أرشيف المقالات

التفاؤل. . .!

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ عمر الدسوقي واحسر تاه على هؤلاء الذين حرموا سعادة التمتع بالوجود، ورأوا الدنيا دار شقوة وعذاب، وأن العالم يغص بالشر يكمن لهم في كل ثنية، ويطالعهم في وجه كل إنسان، ويرددون مع ابن الرومي قوله: لما تؤذن للدنيا به من صروفها ...
يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنها ...
لأفسح مما كان فيه وأرغد ويتندمون على أنهم تنسموا هواء هذه الحياة فيما فيها إلا إفك وبهتان، وخب وخداع، وأمراض وآلام، لا يحقق فيها رجاء، أو تصفو فيها مسرة، ويقولون مع أبي الطيب أولاً: وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ...
حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل ومع أبى العتاهية ثانياً: ما زالت الدنيا لنا دار أذى ...
ممزوجة الصفو بألوان القذى إن أصابهم خير قالوا: ضحك القدر الساخر، يمد في أسباب النعمة الزائلة، لتكون جراحاته أشد إيلاماً أنكى وقعاً، وأمض للنفوس لا تؤمن غواثله، ولا تكف عواديه.
وإن مسهم شر ظاهر برموا بالحياة وودوا لو عجلتهم المنية؛ وطففت ألسنتهم تقذف بالسباب للدهر، والسخط على القدر والناس طراً، وتنم عن قلوب مشحونة بالغيظ والحسد واليأس، والناس عندهم أحلاس مكر ونفاق، فليس الحديث إلا أحبولة طامع وشرك منافق، والاقتصاد في زخرف القول خشونة معتد واعتداد قوي إذا ما الناس جربهم لبيب ...
فإني أكلتهمُ وذاقاً فلم أر فيهمُ إلا خداعاً ...
ولم أر بينهم إلا نفاقاً هكذا يقول المتنبي في بعض سخطاته على العالم لأنه لم ينله طلبته ويبلغه أمنيته، بل نراه يحرص على الانتقام من البشرية: ومن عرف الأيام معرفتي بها ...
وبالناس روى رمحه غير راحم فليس بمرحوم إذا ظفروا به ...
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم والأرض وما فيها من زهر فواح، وبحر رقراق، ونسيم عليل، وسماء صافية، وشمس ضاحكة، وطبيعة متبرجة، لا تدخل على نفوسهم مسرة، أو تقلل من نكدهم وعبوسهم، بل إنهم ينكرون هذا الجمال، فالسماء شوهاء، والأرض جرداء ومن يك ذا فم مر مريض ...
يجد مُرُّا به الماء الزلالا إذا بدا لهم أن يقدموا على عمل تملكتهم الرهبة، وتوقعوا الخيبة، وأوجسوا خيفة من كل شيء فيقدمون وقلوبهم مزعزعة وعقولهم مضطربة، وقلما يصيب النجح من يمشي وتمثال الإخفاق والشر نصب عينيه وما أدرى إذا يممت أمراً ...
أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ...
أم الشر الذي هو يبتغيني ولذا نراهم يلجئون إلى الخرافات والتطير يتخذون منها نذراً لما عساه يصيبهم من مخبآت القدر الذي ضعف إيمانهم به وثقتهم فيه، وهذا عنوان العقول التعبة والنفوس الخوارة العيابة أحقاً أن الحياة نقمة لا نعمة، وأن نظام العالم مختل، وقانون الطبيعة معتل، وأن ليس في هذا الوجود ما يحببنا في الحياة؟ إن العالم بنظامه الحاضر - بشموسه وأقماره، وأرضه وبحاره، وما فيه من انسجام ونظام، أبدع عالم يمكن أن يوجد ما في ذلك ريب.
وحسبنا أنه هيئ ليعيش فيه الإنسان ويسخر كل ما يحيط به من بحار وشموس وجبال وحيوان، وأنه الحي المفكر يلمسها ويستخدمها ويتغلب بما أودع فيه من ذلك النور الرباني على الطبيعة العاتية، ويجتلى به أسرارها ليبرهن بحق على أنه خليفة الله في الأرض، وأنه أهل لأن يحمل الأمانة التي أشفق غيره من حملها ألا يرى هؤلاء المتشائمون أن صغار الأحياء من حمل في الحقل، وطائر على الفنن، وطفل في الملعب، تنهل كلها وتعل من نبع الوجود الصافي، وتغدو طربة وتروح مرحة، وأنها لا تشعر بأن الحياة شقوة بل تراها نعمة سابغة جديرة بأن يستمتع بها، ويحرص عليها؟ وإذا كان هناك من الكبار من لا يرى وجهها الفتان إلا نكداً مشوهاً، فذلك لأنهم لم يحيوا الحياة الطبيعية، أو أنهم حرموا في طفولتهم الحب والعطف والحنان، فتأصل في نفوسهم سوء الظن بالعالم، أو أنهم أخفقوا في نيل مآربهم فخارت منهم العزائم وألقوا السلاح مفلولاً، وضجروا بمن حولهم وضاقوا بالدنيا ذرعاً، لما في قلوبهم من أثرة مكينة رانت عليها، فأفسدت هناءتها وطوحت بطمأنينتها وجعلها لا ترى العالم إلا ظلاماً دامساً ألا يحمد هؤلاء الله على أنهم لم يخلقوا حجارة على قارعة الطريق تحطم وتقذف وتداس، أو حيواناً أعجم يتألم ولا يستطيع الشكوى، كل أمله في الحياة أن ينال ما يشبع بطنه، محروماً نعمة التفكير.
إننا نبصر ونسمع، ونجرى ونتكلم، ونفكر ونضحك، ونمثل دورنا في مأساة العالم التاريخية، وهذه نعمة خليقة بالشكران إلى الله واهب النعم، ولكن صدق الله حيث يقول: (وقليل من عبادي الشكور)، ورحم الله المتنبي حيث قال في ساعة رضاه: ولذيذ الحياة أنفس في النف ...
س وأشهى من أن يمل وأحل وإذا الشيخ قال أفّ فما مَلًّ (م) ...
حياة إنما الضعف ملاَّ ألا يعلم هؤلاء أن الحياة يجب أن تلبس على علاتها، وأنها كفاح وجهاد، وصراع وجلاد، يفوز فيها من قويت منته وعظمت عدته، ومن لا تطير نفسه شعاعاً ساعة الإخفاق، بل يجمع الهمة، ويشحذ العزيمة ليعاود الكرة، حتى تسير الدنيا إلى غايتها، فتعمر وتؤتى أكلها، وتسير حثيثاً في سبيل الكمال دون الحلاوة في الزمان مرارة ...
لا تحتظى إلا على أهواله وأولى بهم أن يقولوا مع الأخطل: وكان قوى الهموم إذا اعترتني ...
زَمَاعاً لا أريد به بدالا إن المتفائل هو الذي يبسم للحياة في سخطها ورضاها، وهو الذي يرى في الظلمة المطبقة عليه شعاعاً من الأمل ينير جنبات فؤاده، ويغمره بالثقة والإيمان.
وليس من التفاؤل ادعاء أن كل شيء يسير على خير ما نرجوه بينما المصائب متحفزة أو غاشية، فتلك بلاهة لا تفاؤل، ومثل من يفعل ذلك مثل النعامة تخفى رأسها حتى لا ترى الخطر المحدق بها، ولكن المتفائل حين يرى الكارثة مقبلة يقدرها كالمتشائم تماماً ويحذرها حذره، بيد أنه يختلف عنه بشجاعته، وابتسامته، وتفكيره السريع المنتظم لتفاديها أو التغلب عليها، أما المتشائم فيجزع من هولها، وينكص على عقبيه فراراً منها وهيهات يقول روبرت بروننج (إن المتفائل من لا يولى ظهره للحياة بل يسير في شرعتها قدما هو من لا يرتاب في أن السماء ستمطر بعد جدب ومن لا يحكم بانتصار الباطل وإن رأى الحق منهزما ومن يعتقد أننا نكبو لنقال من عثرتنا، وتنام لنستيقظ) إن الإنسان يخلق نفسه بنفسه، فإذا اعتقد أن الحياة شقاء وتعس فهي كذلك؛ والفقير يعزى نفسه بالجنة، والغني ربما اعتقد أن الله ساخط عليه فنغص ذلك عيشه.
ويقول الدكتور جونسون: (إن نظرتك إلى الجانب المشرق من الحياة تساوي ألف جنيه في العام) إننا لا نجيد عمل شيء نرغم عليه، بل نتقن ما تحفزنا إليه الرغبة والشوق والحب، وما دمنا نعتقد أننا دفعنا إلى هذه الحياة دفعاً لا حيلة لنا فيه، وأنها فرضت علينا فرضاً ونحن لها كارهون، وأننا نسير فيها على الرغم منا فلن نكون أبداً سعداء في الحياة، ولن يصيبنا منها إلا الخيبة والإخفاق والشر إذا اعتقد الإنسان أن الحياة مغامرة تتطلب العزم الثابت، والإرادة الصارمة، والرأي الحصيف، والثقة الحافزة - دع جانباً جمال الأرض الطبعي، وما تفيض علينا به الأسرة والأصدقاء من سعادة - نجح الإنسان في فن الحياة وجنى أحلى ثمارها. أما النكس الرعديد الذي يفرق منها، ويعتصم بالاستكانة والخنوع فلن ينال إلا فتاتها. أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ...
حريصاً عليها مستهاماً بها صبّا فحب الجبان النفس أوردة التقى ...
وحب الشجاع النفس أورده الحربا إن واجبنا نحو أنفسنا ونحو غيرنا أن نكون متفائلين.
إنك إذا طردت الوساوس والأوهام، واقتحمت طريقك في الحياة متذرعاً بالحب، والشجاعة والإيمان سائراً وفق قانون الطبيعة السمح، جليت لنفسك السعادة.
وإذا أفضت من بشر نفسك وتفاؤلك على غيرك كنت ملاك الرحمة.
يقول سدني يشعر بعض الناس بالسعادة لأنه ذاقها مرة، فإذا استطعت أن تجعل من حولك سعداء اليوم فسيشعرون بالسعادة عشرين عاماً، إذ تغذيهم بها الذكرى الطيبة).
فعلى المتفائلين ألا يضنوا بالبشر والمرح الذي تفيض به نفوسهم على من يتصل بهم.
ويقول: إن فرح الإنسان لا يكمل إلا إذا شاركه فيه سواه لقد أصبح التفاؤل نظرية فلسفية خلاصتها: (اعتقاد أن الحياة خير، ومن الممكن جعلها أحسن مما كانت، وأن طريق ذلك هو الإيمان والأمل والحب).
أما المتشائم فيعتقد أن العالم يسير نحو الانحلال والشر، وأن الحياة مقبرة الآمال والسعادة؛ والمتشائم الذي ينشر آراءه هذه بين الناس يساعد إبليس في إضلاله. إن هؤلاء الذين يخافون المستقبل، ويتأسفون على الماضي يخلقون جواً فاسداً لغيرهم من الناس، جواً خانقاً لهم قائلاً لصحتهم مطوحاً بطمأنينتهم إلى الهاوية ومن الممكن أن نصير متفائلين بالعادة والمران؛ فالتفاؤل عادة السعادة والشكر.
لماذا نكره الحياة وهي كما يقول ستيفنسن: (الحياة تغص بكثير من الأشياء التي تجعل الناس كلهم سعداء).
لو فكر الإنسان أنه دون غيره في هذا الوجود يجد في القراءة والموسيقى وفي الصور وفي الفنون، وأن حديثه ليس عن الطعام والشراب فحسب، ولكن حول الطبيعة والعلم والدين والفلسفة والتاريخ، وأنه طلعة المعرفة الماضي، والكشف عن المستقبل، وأنه مهتم بالحاضر، وجب عليه أن يقول: مهما كنت فعندي من أسباب السرور والفرح ما يوجب عليَّ الشكران لله.
من أنا حتى أغمر بفضل الوجود؟ وما الذي جعلني أستحق هذه النعمة أن أنظر الشمس في الربيع الطلق أو السماء في الليلة الصافية، أو البحر العريض، أو الجبال تكسوها الغابات الخضر وتحلى قممها الثلوج، أو أتمتع بوجه أمي وطلعة أولادي؟ لا شيء! إن المتشائم لا يعتمد على العقل في حل مشاكله، بل يعتمد على الغرائز البهيمية، لأن العقل مشلول من الجزع والرعب وسوء الظن والنظرة الحالكة إلى العالم.
إن اليأس يملك عليه لبه، والخطيئة يقول: (ولا ترى طارداً للحر كاليأس) إن المتفائل لا يعتقد أن حياته تنتهي بالموت، ولكن هناك حياة أخرى، وما الموت إلا باب الخلود، وإن النفس خلقت لتعرض يوماً على الله، ولهذا لا يجزع المتفائلون من الموت بل هو حادث طبعي، وإذا كان ثمت ألم فلفراق ما ألفناه، ولكنه لا يوجب اليأس، ورحم الله أبا الطيب حيث يقول: إلف هذا الهواء أوقع في النف ...
س أن الحمام مُرُّ المذاق والأسى قبل فرقة الروح عجز ...
والأسى لا يكون بعد الفراق ما أحوجنا في هذه السنين المدلهمة، وقد طغت الخطوب، وفاضت الكوارث على العالم، أن نستعصم بالإيمان والأمل والحب، فنخفف عن أنفسنا ومن حولنا آلام المحنة العالمية، حتى تنجلي الغمة ويشرق وجه الحياة في ظل السلام والدعة! عمر الدسوقي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن