صلاة الجماعة .. تنبيهات فقهية (3)
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
صلاة الجماعة.. تنبيهات فقهية (3)
صلاة الجماعة من الشعائر التي تنطوي على حسنات جزيلة، ومعانٍ عظيمة، وحِكَمٍ ربانية جليلة، ويكفي أن حاضري المسجد ضيوف الرحمن، فضلاً عن توكيد أواصر المحبة والتآلف بين المسلمين، وترسيخ معاني الوَحدة والتآزر، ولذا وجَب الاهتمام بفقهها، والعناية بآدابها عِلمًا وعملاً، ومن هذا المنطلَق رأيت أن أَقتطِف من البحوث الفقهية بعض الدُّرر والتنبيهات النادرة التي ربما لا يتفطَّن لها البعض، سائلاً المولى - عز وجل - النفع والمثوبة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال أبو داود: سمِعت أحمد - رحمه الله - سئل عن إمام، قال: أصلَّى بكم رمضان بكذا وكذا درهمًا؟ قال: أسأل الله العافية، مَن يُصلي خلف هذا؟
وروي عنه أنه قال: "لا تصلوا خلف من لا يؤدي الزكاة، وقال: لا تصلِّ خلف من يُشارِط، ولا بأس أن يدفعوا إليه من غير شرط".
قال ابن قدامة - رحمه الله -: "إذا صلَّى الإمام بالجماعة مُحدِثًا، أو جُنُبًا، غير عالِم بحدثه، فلم يعلم هو ولا المأمومون، حتى فرَغوا من الصلاة - فصلاتهم صحيحة، وصلاة الإمام باطلة، روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر - رضي الله عنهم - وبه قال مالك والشافعي، وروي أن عمر - رضي الله عنه - صلى بالناس الصبح، ثم وجد في ثوبه احتلامًا، فأعاد ولم يُعيدوا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "الفتاوى الكبرى" (2/117): "وتنازَعوا فيما إذا ترك الإمام ما يَعتقِد المأموم وجوبه، مِثل أن يترك قراءة البسملة والمأموم يَعتقد وجوبها، أو يَمَس ذَكَره ولا يتوضأ، والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك، أو يصلي في جلود الميتة المدبوغة، والمأموم يرى أن الدباغ لا يَطهُر، أو يحتجِم ولا يتوضأ، والمأموم يرى الوضوء من الحجامة، والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه، وإن كان إمامه مخطئًا في نفس الأمر؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((يُصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم))، وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يَقنُت في الفجر، أو الوتر، قنت معه، سواء قنت قبل الركوع، أو بعده، وإن كان لا يقنُت، لم يقنت معه، ولو كان الإمام يرى استحبابَ شيء، والمأمومون لا يستحبونه، فترَكه لأجل الاتفاق والائتلاف: كان قد أحسن.
مثال ذلك الوتر، فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة، كالمغرب: كقول من قاله من أهل العراق.
والثاني: أنه لا يكون إلا ركعةً مفصولةً عما قبلها، كقول مَن قال ذلك من أهل الحجاز.
والثالث: أن الأمرين جائزان، كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو الصحيح، وإن كان هؤلاء يختارون فصْله عما قبله، فلو كان الإمام يرى الفصل، فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب، فوافَقهم على ذلك تأليفًا لقلوبهم كان قد أحسَنَ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: ((لولا أن قومَك حديثو عهدٍ بجاهلية لنقضَتُ الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه))، فترَك الأفضل عنده؛ لئلا يَنفُر الناس.
لا ينبغي أن يقف أحد بجانب الإمام إلا للضرورة القصوى، كما لو امتلأ المسجد، ولم يجد مكانًا إلا جنْب الإمام فلا بأس، وإذا كانوا اثنين واحتاجا إلى أن يكونا إلى جنب الإمام، فليكن أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، ولا يكونا جميعًا عن يمينه؛ لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين 54/93.
لا يعتبر مَن أدركَ مع الإمام التشهدَ الأخير من الصلاة مدرِكًا للجماعة، لكن له ثواب بقدر ما أدرك مع الإمام من الصلاة، وإنما يُعتبَر مدركًا للجماعة من أدرك مع الإمام ركعة على الأقل، والأفضل لمن فاته الركوع الأخير أن يدخل مع الإمام، ولا ينتظر فراغ الصلاة وإنشاء جماعة ثانية؛ لما رواه أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تَعُدُّوها شيئًا، ومَن أدرَك الركعة، فقد أدرَك الصلاة)).
يَحرُم البيع والشراء إذا كان في أذان صلاة الجمعة الذي يكون بعد صعود الخطيب المنبر؛ لقول الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]، أما إذا كان ذلك في سائر الصلوات: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، فلا حرج من ذلك، بشرط ألا يشغَل عن صلاة الجماعة، ويكون سببًا في تضييعها.
إذا ذهب المسلم للإصلاح بين شخصين أو جماعتين، وحضرت الصلاة، وخشي إن قام للصلاة أن يتفرَّق الجمع ولا يتم الصلح - فلا حرج عليه من تأخير صلاة الجماعة عن الجماعة الأولى، ثم يُصلي جماعةً بعد ذلك أو منفردًا إن لم يتيسّر له صلاة الجماعة، ويكون هذا عذرًا لترك صلاة الجماعة أو تأخيرها.
فقد روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن أناسًا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء، فخرج إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أناس من أصحابه يُصلِح بينهم، فحضرت الصلاة، ولم يأتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء بلال فأذَّن بلال بالصلاة، ولم يأتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء إلى أبي بكر فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حُبِس وقد حضرت الصلاة، فهل لك أن تَؤم الناس؟ فقال: نعم، إن شئتَ، فأقام الصلاة فتقدَّم أبو بكر...
وذكَر الحديث.
وإذا كانت الصلاة مما تُجمَع إلى ما بعدها، كالظهر تُجمَع إلى العصر، أو المغرب تُجمَع إلى العشاء جَمْع تأخير، فلا حرَج عليه من تأخيرها، وصلاتهما جمعًا؛ موقع الإسلام سؤال وجواب، فتوى (153812).
قال الشيخ ابن عثيمين: الذي يظهر لي من صنيع الصحابة - رضي الله عنهم - أن المسبوق لا يتَّخِذ سُترة، وأنه يَقضي بلا سترة؛ لقاء الباب المفتوح (232/30).
الصحيح أن المحاذاة في الصفوف تكون بالمناكب والأقدام؛ فقد روى البخاري من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أقيموا صفوفَكم؛ فإني أراكم من وراء ظهري))، قال أنس: "وكان أحدنا يُلزِق مِنكبَه بمنكب صاحبه، وقدَمه بقدمه"، وقد بوَّب عليه البخاري - رحمه الله - بقوله: "باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم"، وقال: قال النعمان بن بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه؛ موقع الإسلام سؤال وجواب 6238.
سئل الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: إذا دخلت المسجد والمؤذن يؤذّن، فهل الأَوْلى أن أصلي تحية المسجد أو أتابِع المؤذن؟
فأجاب: هذا فيه تفصيل، إذا دخلت والمؤذن يؤذن لصلاة الجمعة، الأذان الذي بين يدي الخطيب، فهاهنا نقول: بادر بتحية المسجد، ولا تنتظِر انتهاء المؤذن؛ لأن تفرُّغك لسماع الخُطبة أَوْلى من متابعتِك للمؤذن؛ حيث إن استماع الخُطبة واجب، وإجابة المؤذن غير واجبة.
وأما إذا كان الأذان لغير ذلك - يعني: لغير صلاة الجمعة - فالأفضل أن تبقى قائمًا حتى تُجيب المؤذن، وتدعو بالدعاء المعروف بعد الأذان: ((اللهم صلِّ على محمد، اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تُخلِف الميعاد))، ثم بعد ذلك تأتي بتحية المسجد؛ فتاوى ابن عثيمين (14/295).
مَن ترَك ركنًا من الركعة الأخيرة، ولم يعلم إلا بعد التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة، وهو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - وقد اختار هذا القول الشيخ ابن باز - رحمه الله - فإنه سئل عن إمام نسي السجدةَ الأخيرة من صلاة العصر، فقام وصلى ركعة كاملة، وتشهَّد وسلَّم ثم سجد للسهو، فقال: "هذا هو المشروع، إذا نسي الإمام سجدةً، وسلَّم ثم ذكّر أو نُبِّه، يقوم ويأتي بركعة، ثم يُكمِل ثم يُسلِّم، ثم يسجد سجود السهو بعد السلام وهو أفضل، وهكذا المنفرد حُكمه حُكمه، وإن سجد للسهو قبل السلام فلا بأس؛ ولكن بعده أفضل؛ مجموع فتاوى ابن باز (11/277).
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يَلزَمه الإتيان بركعة كاملة، وإنما يأتي بالركن الذي نَسيه وبما بعده، وهو مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - وقد اختاره الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله؛ موقع الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم: 47627.
قال الشيخ ابن عثيمين: "لا تَبطُل صلاة المأموم ببُطلان صلاة الإمام؛ لأن صلاة المأموم صحيحه، والأصل بقاء الصحة، ولا يمكن أن تَبطُل إلا بدليلٍ صحيح، فالإمام بَطَلت صلاته بمقتضى الدليل الصحيح، ولكن المأموم دخل بأمر الله، فلا يمكن أن تَفسَد صلاته إلا بأمر الله، والقاعدة: أن مَن دخل في عبادة حسَب ما أُمِر به، فإننا لا نُبطِلها إلا بدليل، ويستثنى من ذلك ما يقوم به مَقام المأموم مِثل السترة، فالسترة للإمام سترة لمن خلْفه، فإذا مرَّت امرأة بين الإمام وسُترته بَطَلت صلاة الإمام وبَطَلت صلاة المأموم؛ لأن هذه السترة مشتركة، ولهذا لا نأمر المأموم أن يتَّخذ سُترة، بل لو اتخذ سترة لعُدّ مُتنطِّعًا مبتدعًا"؛ مجموع فتاوى ابن عثيمين؛ (12/450).