أرشيف المقالات

تحية الأزهر في عيده

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ محمد محمد المدني (مرت بالأزهر في هذا الأسبوع ذكرى فريدة، لم يسجلها التاريخ لجامعة سواه: أتم ألف عام من عمره المبارك في اليوم السابع من هذا الشهر الكريم (رمضان سنة 1361هـ)، وقد أثارت هذا الذكرى في نفس الكاتب ألواناً من المعاني رأى أن يسجل بعضها في هذا الكتاب ويجعله تحية العيد) أيها الشيخ الوقور: يرفع هذا الكتاب إلى مقامك العظيم - في أدب واحترام، وإكبار وإجلال - واحد من أبنائك أنعم الله عليه وأنعمت عليه، إذ بسطت له جناحك غلاماً، وتعهدته برعايتك ناشئاً، ومددت له من ظلالك كهلاً، فأنت مولاه ذو الطول عليه، وهو غرسك وسقيك وثمرتك.
يحبك ويحسب لفرط حبه أنه أبر الناس بك، وأوفاهم لعهدك، ويغار عليك فيحمل نفسه ما حملته وما لم تحمله من أعبائك، ويرى حقاً عليه أن يشاطرك - بروحه وقلبه وقلمه - أفراحك وأحزانك، فيشيد بأيامك، ويرثي لآلامك، ويكافح عنك، ويسهر الليالي ضنياً بك، مفكراً فيك، يود لو يمتد به العمر حتى يراك وقد عاد لك سابق مجدك، واجتمع إليك ما تفرق من أمرك! واليوم، وهذه ذكرى من ذكرياتك المجيدة، يقف هذا الابن البار بين يديك خاشعاً مطرقاً، يفضي حياء من مهابتك، وينحني إجلالاً لماضيك، ويزجي إليك التهنئة فخوراً بك، ويحي فيك مهد العلم، ومهبط الحكمة، ومنبت الأدب، وحصن الدين واللغة، ومطلع الكواكب اللامعة من سماء مصر ينبعث بها النور في الشرق والغرب يفيد منه أصدقاؤك وأعداؤك، ويهتدي به من آمن بك ومن صد عنك! هذا عيدك الألفي الفريد، ذكرى لم تعرف مثلها الدنيا، ولم يشهد مثلها الناس: ألف عام تقف من البشرية الحيرى موقف الرسل الهداة، تحمل على الجهل وتبدد ظلامه، وتنصر العلم وتحمي أعلامه ألف عام تغالب الأهواء والنزعات، وتختلف عليك الدول والنظم والسياسات، ويبتسم لك الدهر حيناً، ويعبس في وجهك أحيانا؛ ومرة تحتضن فأنت العزيز المقرب، وأخرى تضطهد فأنت الشريد المطرح، ولكنك في جميع أحوالك ثابت كالطود الشامخ، تتكسر السهام حواليك، وتتفرق الأعاصير على جانبيك أنت تلقيت ميراث الإسلام يوم خلت الأرض كلها ممن يتلقى هذا الميراث الكريم.
تلقيته فصنته، وحفظت أمانته، ورعيت حقه، ووقفت دون العبث به والكيد له: هذا كتاب الله بين يديك: تتلى آياته، وتجوَّد لهجاته، وتروى قراءاته، وتفسر معانيه، وتستنبط أحكامه، وتدرس أسراره! وهذه هي السنة المطهرة قد أينعت بك ثماراً، وتباركت آثاراً، وزكت أصولاً وفروعاً! وإليك صار علم المدينة، وفقه العراق، ونحو البصرة، وأدب الكوفة، وتصنيف بغداد، وفن قرطبة، وما كان من فلسفة المتفلسفة، وكلام المتكلمة، ونزعات المتصوفة! وبك وقى الله المسلمين عوادي الفتن، فلم ترُج عندك شبهة، ولم تدخل عليك نحلة، ولم تخدع عن عقيدة، ولم تستدرج إلى الهوى، ولم يطمع فيك من المبطلين طامع! أنت حملت شعلة العلم عالية السناء، وهاجة الضياء، حين كان العالم في أكثر بقاع الأرض سابحاً في الأوهام ألف عام! ياله من ماض طويل، في جهاد نبيل! فما لي إذن أراك وقد انفردت في موقفك يوم عيدك الفريد؟ أين مهرجانك؟ أين مهنئوك؟ أين الوفود تفد إليك من الشرق والغرب لتجعل على مفرقك التاج؟ أين المستشرقون المستعربون ليضفروا لك أكاليل الغار؟ أين كتابك؟ أين شعراؤك؟ بل أين (لجانك) التي ألفوها لهذا العيد تحضر له، وتخط برنامجه، وترتب نظامه؟ أباقية هي؟ فأين أعمالها؟ أم حلت؟ فمن ذا الذي أشار بحلها؟ أم أدركها (داء اللجان) من قبلها ومن بعدها فقضى عليها في مهدها؟! أيها المعهد العتيق: لقد ختمت بأمس ألفاً، وبدأت اليوم ألفاً، ولكن ما أبعد الفرق بين أمسك ويومك: كأني أرى حلقاتك العلمية تحفها السكينة، ويزينها الوقار! عرفتها قبل أن تعرف أوربا نظام المدرجات الجامعية، وأجريت فيها العقل على سجيته حراً كما خلقه الله، نافذاً كما يجب أن يكون: يقول الشيخ ما يريد أن يقول، ويناقش الطالب ما يرى أن يناقش، وتجلى الغوامض على هينة، وتحل العقد في صبر وتؤدة، لا وقت يعجلهم، ولا شغل يشغلهم، ولا رقيب عليهم إلا من ضمائرهم! فأين منك اليوم هذا المجالس العلمية الجادة؟ لقد أبدلك الزمان منها فصولاً دراسية متفرقة على نظم مقلدة غر أولياءك ظاهرها الجميل فاكتفوا به، وتغافلوا عما وراءه، ولو فتشوا عن العلم في هذه الفصول المبعثرة لما وجدوا إلا ألفاظاً وكلمات تلاك ولا تستساغ، وأطرافاً من أوائل الكتب ومقدمات العلوم تمس مساً ما رفيقاً في كل عام! كأني أرى علماءك الأولين، وقد عكفوا على المكتبة العربية يدرسون نوادرها، ويقلبون صحفها، ويكشفون عن أسرارها، ويشتارون للناس جناها، ويعتصرون من ثمارها وثمارهم شراباً صافياً سائغاً للشاربين! فأين من هؤلاء علماؤك الحاضرون، وقد ذكروا أنفسهم ونسوك، واشتغلوا بشئونهم وتركوك؟ أليسوا إلى اليوم عالة على كتبك التي ألفها سلفهم الناشط، لولاها لضلوا في البحث والدرس سواء السبيل؟ بلى، وإن أحدهم على ذلك لو ألف كتاباً أو نشر بحثاً لتجدنه يملأ الدنيا صياحاً، وينفخ أوداجه كبراً، ويحسب أنه أتى بما لم يأت به أحد من الأولين والآخرين! ما أبعد الفرق - أيها المعهد العتيق - بين يومك وأمسك! لقد كان طلابك مُثلاً عُليا في الجد والإقبال علي العلم، ينقطعون إليك، ويؤثرونك على أوطانهم وأهليهم، ويرتشفون من مناهل علمك، ويغترفون من بحار فضلك، تدفعهم الرغبة المخلصة، وتغريهم اللذة العلمية، وكانوا مثلاً عليا في الخلق والاستقامة وحسن الطاعة، لا يشارون ولا يمارون، ولا يصيحون ولا يصخبون، ويخفضون رءوسهم لأساتذتهم متأدبين، ويستمعون إلى رؤسائهم طائعين، أما اليوم فقد جرأهم الأساتذة ولحظهم الرؤساء، وشغلتهم عن العلم المطالب والرغاب، وأصبحوا لا يعملون إلا لاجتياز عقبة الامتحان: يسألون في ورقات معدودات دورين من لم يفز في أولهما كان في الآخر من الفائزين! أيها المعهد العتيق لقد كان الشعب كله: أغنياؤه وفقراؤه، حكامه ومحكوموه، ريفه وحضره، ينظرون إليك نظرة الإجلال والإكبار، ويرفعونك إلى مرتبة التقديس، ويمنحون أساتذتك ألقاب التكريم، وأوصاف التعظيم: فهم (العلماء) من بين أهل العلم أجمعين، وهم (أصحاب الفضيلة) من بين سائر الفاضلين، وهم أعلام التقى، ومثل الهدى، وأهل الرأي، وقادة الفكر، وحماة الدين، ورعاة الخلق! وكان (رجل الدين) إذا أهل بطلعته على أهل حي عظموه وأجلوه، والتمسوا بركته، ورجوا خيره.
وكان إذا تكلم في قوم أصغوا إلى ما يقول في خشوع وخضوع: أمره الأمر، وحكمه الحكم، ورأيه في المعضلات هو الرأي! أما اليوم فأنت ورجالك على هامش الحياة: أنت سليب حريب.
نقصوا أطرافك وعدوا على اختصاصك، واستباحوا حماك، وأغروا بك المنافسين، يمدونهم بالمال والمناصب، ويؤيدونهم بالجاه والسلطان، ويحاسبونك على النقير والقطمير، بينما يكيلون لغيرك بالشمال وباليمين! ورجالك! وا لهف نفسي على رجالك! لقد احتواهم المجتمع، ونكرهم الناس، وهانوا حتى على أنفسهم، وفقدوا أو كادوا يفقدون مجدهم القديم، وكأني بهم الآن يقفون وراء الصفوف في معترك هذه الحياة، ينظرون بعيون كسيرة، وقد وضعوا أيديهم على قلوبهم، واحتبسوا أنفاسهم في صدورهم، خائفين وجلين لا يدرون متى تعصف العاصفة أو ترجف الراجفة! أيها الأزهر: بين ماضيك وحاضرك! أحدهما يثير الفخر والإعجاب، والآخر يثير الهم والاكتئاب! وإني مع ذلك أهنئك بالعيد، ولا أحب لك أن تيأس (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً) وإن الله الذي رفع لك ذكرك، سيضع عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك.
سلام عليك في الأولين، وسلام عليك في الآخرين! ابنك البار محمد محمد المدني المدرس بكلية الشريعة

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢