أرشيف المقالات

للذكرى والتاريخ

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 طيبة تستقبل فرعون مصر للكاتب الفرنسي تيوفيل جونييه في كتاب قصة المومياء (إلى جانب المصريين نحن حقاً برابرة) - تيوفيل جوتيه - للأستاذ أحمد أحمد بدوي أف، تلك المدينة الضخمة الواسعة، لم تعد تضم بين أحضانها إلا المرضى والعجزة والمسنين الذين لم يعودوا بعد قادرين على الحركة، والعبيد المكلفين بحراسة المنازل؛ ففي الشوارع والميادين، وطرق أبي الهول، وأقواس المعابد والأرصفة، يجري سيل من الناس متجه إلى النيل؛ ويزخرف هذا الجمع الحاشد اختلاف عجيب، فالمصريون يكونون الأعظم، ويعرفون بسمات وجوههم النقية، وبقامتهم الرشيقة العالية، وبثيابهم من الكتان الدقيق، ومناطقهم المثناة باعتناء، وبعضهم يلف رأسه بنسيج ذي خطوط زرق أو خضر، ووسطهم مشدود بسراويل ضيقة، وظهرهم عار له لون الصلصال المحروق في هذا الجمهور الوطني تظهر نماذج مختلفة لأجناس أجنبية: فزنوج أعالي النيل سود كآلهة من البازلت، أذرعهم مطوقة بحلقات كبيرة من العاج، وتتأرجح في آذانهم حلي بربرية؛ والأثيوبيون ذوو الألوان البرنزية، والسحنات النافرة، قلقون برغمهم في هذه الحضارة كأنهم حيوانات متوحشة في وضح النهار؛ والأسيويون يعرفون بلونهم الأصفر الرائق، وعيونهم الزرق، ولحاهم المجعدة على شكل حلزوني، ويعصبون رءوسهم بقلانس مثبتة بعصائب، ويلبسون أردية مطرزة ذات أهداب؛ أما اليونانيون فيرتدون جلود لحيوانات يعلقونها بعواتقهم، ويتركون أذرعتهم وسيقانهم الموشومة وشماً غربياً، ويحملون ريش طير فوق رءوسهم التي يتدلى منها ضفيرتان، تصيران واحدة تنظم على هيئة قرط على الصدغ في وسط هذا الزحام يمشي الرهبان عليهم الهيبة والوقار رؤوسهم محلوقة، ويلفون أجسامهم بجلد النمر، بحيث يبدو فم الحيوان كأنه مشبك حزام، وفي أقدامهم أحذيتهم، وبأيديهم عص من شجر السنط قد كتب عليها بالهيرغليفية؛ ويسير الجند إلى جنوبهم خناجرهم ذوات المسامير الفضية، وعلى ظهورهم تروسهم، وفي أيديهم فئوسهم؛ والشخصيات المبجلة يحلي صدورها أوسمة التشريف، ويحيها العبيد بالانحناء، ووضع الأيدي إلى أسفل بالقرب من الأرض؛ وتمشي بجانب الحيطان في هيئة متواضعة حزينة نسوة فقيرات، يكدن يكن عاريات، ينحنين تحت ثقل أبنائهن، المتدلين من أعناقهن في خرق بالية أو قفف من الحصير، بينما تختال فتيات جميلات يصحبهن ثلاث توابع أو أربع - في أثوابهن الطويلة الشفافة، التي تنعقد عند أسفل صدورهن بوشاح أطرافه مرسلة، ويضئ فوقهن اللؤلؤ والذهب، ويفوح منهن رائحة الأزهار والعطور وبين الرّجّالة تمضي الهوادج يحملها الأثيوبيون بخطى سريعة منتظمة، والعجلات الخفيفة المسرحية بحصن يزينها جلال ذات أهداب، ويجمل رأسها الريش؛ أما العربات التي تحمل أسراً ويجرها الثيران، فتمشي باتئاد، وتجد طريقها بعسر بين الجمهور الذي لا يأبه بأن يداس؛ وغالباً ما اضطر السائقون إلى أن يضربوا بسياطهم المتمهلين والذين لا يخلون الطريق هذا وفوق النهر حركة غير عادية، فعلى طول المدينة قد غطى النيل برغم سعته، ولم يعد في الوسع رؤية مائه بقوارب من كل صنف، فمن زوارق ذات حيزوم وسكان عاليين، إلى أخرى ذات ألوان وتذهيب، فكلها كان مستخدماً، ولم يستنكف حتى من ركوب المراكب المعدة لنقل البهائم وحمل الفواكه، ولا الأرمات المصنوعة من خشب الخيزران، والتي كانت معدة في العادة لحمل أوعية الصلصال ليس من السهل عبور النهر من جانب إلى جانب، وسط جمهور يربي على ألف ألف نسمة، بل يجب لذلك كل مهارة نوتية طيبة ونشاطهم. ماء النيل تضربه المجاديف وتشقه السكانات، فيرغي ويزبد كأنه بحر، ويكون آلاف الدوامات التي تضعف قوة التيار والزوارق في مجموعها مختلفة ومبهجة، فبعضها ينتهي كل من طرفيه بزهرة كبيرة من أزهار اللوتس تنحني إلى الداخل، وتربط بساقها راية، والبعض حيزومة على شكل هلال ينهض طرفاه فوق الماء، ومنها ما يحمل فوقه نوعاً من الأبراج أو السطوح يقف فوقها رؤساء النوتية، وبعضها مكون من ثلاث جذوع ربطت بالحبال، ويحركها مجذاف؛ أما المراكب المعدة لنقل الحيوانات والعربات فقد ربط بعضها إلى بعض، ووضع عليها معبر يسمح بالصعود والنزول من غير كبير عناء، وقد كان عددها عظيما، وعليها تصهل الأحصنة المطهمة، وتضرب الخشب بحوافرها الرنانة، والثيران قلقة تنحني إلى النهر بمقماتها التي يسيل منها خيوط من اللعاب، ولكنها تهدأ إذا لاطفها قوادها. يضبط النوتية حركات المجدفين بالتصفيق، ويجثم الملاحون فوق الكوثل، أو يمشون فوق سطح المركب يصدرون أوامرهم، ويرسمون خطة السير الضرورية للانزلاق بين هذه الكثرة المربكة من الزوارق، وبرغم الاحتراس كانت الزوارق تصطدم أحياناً هذه الآلاف من السفن المطلي أغلبها باللون الأبيض، والمزخرفة بزينة خضراء وزرقاء وحمراء، والمحملة بالرجال والنساء اللابسات ملابس من ألوان شتى أخفت سطح النيل تماما في أماكن كثيرة، وأظهرت تحت الأشعة الساطعة لشمس مصر منظراً ساطعاً باهرا في حركته، وكان الماء المتحرك بكل قوته يضئ ويبرق كأنه فضة خالصة، أو شمس كسرت آلاف الأجزاء لقد كانت الزوارق ثقيلة بمن عليها وأبراجها مليئة بالعابرين، وفوق سطحها يجلس الرجال والنساء والأطفال متربعين، تلك الجلسة العزيزة لدى الشعب المصري.
ولدى رؤيتهم يخيل إلى المرء أنهم قضاة أوزيريس، لولا أن منظرهم لا يدل على التأمل، وهو سمة قضاة الموت، بل على العكس يشعر بأقصى ما يكون من السرور في الحق أن فرعون عاد منتصراً، يقود معه عدداً ضخما من الأسرى؛ فطيبة غارقة في السرور، وشعبها قد خرج بأجمعه إلى المحبوب أمون رع رب التيجان، مدبر المملكة الطاهرة، القدير على كل شئ إله الشمس، منظم شئون العالم على الجانب الغربيّ للنهر، لم يكن الازدحام أقل شدة من الشاطئ الشرقي، وقد جاء سكان أحياء ممنون والقرى المجاورة، وفي كل لحظة تحمل الزوارق أناساً جدّوا ترسو بهم فوق الأرصفة فتزيد كثافة الجمهور، بينما العربات التي لا تعدّ تشقّ طريقها إلى ميدان العرض، وتضئ عجلاتها كأنها شموس بين الغبار الذهبي الذي تثيره.
لقد صارت طيبة في هذه اللحظة خراباً، كما لو أن فاتحاً قاد شعبها أسيراً والمنظر، مع ذلك، جدير بأن يصوّر، ففي وسط الخضرة اليانعة التي ينهض فيها النخيل بتيجانه، تبدو الألوان الزاهية للمتنزّهات والقصور وخيام الصيف محاطة بأشجار الجمّيز، و (الست المستحية)، وكثير من أحواض المياه يضئ في الشمس، والدوالي تشتبك محاليقها في عرائش مقوّسة، وفي النهاية يبدو شبح قصر رمسيس بأبراجه الهائلة، وجدرانه الضخمة، وصواريه المذهبة المزخرفة، ترفرف فوقها الرايات في الهواء، وأبعد من ذلك إلى الشمال يبدو التمثالان الضخمان الجالسان على عرشهما في وضع خالد لا يتأثر، وكأنهما جبل صخريّ ذو شكل إنساني يقوم أمام مدخل معبد أمينوفيس، ويتراءى في لون ناصل الرمسيوم الذي يبعد قليلاً، والمقبرة الوحيدة للكاهن الأكبر، ولكننا من أحد الجوانب نستطيع أن نرى قصر منفتاح. (يتبع) أحمد أحمد بدوي مدرس بحلوان الثانوية للبنين

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١