أرشيف المقالات

معرض الفن البريطاني الحديث

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ نصري عطا الله سوس الفن لا زمان له ولا مكان، بل هو تراث الإنسانية الخالد على مر الأمان.
وحين تتيح لنا أمة من الأمم فرصة مشاهدة آثارها الفنية تمهد لنا السبيل إلى مشاركة فنانيها ورجال الفكر فيها، أسمى أحلامهم وأمانيهم وأنبل عواطفهم واحساساتهم. ففي الفن وحده يتسامى الإنسان عن المطامع والدنايا والمشاغل الدنيوية ويفسح الطريق لعواطفه ومشاعره التي تؤكد المعنى الإنساني فيه، المعنى الإنساني الذي لا يعرف الحدود الجغرافية أو المطامع السياسية وما تثيره من أحقاد وضغائن وفرقة، والفن وحده هو النبراس الهادئ الذي يذكرنا دائماً أن البشر عائلة واحدة مهما احتدم بينهم الخلاف والبغضاء.
وتبادل التراث الثقافي هو خير ما يعزز هذا الإحساس في الإنسان.
ومعرض الفن البريطاني المعاصر الذي أقيم في القاهرة خلال هذا الشهر مجهود طيب من مجهودات (المجلس البريطاني) في سبيل تعزيز الألفة الثقافية والفكرية بين مصر وإنجلترا. وقد قسم المعرض إلى أقسام ثلاثة: قسم الصور الزيتية والمائية، وقسم الحفر والنقش، وقسم الأطفال.
ويحتوي القسم الأول على ما يقرب من مائة لوحة لأقطاب الفن الحديث في إنجلترا، وهي تعطينا فكرة صادقة عن هذا الفن خلال الأربعين سنة الأخيرة.
ولاشك عندنا في أن المجهود الذي بذل في انتقاء هذه المجموعة من بين آلاف اللوحات كان مجهوداً كبيراً صاحبه التوفيق إلى أبعد الحدود في اختيار خير العناصر التي تمثل مختلف المدارس الفنية المعاصرة في بلاد الإنجليز والفن الإنجليزي المعاصر لا يتميز بطابع إقليمي قومي، ذلك لأن غالبية أقطابه تلقوا دراساتهم في البلدان الأوربية الأخرى وبخاصة باريس؛ كما أن سهولة المواصلات وسرعة تبادل الإنتاج الفكري ساعد الفنانين الإنجليز على سرعة استيعاب المذاهب الفنية الأوربية والتأثر بها. ولطالما نعى النقاد - حتى الإنجليز منهم - على الفن كالبريطاني خلوه من الروح الفنية الصحيحة وضعف (معنوية الشكل) فيه، ولكن المجموعة المعروضة الآن تثبت أن الفنانين البريطانيين قد تحرروا إلى حد بعيد من ذلك الجمود الذي يرين على مجهود الكثيرين منهم. وفي هذا المعرض مجال طيب لدراسة الفن البريطاني المعاصر، كما أنه مجال خصب للتأملات الحرة التي تتصل بجوهر الفن عامة دون تقييد بعصر من العصور أو أمة من الأمم. وجولة سريعة في هذا المعرض تقنع المشاهد أن الفنان الإنجليزي يبلغ أوجه عندما يرسم مناظر الطبيعة الريفية في بلاده، فالصورة رقم 7 (سنودنيا - لرايموند كوكن) تتميز بقوة التصميم والتعبير وحرارة اللون ودقته وحيوية العاطفة.
والصورة رقم 83 (منظر طبيعي في وادي ستور - لرولاند سدبي) تمتاز بالتعبير الشعري وحسن اختيار اللون والشكل.
والصورة رقم 27 (كنيسة - بريشة د.
أبز)
والصورة رقم 57 (تلال - لفيفيان بشفورت) تمتاز بالألوان الحية المعبرة. والصورة رقم 73 (براري في دورست - لستانلي سبنسر) ليست إلا صلاة للطبيعة بالشكل والألوان وهي تتسم بنضوج العاطفة وحرارتها وقوة الأداء، وتستطيع أن تشعر صادقاً وأنت تتأمل هذه الصورة بذلك الشعور الصوفي الذي يستولي على الفنان عندما ينساق إلى الرسم انسياقاً استجابة لقوة أكبر منه.
وللرسام ولسن ستير (1860 - 1942) أربع لوحات وستير من أقطاب المدرسة التأثرية، واحد مؤسسي نادي الفن الإنجليزي الحديث الذي كان له أكبر الأثر في اتجاه الفن المعاصر بإنجلترا.
تعلم في باريس، ورسومه الأولى متأثرة كل التأثير بمانيه، وديجا، ومونيه، ورينوار، ولكنه استطاع فيما بعد أن يتخلص إلى أحد ما من طابع التأثريين ويسير في طريق كبار الرسامين الإنجليز مثل ترنو وكونستايل وجيتر بورو.
وصورة الأخيرة تجمع بين الطابعين الإنجليزي والفرنسي.
وهو يجيد كل الإجادة عندما يرسم الأراضي المغطاة بالغابات والمساحات الشاسعة التي تغمرها الظلال والأضواء.
وهو خير من بين لنا أي تأثير كبير يستطيع أن يحدثه الفنان الكبير في نفوسنا مع بساطة الأداء وسذاجته. وأنا حين أضفي هذه الصفات السخية على هذه الأعمال الفنية التي ذكرتها لا أعني أن كل هذه الأعمال توضع جنباً إلى جنب مع روائع التراث الفني العالمي، ونحن لا نستطيع أبدا وليس من حقنا أن نطالب الفنان بما ليس في طوقه، إنما نستطيع أن نلزمه بالصدق والإخلاص لعاطفته والمحافظة على كيان شخصيته وطابعها، وهو إذا التزم هذه الحدود يستطيع أن ينتج شيئاً ونستطيع نحن أن نجد فيه مجالاً للمتعة الذوقية برغم ما يعتوره من ضعف، وكل ما يجب أن يتخلص منه الفنان والناقد والجمهور هو: الانخداع.
فعلي الفنان أن يعرف حدود طاقته ولا يتعداها، وعلينا أن نقدره التقدير الصحيح ونضعه في موضعه اللائق - وقد قال (جيته) مرة: ما أسعد الرجل الذي يكتشف سريعاً الهوة بين رغباته وبين مقدرته - وطابع الإخلاص ظاهر جداً في الصور التي تحدثت عنها وهو يكسبها حلاوة وجمالاً برغم بساطتها ويسرها.
ونطالع طابع البساطة أيضاً في بعض مناظر الطبيعة الصامتة: فالصورة رقم 38 (منضدة جانب الفراش لادوارد لبا) تعبر عن عاطفة لا تتكلم بل تغني وتغني بحرارة تتمثل في فرحة الألوان الزاهية.
والصورة رقم 9 (زاوية غرفة المكتب لدى بليسس) تقول كل ما تقوله بالألوان فقط وهي تقول شيئاً ما برغم بساطة التصميم وفجاجته. ويعتبر دنكن جرانت من أقطاب الفن البريطاني الذين يمتازون بالحساسية الشعرية وقوة اللون وحسن اختيار الشكل وبراعة الأداء، وكل هذا يبدو جلياً في لوحتيه رقم 18 (أقحوان) ورقم 19 (صورة شخصية)؛ وكأن صفاء نفس صاحبة هذه الصورة الأخيرة سرى إلى نفس الفنان فاختار اللون واللباس والجلسة التي تساعد على إبراز المعاني النفسية الوادعة البادية على وجه السيدة صاحبة الرسم. وفي المعرض مجموعة لا بأس بها من صور الأشخاص، من أهمها الصورة رقم 31 لجوين جون، وهي صورة جانبية لفتاة صغيرة وهي من فرائد هذا المعرض في قوة الشكل وحيوية التعبير وهناك صورة لأوجستس جون بريشته، وهي تمثل تمثيلاً قوياً الفنان اللاهي دائماً عن عالمنا، الشارد الذهن دائماً وراء عرائس الإلهام.
وجون فنان بوهيمي غذى الفن الإنجليزي بدماء جديدة بدت غريبة أول الأمر وحدت من شهرته ولكنه تطور مع الزمن.
ويمتاز فنه إبان نضوجه بالميل إلى تبسيط ووضوح الألوان وصفائها.
وصور الأشخاص التي يرسمها تمتاز بقوة التعبير وصدق الدلالة على نفسية الشخص المرسوم ومن الأعلام الممثلين في هذا المعرض السير وليم أوربن الذي لفت الأنظار إليه منذ صدر شبابه لبراعته وقدرته وتمكنه من مختلف نواحي الفن، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً وأوبرن يرسم صور الأشخاص وصور الطبيعة الحية والطبيعة الصامتة في يسر وسهولة وتوفيق في التعبير والأداء، ومنهم أيضاً رتشارد سكوت (1860 - 1942) وهو من أصل ألماني، وقد قيل عنه إنه رسام أدبي، أي أنه يعني بما تقصه الصورة أكثر عناية بالشكل.
وقد تتلمذ على ويسلر، ولكن غلب عليه طابع التأثر بين خاصة ديجا - وصوره تغلب عليها الألوان القاتمة والظلال، وكان يفضل الرسم في الأيام الغائمة، وأكثر رسومه لردهات داخلية قليلة الحظ من الضوء. وأود أن أشير هنا إشارة خاصة إلى الصورة رقم 88 (منظر لإثيل ووكر) وهي من أنفس ما في المعرض، والذي يتأمل هذه الصورة تأملاً صادقاً ينسى ما تحكيه - أي البحر والأمواج - ويذكر العاطفة الحية المتوثبة.
الغامضة، الشادية، التي تستولي على نفوسنا أحياناً، فتجعلنا نحس أن الكون لحن كبير قوي، وإننا بعض هذا اللحن نحس موسيقاه في قلوبنا، وتهزنا هذه الموسيقى هزاً منغماً كما يهتز القارب الصغير على صفحة الأمواج اهتزازا قوياً متداركاً قلنا إن الفنان الذي يلتزم حدود ذاته يستطيع أن ينتج شيئاً ما، ونقول أيضاً إن التفرد والشذوذ مع القوة، والإيمان بسداد هذا التفرد والشذوذ مع القوة، والإيمان بسداد هذا التفرد والشذوذ عبقرية وأصالة لاشك فيهما ويتمثل التفرد والشذوذ في أعمال الفنانين المحدثين، ويمثلهم في معارضنا - تمثيلاً روعي فيه الجودة والتعقل - هنري مور وسذرلند، وآخر ينسج على منوال هذا الأخير اسمه ادوارد أرديدون (صاحب الصورتين رقم 1، 2) وأعمالهم لا تخلو من صدق في العاطفة والأداء وهنري مور سام ونحات، وهو كصاحبه سذرلند مجدد يتسم بالجرأة والخروج على الأشكال المألوفة، وبرغم ذلك - أو ذلك - لا يستطيع الناقد إلا أن يسلم بأنه فنان بل فنان كبير أحياناً وسذرلند لا يتقيد بالطبيعة إلا فيما ندر، وإذا تقيد بها اختار ما لم تألفه العين من الأشكال والألوان فيوفق أحياناً ويخونه التوفيق أحياناً، وعلى كل أعتقد أنه خير من استطاع أن ينزع من الطبيعة نفسها مادة للتعبير المجرد المعبر والجزء الأكبر من إنتاج هؤلاء الفنانين المحدثين لم تقرر قيمته الفنية بعد، ومن العسف أن يحكم الناقد ذوقه الفردي في ظاهرة فنية عالمية كالتي نحن بصددها.
وإن كنا نرى أن النظريات الفنية الحديثة في حد ذاتها معقولة ومقنعة، ولكن الإنتاج الفني نفسه تعوزه القوة والعاطفة والخيال والطواعية أي ينقصه كل عناصر الفن! وهذا الفن الحديث فيما أرى لا يمثل التحرر من القديم، بل يمثل عنف الثورة والتمرد على القديم - والثورة والتمرد عنصران سلبيان، والدافع إليه في الغالب اقتناع ذهني لا تسنده عاطفة أو خيال، وكل ما يستطيع أن يقوله الناقد المعتدل إن هذا الفن قد ينضج مع الزمن وقد راعى منظمو هذا المعرض ذلك، فهنالك صورة واحدة تمثل مذهب السريالزم، وأخرى تمثل المذهب التكعيبي، وثالثة تمثل ما يسمى النيوريالزم، ورابعة تمثل الفن التجريدي، والأخيرة (رسم رقم 85 لجون تنارد) قطعة فذة في نوعها تمتاز باللون والتصميم وموسيقية التعبير، وهي تبين زلنا أن الفنان الصادق الإحساس ينجح دائماً مهما اتسم (الزي) الذي يختاره لعاطفته بالغرابة والبعد عن المألوف وما دمنا بصدد الحديث عن النزعات الفنية الحديثة يمكننا أن نقول الفنان الإنجليزي عامة أخذ يحس ويبرز في لوحاته المعاني اللونية الباطنة للأشكال الطبيعية، ولعل هذا أكبر حسنات النظريات الفنية الحديثة. نصري عطا الله سوس

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير