ولا يختلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مكثر.
فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أنّ فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم.
وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنّه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم بدٌ على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ...
ولا خلاف في هذا ..
".


قال ابن عبد البر: "فرض عام متعين على كل أحد مّمن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً وشباباً وشيوخاً ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، وأن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أنّ فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنّه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج".


ومن الأدلة على هذا الحكم المجمع عليه قول الله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة:36].


وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب فقال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13)} [الأحزاب:12-13].


وكما أنّ الله تعالى أوجب الجهاد بالنفس فقد أوجب الجهاد بالمال وحث عليه ورغب فيه فإنّ الجهاد يقوم على أمرين:

الأول: الجهاد بالنفس وهو أن يبذل العبد نفسه ابتغاء مرضات الله، ونصرة لدينه، ودفاعاً عن حرماته.



الثاني: الجهاد بالمال وهو الذي يحصل به إنشاء المصانع الحربية، وشراء السلاح، والعتاد، والطعام، ووسائل النقل والاتصال، والمواد الطبية وغير ذلك. ولهذا ذكر الله تعالى الجهاد بالمال في آخر آية الإعداد فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} إلى قوله {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} .


وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يغز أو يجهز غازياً، أو يخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة» .
وعن زيد بن خالدرضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا».
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق في سبيل الله فوافق ذلك مالاً عندي.
فقلت في نفسي: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً فجئت بنصف مالي.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك ؟» قلت: مثله .
قال: وأتى أبو بكر الصديق بكل ما عنده.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله . فقلت: لا أسابقك في شئ أبداً.



قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمّا النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها: مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وع ، ويخون إذا أؤتمن، ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد فإنّه من خصال المنافقين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق» .
وقد أنزل الله سورة براءة التي تسمى الفاضحة لأنّها فضحت المنافقين.
أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنّ لا يبقى أحد إلاّ ذكر فيها".
وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: "هي سورة البحوث لأنّها بحثت عن سرائر المنافقين".
وعن قتادة قال: "هي المثيرة لأنّها أثارت مخازي المنافقين".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "هي المبعثرة والبعثرة والإثارة متقاربان".
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام وظهر فكشف الله فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن، وترك الجهاد.
ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله، والشح على المال.
وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل، قال صلى الله عليه وسلم: «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع» ، ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنّار كما دل عليه قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..} [آل عمران: 180]. وقال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16].


وأمّا وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57)} [سورة التوبة:56-57]، فأخبر سبحانه أنّهم وإن حلفوا أنّهم من المؤمنين فما هم منهم، ولكن يفزعون من العدو {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي جمع مغارة.
ومغارات سميت بذلك لأنّ الداخل يغور فيها، أي يستتر، كما يغور الماء.
{أَوْ مُدَّخَلاً} وهو الذي يتكلف الدخول إليه، إمّا لضيق بابه، أو لغير ذلك.
أي مكاناً يدخلون إليه.
ولو كان الدخول بكلفة ومشقة {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء، كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام.

وقال في وصفهم بالشح: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ }[التوبة :54 ].
فهذا حال من أنفق كارهاً فكيف بمن ترك النفقة رأساً.
وقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة :34] فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله.
والجهاد أحق الأعمال باسم الله، سواءاً كان ملكاً أو مقدماً أو غنياً أو غير ذلك".



وقال شيخ الإسلام: "ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله وهو نص أحمد في رواية أبي الحكم وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله: {انفروا خفافاً وثقالاً} فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله وعلى هذا فيجب على النّساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها كما تجب النفقات والزكاة وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية فأمّا إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً.
ولذلك قلت لو ضاق المال عن إطعام جياع والجهاد الذي يتضرر بتركه قدمنا الجهاد وإن مات الجياع كما في مسألة التترس وأولى فإنّ هناك نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله".


والأمة اليوم بحاجة إلى التخطيط المحكم، والعمل الجاد إلى بلوغ الأهداف المنشودة وهي نصرة الإسلام والدفاع عن بلاد الإسلام، ولو كانت هذه الأهداف لا تتحقق إلاّ بعد سنوات من العمل والجهاد.
وما نراه اليوم يحدث في كوسوفو من تشريد وتهجير وسفك للدماء وهتك للأعراض، وهم عُزّل عن السلاح ووسائل القوة، وما نراه من الأمة الإسلامية من ضعف وتأخر في نصرة المسلمين المستضعفين بعد أن سفكت الدماء وانتهكت الحرمات واغتصبت المسلمات، كل هذا يدل على غياب التخطيط المسبق لقضايا الأمة، وترك الإعداد لمواجهة الأعداء، وضعف التعاون والتناصر بين المسلمين.


أحلّ الكفر بالإسلام ضيمـــاً يطول عليه للدين النحيـــبُ

فحقٌ ضائعٌ وحمىً مبــــاحٌ وسيف قاطعٌ ودمٌ صبيـــبُ

وكم من مسلمٍ أمسى سليبـــاً ومسلمة لها حرمٌ سليــــبُ

وكم من مسجدٍ جعلوه ديــرا على محرابه نصب الصليـــبُ

أمورٌ لو تأملهن طفــــــلٌ لطَّفل في عوارِضِهِ المشيـــبُ

أتسبى المسلمات بكل ثغــــرٍ وعيش المسلمين إذاً يطيـــبُ؟

أما لله والإسلام جنـــــدٌ تدافع عنه شبانٌ وشيــــبُ

فقل لذوي البصائرِ حيث كانـوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيـــيبوا

وفي وقت أصبحت التحالفات العسكرية بين النصارى مع اختلاف شعوبهم وبين اليهود والنصارى، هي الطريقة الأقوى لتحقيق الأطماع وتنفيذ الكيد والمكر في محاربة الإسلام قال تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال :73].

وقد استطاعوا صناعة الأسلحة المدمرة إرهاباً وتخويفاً لخصومهم، وحرموها على المسلمين، ودعموا إسرائيل بالأموال وفتحوا السبل أمّا المنظمات اليهودية وغيرها أن تجمع التبرعات مساندة للحكومة الصهيونية، وحجروا على الهيئات الخيرية الإسلامية وتجار المسلمين أن يجاهدوا بالمال في سبيل الله وأرهبوهم بدعوى الإرهاب، ويساند هذا الكيد والمكر أنظمة ووسائل إعلام مضللة جعلت الحق باطلاً والباطل حقاً.
وأمام هذه الضغوط السياسية والإعلامية، ضعفت بعض النفوس وأمسكت بعض الأيادي عن الإنفاق، فتحقق بعض ما أراده اليهود والنصارى في حربهم لفريضة الجهاد التي تقف سداً منيعاً يحول دون تحقيق أطماعهم في أراضي وثروات المسلمين.
وقد نهى الله تعالى عباده عن طاعة من تجب طاعته كالوالدين إذا أمرا بمعصية ..
فكيف بطاعة الكفار من اليهود والنصارى في معصية الله قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة :49].
وقال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً{(75)} [الإسراء: 73-75].
وقال: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2)} [الأحزاب: 1-2].
إنّ العودة الصادقة إلى دين الله تعالى، وإلى الإعداد والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال هي بداية التحول التاريخي للأمة بإذن الله، وهي القوة الرادعة التي يحمى بها الدين والدماء والأعراض والأموال كي لا يتكرر ما جرى في كوسوفو أو في منطقة القفقاز أو غيرها من البلاد الإسلامية، وهي الطريق إلى النصر والتمكين وإقامة شريعة الله تعالى في الأرض.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(13)} [الصف :10-13].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير