أرشيف المقالات

في الإصلاح الاجتماعي

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 أمر عسكري.
لو كانت الأوامر العسكرية كلها من نوع الأمر العسكري بردم البرك والمستنقعات لتمنينا أن نظل على هذا النظام دهرا طويلا.
ذلك أن هذا الأمر وما يشبهه من الأمر بعقوبة من يفطر جهرا في شهر رمضان، أو من يبيع خمراً في يوم مقدس، إنما هو نفحة من نفحات الحكم العمري الذي لا ينهض الشرق بغيره والعلة في أن نهوضنا منوط بهذا الضرب من الحكم، أننا مصابون بالقصور الذاتي في الخير والشر، فلا نأتمر بالمعروف إلا بدافع، ولا ننتهي عن المنكر إلا برادع.
وأظهر أعراض هذا الركود النفسي فينا أننا نقول ولا نفعل، ونسمع ولا نطيع، ونعكف على ما ورثنا نعبده ولا نجدده، ونجمد على ما كسبنا لا نغيره ولا نزيده! كم وزارة فكرت في ردم المستنقعات والبرك! وكم لجنة ألفت لتحقيق هذه الفكرة! وكم مشروع وضع لتنفيذ هذا التحقيق! وأخيراً صدر على الرغم من تسويف اللجان، ومعارضة الإهمال والنسيان، قانون؛ واقتضى ذلك القانون أن تنشأ وظائف، ويحدد اختصاص، ويقرر تفتيش، ويسجل إحصاء.
ولكن القانون يظل كلاما حتى ينفذ.
والتنفيذ عمل من الأعمال يحتاج إلى إرادة؛ والمريض بالقصور الذاتي لا يريد ولا يملك أن يريد صدر قانون بردم البرك منذ عشر سنين فقال الناس: جفت موارد الموت، وعفت مواطن البعوض، وبادت جراثيم الملاريا، وان للفلاح المسكين أن يحس العافية.
ولكن القانون العادي رحب البال، يقبل العذر ويأخذ الأمور بالملاينة؛ فالبركة الفلانية يملكها الباشا فلان، فهو يرجو من القانون أن يؤجله إلى يوم القدرة.
والبركة العلانية يملكها الأمير علان، فهو يطلب إلى القانون أن يمهله حتى تنقضي العسرة.
والقرويون الذين هدتهم الحمى ووضع لإنقاذهم هذا القانون تقابل عرائضهم بالإعراض، وتدفع مطالبهم بالاعتراض، وتعلل شفاعتهم بالمطل أنا من أهل قرية وصفتها من قبل لقراء الرسالة بأنها جزيرة من الأكواخ والحظائر في وسط مستنقع محيط من مصافي المزارع، نمت على أسنة وعفنة جراثيم الأمراض المتوطنة، فجعلت كل وجه في صفار الخوف، وكل جسم في هزال الجوع، وكل حي في همود الموت.
وعلى هذه الحال الشديد قطعت مراحل عمرها الماضي لا يزهر فيها شباب، ولا تثمر بها كهولة.
لذلك لم نكد نسمع بصدور هذا القانون حتى رفعنا أصوات الاستغاثة، فأغاثتنا الوزارة المختصة بالمفتش وراء المفتش، والتقرير عقب التقرير، والوعد بعد الوعد؛ ثم وقفت عند ذلك فلا تجيب عن سؤال، ولا تصيخ لشكوى حال؛ لأن ما تستطيعه قامت به، وكل ما تستطيعه لا يعدو القول والكتابة.
ثم تعاقب وزراء الصحة على هذا القانون وهو كلمات ميتة فلم يبعثوا فيه الحياة؛ ومضوا على المنهج المألوف من كفاح المرض بالتقارير والأرقام حتى اّكتظت القرى والقبور بضحايا البلهارسيا والأنكلستوما والملاريا والطحال على الرغم من المستشفيات المنشأة على آخر طراز، والمعامل المجهزة بأحدث جهاز، والصيدليات المزودة بأندر الأدوية.
ففكر الناس وأطالوا التفكير، ثم سألوا وأكثروا السؤال: هل في مصر وزارة للصحة؟ وهل في وزارة الصحة أطباء؟ وهل لأطباء الصحة ضمائر؟ وكان الجواب عن هذه الأسئلة السكوت المريب، حتى تولى وزارة الصحة وزيرها القائم فكان هو الجواب القاطع وإلا يجاب الصريح. أثبت بالفعل هذا الرجل العظيم أن في مصر وزارة للصحة فيها أطباء أكفاء ينهضون إذا نبهوا، ويعملون إذا وجهوا؛ وأن المنصب الذي كان مكتبا ومرتبا وأبهة، يستطيع أن يكون أعظم القوى وأفعلها في الإصلاح الاجتماعي بمكافحة المرض، وهو شر بلايانا الثلاث.
ومن كان يعرف ما فعله وهو مشرف على صحة القاهرة، كان يتوقع ما فعله وهو قائم على وزارة الصحة. ولعل أظهر المزايا في هذا الرجل النشيط العامل قوة العزم وسرعة التنفيذ.
لذلك أعرض عن قانون ردم البرك واستصدر هذا الأمر العسكري الموفق، فلم يكد يمضي على صدوره عشرة أيام، حتى فعل ما لم يفعله ذلك القانون العادي في عشرة أعوام؛ إذ أدخل في ملك الحكومة البرك التي خنست همم أصحابها عن التعهد بردمها قبل الأجل المحدد، ومساحتها 4050 فدان ستردمها مصلحة الشؤون القروية، ثم تستغلها بالتأجير أو تصرفها بالبيع.
أما البرك التي تعهد أصحابها بردمها وهي 1500 فدان فقد جعل لهؤلاء أطول الأجلين ستة أشهر ينتهي الردم قبل انتهائها وإلا أخذهم القضاء العسكري بالعقاب الشديد.
وبذلك يقضى بانقضاء هذا الأجل على مصدر من مصادر الهلك انفجر على مصر بالعلل والأسقام منذ جرى بين صحراويها النيل. إن الحكم العسكري فرصة مؤاتية لوزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية يحسن بهما انتهازها لمعالجة الإصلاح الاجتماعي بأسرع الوسائل وأقرب الطرق.
وإن في مصر من باطل العادات وفاسد الاعتقادات ما لا يمحوه إلا صرامة هذا الحكم.
وفي خبرة الوزيرين الجليلين ولقانتهما ما يغني عن ضرب الأمثال.
والإصلاح الناجع قبل هذا وبعد هذا يثمر لا كلام يقال. أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣